واحة النقد ( ٧٩) – قصة سيمولوجيا لــ  د. مصطفى الضبع  قراءة سيمولوجية

واحة النقد ( ٧٩) - قصة سيمولوجيا لــ  د. مصطفى الضبع  قراءة سيمولوجية

دكتور هشام المنياوي

 

قصة قصيرة

كل الذين هبطوا من الطائرة، سارعوا للانتهاء من إجراءات الخروج، كانت الطرق مرسومة بوضوح في أذهانهم، وحدي لم أكن متعجلا، لدي قرابة عشرين ساعة ترانزيت، لم أخطط لقضائها بطريقة ما، فقط كمبيوتري المحمول ، ورواية عربية صادرة منذ شهور ، ورواية ” جسر على نهر درينا ” لإيفو أندريتش التي أقرأها للمرة التاسعة ربما ( في سفراتي أحمل روايتين ، رواية جديدة ، وأخرى قرأتها سابقا ، هو إجراء وقائي حتى إذا لم تسعفني الجديدة وكشفت سريعا عن ضعف مستواها ، أتركها في المطار ، وألجأ للرواية الثانية).

رحت أرتب أولوياتي، معتمدا على بعض التفاصيل التي أتذكرها منذ مروري في هذا المطار قبل سنوات، حصلت على ساعة للدخول المجاني على الانترنت (ماعليك سوى أن تتوجه لواحدة من الماكينات الخاصة بالخدمة، تمسح جواز سفرك فتظهر لك بيانات الدخول)، اتجهت لأقرب استراحة صالحة للنوم، تصفحت البريد وجروبات الواتس، وطمأنت زوجتي عن وصولي إلى صالة الترانزيت وأنني بعد ساعة سأنعزل عن العالم بقية اليوم حتى موعد الرحلة القادمة.

كان المكان شبه خال ، الاستراحة تتسع لقرابة الخمسين ، تناثر فيها عشرة ركاب كل منهم يغرق في عالمه الخاص .

بعد انتهاء الساعة بدأت في قراءة الرواية التي كشفت عن نفسها بعد خمس صفحات، راودني النوم، ثبت الحقيبة الصغيرة أمام المقعد ومددت عليها أقدامي وحاولت النوم.

ربما نمت بعض الوقت وربما كان ما اعتقدته مجرد مرئيات عابرة (وسيلتي لمعرفة النوم هي الأحلام التي تواتيني فور الدخول فيه).

كان قريبا جدا، حياني بحميمية كأننا على موعد، فسرت وجوده القريب رغم خلو الأمكنة بوجود مصدر للكهرباء قريب ، “عذرا إن كنت أزعجتك” ، بدا صوته هادئا مطمئنا ، ابتسمت له ، وحاولت الاسترخاء والاطمئنان بوجوده ، صمت قليلا كأنه يستعد لحديث طويل: المطارات كالنساء الـــــ….. ، ضاعت الكلمة حين تزامن نطقها مع صوت أحدهم ينادي ابنه ، بدأ صوته متهدجا قليلا وهو يكمل : تستقبلك بكل ترحاب على أمل المرور لا البقاء ، فإذا قررت البقاء قد تطردك و …. نظرت إليه مستفهما ، بدت التجاعيد على وجهه معزوفات لزمن طويل مضى ، بدا نائما أو شبه مسترخ ، راحت نظراته تستحثني على مواصلة الإنصات: عذرا لم أعرفك بنفسي ، أنا باحث في سيميولجيا العلاقات وأصولها الجينية ، ولي أبحاث دقيقة في لغة الجسم اللاإرادية ، نعم ليس هناك لغة جسم إرادية ربما نسبة ضئيلة لا تتجاوز الخمسة بالمائة ، يمكنك أن تكشف شخصية الإنسان لمجرد ملاحظته في عشر دقائق ، فقط لو تحدثت معه أو راقبت سلوكه أو حواره في مواقف.

بدا حديثه طويلا متفرعا، كنت أحاول اللحاق به أو فهم مقاصده بدقة …

“سأهديك شيئا ويمكنك أن تسجله على جوالك ، لن يستغرق أكثر من ثلاث دقائق ، هناك أربع علامات للمنافق ، وثلاث للمرأة التي تدعي شرفا لا تملكه ، وثلاث للخائن ، وعلامتان للفاسد ، وثلاث علامات للجاهل ، وعلامة واحدة لقليل الأصل الذي تسمونه ” الواطي” ، اهتد بالعلامات واستعد لاعتزال ربع البشر.

فيما كان يلقي كلماته كنت أراجع الوجوه التي أعرفها والعلاقات التي عايشتها ، تصفحت كثيرا من الوجوه سرحت بعيدا ، وحين عدت كان قد غادر مكانه .

نمت بعض الوقت ، وعدت لجسر على نهر درينا ، حتى موعد إقلاع الطائرة .

منذ وصولي أستعيد الكلمات ، أتصفح الوجوه وأراجع التفاصيل مستعدا لاعتزال نصف البشر.(قصة للدكتور  مصطفى الضبع)

…….

المسكوت عنه في هذا السرد الباهي لايقل بهاء عما أفصحت عنه، فقد  علمنا بدون أن تكتب أنك -أو البطل – في سفر معتاد ولست في رحلة عابرة وأنك تعمل في قارة غير قارتك وأنك لم تعجب بقراءة  قصتك الجديدة، التي بدأت بها طقوسك المعتادة وأنك قد اقتنعت تماما بحديث جليسك عن علم لغة الجسم اللا إرادية  ..لقد عرفنا أكثر من ذلك لأنك في سردك لم تثرثر  دون حاجة،  ولم تتاجر في المترادفات،  و كان نصك الإبداعي ذو العنوان النقدي الأكاديمي شديد التكثيف، بالغ الأثر، أحسنت الاستهلال من عمق البيئة السردية كما احسنت الخروج بمضمون معنوي عميق يوازي الحكم السطحي المباشر ، النهاية ذات الشفرات تشغل المتلقي زمنا بفكها بعد أن يسدل النص ستائره !! هشام المنياوي

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: