عندما ينزف التوليب لحبيبة رحّال .. القص الشارح في رواية الوباء

دكتور سيد محمد السيد

الوباء ظاهرة تفرض نفسها على الحواس والذهن والحدس فتضع أمام الإدراك قضية وجودية متشابكة المحاور، إن الوباء ينسج سردية محيطة بالذات – سواء أكانت فردية أم جمعية – تنطلق سرديته في خطاب فيروسي يتكاثر مقتحما حاسوبات المبدعين والمبدعات بعد أن شغل حياتهم، فأشعل قلقهم موجها عقولهم لمعالجة سؤال المصير.
إن الخطاب الوبائي ينطلق في الأثير إلى منطقة الإبداع بكل ما فيها من تقنيات، ولا يقتصر الوباء على كونه موضوعا يتناوله المبدعون فقط إنما هو نسق يحتل الرؤى والأساليب، فيظهر في التصوّرات الدرامية التي تعكس ملامح الواقع، والنماذج السردية التي تتشكّل فيها الشخصيات، فضلا عن سيطرة المعجم الوبائي على لغة النصوص، وتمدد الصور الوبائية في ألوان المجاز.
تعالج رواية “عندما ينزف التوليب” لحبيبة رحّال قضية الإبداع في السياق الوبائي الذي فرض نفسه على العالم، ويأتي توظيف نص حبيبة لتقنية لقص الشارح خطا محوريا للبنية الروائية، أي أن الكاتبة تتحدث في نصها السردي عن عملية الكتابة نفسها، عن هموم مبدعة في زمن الوباء، من خلال شخصية مؤلفة نسوية متخيّلة تحاول أن تكتب روايتها في ليل داخلي أغلق عليها غرفتها، ونهار خارجي يخيم عليه الظلام والفراغ.
من هذا المنطلق يتلقى القارئ “عندما ينزف التوليب” بوصفها رواية عن التأليف الروائي من منظور نسوي، رواية تواجه مبدعتها بها تلك الظاهرة الكئيبة التي فرضت العتمة على الحياة مثلما تفرض الحروب اللون الأزرق الداكن على النوافذ التي تتنفس خلفها مصابيح خافتة، كما كتب عن الحرب حنا مينه في “المصابيح الزرق” وعادل عصمت في “أيام النوافذ الزرقاء”.
لم تذكر رواية حبيبة رحّال كلمة “كورونا” إنما اتخذت كلمة الوباء علامة إشارية لتنطلق الأجواء من الخاص إلى العام، مع احتفاظ الوصف بأعراض “كورونا” بل تتحوّل تلك الأعراض إلى طريقة تعبيرية تصف أحوال الشخصية المحورية في بنية تعلن سيطرة المرجعية الوبائية لفيروس “كورونا” على الأجواء الشعورية لكاتبة الراوية الافتراضية – الرواية داخل الرواية الإطار – إن أعراض الوباء التي تسبب الاختناق نتيجة انتشار الفيروس في الهواء، ودخوله إلى الجسد البشري هي نفسها أعراض الاغتراب التي تشعر بها الراوية التي تسكن ضاحية لا تعرف فيها أحدا، ولا توجد علاقات تواصل بينها وبين أقرب جيرانها وهم من المهاجرين، في عصر يكرس للشتات في كثير من بقاع الدنيا.
في هذا السياق الانعزالي الذي تأطّر لينتج أساليب الحياة في المدينة المعاصرة، مثل فيروس يفرض العزلة على الآخرين، ويصيبهم بالهلع من الاختلاط، ينتشر سلوك الثقافة الرقمية في الاستهلاك اليومي، وتحيط الذات نفسها بمادة ضخمة من الإنتاج الرقمي الذي تعرضه المنصّات العالمية، وتوفّر الرواية لمطالعها، فضلا عن الباحثين في النقد الأدبي وتحليل الخطاب، والدراسات الإعلامية، وعلم الاجتماع، قائمة طويلة من الأطعمة والمشروبات والأفلام والمسلسلات والروايات والفنانين العالميين والألفاظ الأجنبية الشرقية والغربية، والعبارات التداولية بلغات مختلفة، واللوحات الفنية والمصطلحات الثقافية والأماكن وسلالات الكلاب وأنواع الزهور، والإشارات التاريخية لعلاقة الزهور بأوبئة عالمية مثل حالة التوليب في هولندا قبل الطاعون، لربط العنوان بالوباء، فنزيف التوليب نوع من المشاركة الكونية في المأساة التي عصفت بالإنسانية، وتتعرض المؤلفة لكثير من الإشارات الثقافية بالشرح في الهوامش محققة النسق الإبداعي للبحث العلمي في الخطاب السردي الإبداعي، وهذا النموذج التأليفي تستمده حبيبة رحّال من شخصيتها العلمية بوصفها باحثة في مجال اللسانيات.
وتتخذ الكاتبة تلك الزهرة، التي تتشرّب أوراقها الرقيقة حمرة مماثلة للدم الجاري في الشرايين، رمزا للنزيف الروحي البشري الذي يرثي الأحبة والأوقات والأمنيات، وإن جاء النزيف في الرواية إبداعا متعدد الأشكال، فهو سردي من صوت “زهرة” وتصويري تسجيلي من عين “هنا” ونحتا تشكيليا من أنامل “روزا”.
هذا العالم الرمزي الذي تتعايش فيه المفردات المستوردة من أسواق الثقافات كافة لم يمنح البشر سوى المزيد من الحصار الاغترابي يوازي العزلة الوبائية، ومثلما يتشارك البشر في الوباء يتشاركون في أشكال الاستهلاك الغذائي والجمالي أيضا، فالمشاركة الاستهلاكية لا تحقق الانتماء بين أفراد الأسرة الإنسانية عبر القارات، ولا تشبع سوى لحظات جوع جسدي، وتظل الأرواح بعيدة، شاردة في وهج الشمس، ومتصلّبة في جمود الجليد، فالسقف الفكري الضيق في العالم المعاصر يطبق على السياقات الثقافية عازلا العقول عن التفاهم الذي يرسّخ القبول دون مغالاة في التعالي الواهم الذي يفرض نسقا واحدا على السلوك من خلال أطر استنزاف الاقتصاد، وتعي الكاتبة هذا وتنتقد النمط الرأسمالي العولمي المحفّز للإشباع البيولوجي، مع ممارسة الشخصيات لهذا النمط بوصفه علامة سيطرة تخدم فيها الفنون إعلانات تنميط السلوك في تحالف يدمج الجمالي بالاقتصادي، ومع ازدياد النهم الاستهلاكي تتسع الهوة بين الإسراف في إتاحة متطلبات المادة والإحجام عن الارتفاع بسقف الأفكار التي يمكن أن ترتقي بالحياة العقلية والوجدانية.
تتخذ رواية “عندما ينزف التوليب” لحبيبة رحّال من متوالية التوالد الوبائي للفيروس نسقا دراميا لبنيتها القصصية، أي للشخصيات والأحداث والأماكن (الفضاءات).
تبدأ الرواية من نقطة التقاء شخصيتين غريبتين في تصادم تتناثر فيه زهور التوليب التي كانت مرثية وداع لذكرى حبيب، الشخصيتان كانتا محض خيال في رواية افتراضية، لم تعرف إحداهما الآخرى إلا في لقاءات عابرة، مثلما يعيش البشر في الأجواء الاغترابية التي لا توفّر لها التعارف الشعوري الذي يقيم الأواصر الروحية بينها، لكنها تشترك في المصير، مثلما تشترك في الأجواء التي سيطر عليها الوباء.
تقوم رواية حبيبة رحّال على نسق درامي نابع من السياق الثقافي العالمي لزمن تأليف الرواية، نسق التوالد، نسق تكراري لشخصية مبدعة تبحث عن صيغة للعمل، وتصوغ النماذج المتعددة للحضور الإبداعي، في نسق مماثل لانتشار الفيروس وتجديده لفاعليته.
بنية الرواية داخل الرواية، أو توظيف تقنية القص الشارح، تجعل الرواية مندرجة في الفكر الحداثي بصفة عامة، بوصف تركيز المبدع على هويته أحد المحاور المهمة في الإبداع الحداثي، الذي يشمل عندنا الحداثة وما بعدها، مع الوضع في الاعتبار ثنائية اللعبة التأليفية، فمن ناحية توجد المبدعة التي تكتب روايتها في العالم الواقعي، وفي المتخيّل تقوم شخصية “زهرة” بدور كاتبة تبحث عن صيغة لروايتها فتضع بطلتها “هنا” في أجواء درامية لتقارن بين المسار الدرامي لتلك البطلة في الرواية والقيود التي تهيمن على شخصية المؤلفة الافتراضية “زهرة”، لدرجة أن “زهرة” في البداية تشعر بالأسى حين ترى درجة التشابه بينها وبين بطلتها، وفي الوقت نفسه تعاني وهي تقوم بصياغة نموذج بطلتها بين الانصياع لما تريده لها بوعيها المقيّد الزائف وما تتمناه لها بلا وعيها الحر، إلى أن تتمرّد الشخصية على الكاتبة، فترفض أن تكون نموذجا لمؤلفتها، ترفض الشخصية ان تكتفي بحياة مقيّدة، حياة تستسلم لتقاليد تفرغ الذات من طاقة التوهج، وارتياد آفاق التحقق بحرية تكتب سطور وجودها بإرادتها.
تكتشف الكاتبة داخل الرواية الافتراضية “زهرة” كم هي محاصرة ومنعزلة ومتقولبة، وأن الفيروس ليس خارجيا فقط، ولا يصيب الأجساد فحسب، بل هو داخلي متمكن من النفس والعقل، وأن الحرية الإنسانية تعاني القيود سواء أكانت تلك القيود متلازمة للوباء الطبيعي أم كامنة في الآوبئة المجازية التي تصيب المرجعية الثقافية للبشر.
وتضع تقنية القص الشارح – أمام المبدع والمتلقي معا – مرآة لتأمّل وجودهما الاغترابي في مقابل النموذج السردي الذي يقاوم اغترابه في القصة، ويستخلص القارئ من تلك التقنية أن الكتابة فعل مقاومة تبث فيها المبدعة شيئا من سعيها الروحي لعالم أقرب إلى المثالية التي نتمناها جميعا ولا نسطيع إدراكها.
ترسّخ حبيبة رحال في روايتها “عندما ينزف التوليب” بنية سردية داعمة لوحدة الفنون، فالإبداع جوهر واحد دافعيته تحقيق الذات، ومقصديته تحويل الرؤى الساكنة في المخيّلة، سواء أكانت فردية أم جماعية وهما متشابكتان في كل ألأحوال، إلى صيغة للتأمل والفهم، وتتجلى شخصية المبدعة في ثلاثة وجوه: شخصية زهرة الروائية، وشخصية هنا التي تصوّر في الشارع فتلتقي بالشخصية الثالثة روزا التي تنحت نموذجا ذكوريا يصبح ذكرى لحبيب يرحل في تكريس لبقاء الفن شاهدا على الفقد الذي يحاكي متواليات الفقد في زمن الوباء.
الشخصيات النسوية الثلاث تتخذ لها حبيبة أسماء من حقل الزهور في نسق يحقق مراعاة النظير مع العنوان، وتفسّر لنا المؤلفة في الهامش أن اسم “هنا” يعني زهرة باليابانية فتلتقي “زهرة” المصرية العربية بصورة لها من الشرق الأقصى، ثم صورة أخرى لها هي “روزا” التي تحمل معنى الاسم نفسه في ثقافة غربية.
مع كثرة الأعمال السردية التي تحدثت عن الوباء مثل ربيع الكورونا لأحمد الهادي رشراش، وألاعيب خالد مع كورونا لمحمد ولد محمد سالم، ومحاكمة كورونا لمها عبّود باعشن، تحتفظ رواية “عندما ينزف التوليب” لحبيبة رحّال بهويّة خاصة لأنها تتجاوز المباشرة، وتنطلق بالخطاب السردي لطرح قضية العلاقة بين إبداع النص وإبداع الذات في محاولة للخروج من العزلة التي تفرضها القيود النفسية على النموذج الإنساني المحاصر بالتنميط والتقليد، وتضع الرواية كاتبتها على طريق التجديد الروائي الذي يناسب طموحها، وتستطيع الكاتبة أن تتخلص من بعض السمات الأسلوبية التقليدية التي تصدر عن خبرات القراءة المتنوعة التي تشغل ذاكرة الذات المبدعة، ولاشك أن حبيبة رحّال تستطيع أن تتجاوز الرواسب الأسلوبية النمطية التي تسللت إلى لغتها الروائية، كي تتجلّى أصالة موهبتها مع ازدياد وعيها بشخصيتها الفنية في مسيرتها الإبداعية.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. استمتعنا بقراءة مقالاتك النقدية التي تعزي الفن إلى أصول، وتؤكد على ما تعلمناه من أن للنقد منهجية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: