عرض كتاب: المائدة في التراث العربي الإسلامي للأستاذ الدكتور/ إبراهيم شبوح

عرض كتاب: المائدة في التراث العربي الإسلامي للأستاذ الدكتور/ إبراهيم شبوح

 

أشرف خيري يوسف

باحث في التاريخ والتراث المخطوط

 

بين أيدينا في هذا الشهر كتيب صغير في حجمه، نفيس في مادته، يحمل عنوان:  “المائدة في التراث العربي الإسلامي”، صادر عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، بلندن عام 1425 ه/ 2004م، يقع في  44 ص من القطع الصغير+ 42 ص ترجمة بالإنجليزية، حاول مؤلفه العلامة المعروف الأستاذ الدكتور/ إبراهيم شبوح، كما يقول: أن يضع إطارًا أوليًا لمشروع بحث، يشير إلى أهمية الاستناد  لتناول كل المعطيات البعيدة والقريبة المتصلة بثقافة الطعام وتوفير مواده، ومعرفة خواصه، ودراسة مصادره، وفلسفة تأليفه، وجمع النصوص التي قصت قصته وسجلت طرائفه وأخباره، ووصفت إعداده ومكونات أطباقه، وتقديمها طعامًا طيبًا على الموائد الحافلة. ويرى أن هذا الإطار يصنع منهجًا صعبًا ليس من اليسير متابعته، خاصًة والطعام هو سجل حياة الإنسان منذ بدء الخليقة، لا تتوقف أشكاله وأنماطه وعجائبه.

ويوضح المؤلف أن فن الطهي أو الطبخ فضلًا عن كونه مادة أنثروبولوجية لها أهميتها في تصوير وتقييم حياة الشعوب، ودال على أسلوب معاشها وتطور أساليب حياتها، فإنه يعبر تعبيرًا صادقًا ودقيقًا عن تكامل اجتماعي وحضاري يمكن الكشف عنه وراء المأكولات نفسها.

وأشار في منهجه البحثي لموضوع الطعام إلى عدة دوائراستند عليها ، نذكر منها؛ دور الزراعة أو الفلاحة المعتمدة على الأنهار والآبار، في توفير مواد التغذية، وتيسير حياة الناس، لمعرفة أصول الغذاء أو أصول المائدة، ومصنفات الطبيخ الحافلة بالمواد الزراعية التي تحدث عنها وعن مؤلفاتها كثقافة فلاحية مدونة، ومن هذه المؤلفات؛ كتاب “الفلاحة النبطية” الذي نُسبت ترجمته إلى أبو بكر أحمد بن علي بن وحشية (ق 4 ه/ 10م)، الذي جمع فيه تجارب النبط ومن تقدمهم، مع جودة التحليل والفهم ودقة تسجيل التجربة، وأيضًا كتاب ” الفلاحة” لأبي زكريا يحيى بن محمد بن العوام الإشبيلي ( ق6 ه/12م) وهو مادة مركزة على الأندلس وغرب العالم الإسلامي، ومثله “فلاحة ابن بَصَّال” أبو محمد بن إبراهيم الطليطلي (ق 5ه/11م) الذي ارتكز فيه على التجربة الشخصية لزراعة مختلف الغُروس، وأيضًا كتاب “المُقْنع في الفلاحة” لأحمد بن حجاج الإشبيلي. كذلك من الدوائر التي استند عليها في البحث، تعرضه لشبكة الاتصالات وطرق التجارة المنظمة التي تأتي بالتوابل والأبزار النادرة من شرق آسيا في مسالك بحرية وبرية معلومة، والتي تربط العالم الإسلامي ببعضه البعض، وتربط بينه وبين الأماكن الخارجة عن حدوده من خلال كتب الجغرافية التاريخية، وتشرح الإشارات المتفاوتة في البيان، وهذه التجارة  اتخذت لها جسرًا ثابتًا يمر من الهند إلى ميناء سِيراف والأُبُلة وعُمَان وعَدَن، وتنقله السفن اليمانية والعُمانية إلى ميناء عَيْذاب في البحر الأحمر، حتى يجد طريقه عبر الصحراء الشرقية لمصر، إلى مدينة قوص وإسنا ليصعد منها عبر النيل إلى القاهرة والإسكندرية، وينتشر فيما وراءهما، وقد عبر عن هذا كله الرحالة ابن جُبَيْر،محمد بن أحمد الكناني الأندلسي، وهو يصف مدينة قوص المزدحمة بالصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمانيين والهنود وتجار أرض الحبشة والحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين.  كما أشار إلى أدوات المائدة وصناعتها من صنوف الخشب والمعادن أي صناعة الأواني المعدنية والخزف خاصًة.  وأيضًا ذكرنا بكتب قوى الأغذية وطبها، وهذا المبحث فيه مؤلفات عديدة، فأصبح يمثل حالة وعي عام عند أكثر المسلمين، رغم مخالفة الكثير من محتوياته للعلم الحديث. ولما كان تفسير الأطباء المسلمين للحواس الأساسية له أهمية في تطييب الطبيخ وتذوقه، فذكرنا بها المؤلف، وتحديدًا حاستا الذوق والشم، وهنا أبرز أن الطيب كان عنصرًا هامًا وملازمًا في إعداد الغذاء بفضل الأبزار والتوابل. واتخذ من النصوص مصدرًا له، وذلك بمستوياتها الثلاثة: الأدبية والشعرية والمباشرة. وبهذا كله يرى أن يكون لهذا المنهج أهمية خاصة في درس موضوع المائدة والغذاء في العالم الإسلامي.

وفي هذا الكتيب المتفرد يخبرنا المؤلف ببعض أدبيات الطبخ، ويحيطنا علمًا بأن كل مصنفات الطبيخ تبدأ بالحديث عن نظافة الطباخ، وقص أظفاره خاصًة، وغسل يديه المتكرر، ثم غسل القدور، وأن بعضهم كان يرى ألا يُطبخ في قدر الفخار مرتين، ويرى أخرون استبدالها كل يوم أو كل خمسة أيام تحوطًا مما يعلق بها من بقايا الأكل القديم فيفسد الطبخ ويضر بالصحة، وأورد لنا مثال يدلل على ذلك من كتاب “الطبيخ”، “لابن سيار الوراق”؛ فقد طبخ أحد طباخي الملوك لأصحابه “سكباجة” – وجبة من أشهر المأكولات العربية القديمة التي وردت في كتب الطبخ، وخاصًة الأندلسية، تتكون من اللحم والخل المتبل بالبهارات – فإذا هي في غاية الحسن وطيب الرائحة، وإذا هي خلاف ما عرفوه، فسألوه عن الحال في ذلك، قال: أتُرى الطبيخ الذي يطبخ في مطبخ السلطان هو غير الألوان المعروفة، أليس غير الخل والبقل واللحم والباذنجان والقرع والزعفران وما يقع منها، وإنما المعنى فيها نظافتها ونظافة القدر، بإحكام غسلها من قبل الطبيخ ومن بعد تفريغها. ومن كتاب “الطبيخ في المغرب والأندلس” وهو لمؤلف مجهول، أورد لنا بعض ما ذكره الأندلسيون بأن “بعض الناس يقولون إن أطيب الطعام ما لم تر العين، وليس كذلك عندهم، بل أطيب الطعام ما وقع عليه الحس ورأته العين ووثقت به النفس واطمأنت إليه وعلمت حقيقته في صنعته”. وعلى النقيض كان إهمال الطباخين لشروط النظافة له تأثير أيضًا، مما دعا كثيرًا من الخلفاء والملوك أن يأمروا بأن يكون الطبخ بين أيديهم، ومنهم من دعته الضرورة إلى طبخ ما يأكله بيده حتى ألفوا الطبخ، وألّفوا في ذلك كتبًا كثيرة، ومنهم أحمد بن المعتصم، وإبراهيم بن المهدي، ويحيى بن خالد، والمعتمد، وعبد الله بن طلحة، ثم أناس من بعد هؤلاء، من العلماء والحكماء والكتاب والوزراء وخواص الناس.

وقد وصل الأمر بالبعض أن يشترط على الطباخين وغيرهم عند تهيئة الأوان: كالزيتون والمري، ألا يباشروا عملها وهم جُنُب، من هؤلاء ابن رُزين التُّجيبي، صاحب “فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان” وذلك مزيدًا في التقوى وتحوطًا من الأوساخ. وكانت النظافة عندهم من شروط أدب المؤاكلة – كما حث عليها الإسلام – فتُغسل اليد قبل الطعام وبعده، لدرجة أن أحدهم بالغ في هذا وكان يبطيء في غسل يده ويقول: حكم اليد أن يكون زمان غسلها بمقدار زمان أكلها.

ولم يُترك أمر الطبخ دون رقابة، فكانت الحِسْبة، وهي الرقابة الرسمية على الأكل وموادّه، تشمل الكشف عن المطبخ وأدواته، فاستحسنوا أن تخزن الأبزار المدقوقة في براني الزجاج، ووضعوا للمطبخ قواعد حتى لا يؤثر الدخان في طعوم الأطباق، فحددوا أن يكون الموقد مستطيلاً  للتمكن من النار فيه، ولتكن فيه منافس لخروج الدخان ودخول الريح، وأجود ما كان في نصف قامة الإنسان. ويشير إلى أن كتب الطبيخ لا تعبرعن العصر الذي جمعت فيه فحسب، بل هي حصيلة تقاليد سابقة ومستمرة، قد يدركها التطوير والتجديد، وانتقاء المفردات المكونة بحيث تنقص أو تزيد، ولكنها من حيث هي، فإنها عريقة ومستمرة، وبعضها لا يزال على تفاصيله وتراكيبه إلى اليوم.

ويؤكد المؤلف أن العواصم وأماكن الحكم التي تتركز بها الثروة كانت تتمتع بميزات خاصة في تلقي المؤثرات وجديد المواد الغذائية، مقرونة بوصفات تركيبها بواسطة انتقال الإنسان إليها من أقاليم ومدن أخرى، وهذا المعيار هو حقيقي في تفسير التنوع في أغذية المدن، ولا شك أن مدينة مكة التي تُنسب إليها البرام المكية بسبب جودتها، كانت أكبر مركز لهذا التنوع الغذائي، بما يرد إليها من أصناف الناس والشعوب المختلفة، وكلٌ يرد بعاداته وأساليب حياته، فيُبْقي من ذلك أثرًا ولا شك؛ ومن خلال تلك الآثار يمكن أن نقف على شبكة التداخل والتلاقح التي تربط العالم الإسلامي وتشده إلى بعضه.

وأخيرًا يصدقنا المؤلف القول بأن مشروع هذا البحث يظل مفتقرًا إلى تحديد الأزمنة والأمكنة وبحث أوضاعها الغذائية، مرورًا بكل أصنافها الاجتماعية من أهل المدن بطبقاتها المختلفة المتصاعدة، وأهل القرى التي بها أسواق، وأهل القرى التي ليس بها أسواق، وأهل العمود، وسكان الصحارى والواحات. ويؤكد لنا المؤلف بأن منهج هذا البحث صعب كما أسلف، وغاية ما حققه هو أنه وضع إطارًا أوليًا لمشروع بحث، يمكن مواصلة استكماله كلما توافرت المادة الوثائقية عن ذلك.

وهكذا تزخر حضاراتنا بما لا يتوافر لغيرها من الحضارات والأمم الأخرى، من تنوع وثراء في الموضوعات والمؤلفات التي طالت كافة مناحي الحياة، لتدلل على أنها حضارة راقية زاهية تهتم بالعلم والتحضروالنظافة والذوق والرقة ليس في الأطعمة وحسب، بل وفي الألبسة والحلي والغسولات وغير ذلك، ولذا يجب علينا التعرف على تراثنا الذي لم نتعرف إلا على نسبة ضيئلة جدًا منه، وخاصة في مجال العلوم الطبيعية وتطبيقاتها، وذلك مع ضرورة الانفتاح على الأخرين وعلومهم في ضوء التفاعل مع تراثنا والارتباط به، لأن الأمة بدون جذر لن يكن لها سيقان تقف عليها وبالتالي لم تجد ثمار تجنيها، فتقتات على الأخرين وهي قادرة على إنتاج الثمار.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: