الوسادة الخالية تنازع الحلم واشتغال الواقع

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد

 

إحسان عبد القدوس نموذج مغاير لنجيب محفوظ، لأنه يكتب بمنطق الصحافة التي تواكب اللحظة، وتبحث عن المتلقي المتوتر بمتغيّرات السياق الاجتماعي، وتحاول الإجابة على أسئلة مطروحة ومضمرة في المرجعية الثقافية، إحسان ينتمي للتفاعل الحضاري بما فيه من ترحال واغتراب وتجدد، أمّا نجيب محفوظ فنموذج آخر، إنه ابن للأكاديمية التي حاول أن ينجز داخلها رسالة في فلسفة الجمال، ودخل عالم الكتابة من بوابة المقالات الفكرية، وتكوّنت شخصيته في إطار مرجعي يتسم بدرجة من الثبات تصل اللحظة بالتاريخ، محفوظ لا يحكم على التجربة وهي مازالت في طور النمو وموضع الاختبار، مع الوضع في الاعتبار علاقته بتلك التجربة، فهو يكتب عن ثورة 1919م في الثلاثية بعد سنوات، ويعود إلى الماضي كثيرا، وعالمه يدور من مركزية القاهرة القديمة ويبحث عن متنفسه في الإسكندرية التي عشقها، محفوظ يستقصي الموضوع بالتوازي في عالم شخصياته متجاوزا إنجاز الذات الذي يمنحه إحسان عبد القدوس مساحة مهمة في قصصه ورواياته.

الوسادة الخالية رواية قصيرة لإحسان عبد القدوس تبدأ بثلاثة شباب من المدرسة الثانوية يعانون الجوع والتعب بعد يوم رياضي استنفد طاقاتهم البدنية بنادي التجديف، ويجدون مع ثلاث فتيات مشتركات في معرض فنون نسوية طعاما يكفيهم للعودة، من حديقة الأندلس المجاورة لأرض المعارض القديمة القريبة من كوبري قصر النيل وتمثال سعد زغلول، إلى منازلهم ناحية مصر الجديدة حين كانت ضاحية في منتصف خمسينيات القرن العشرين، مع ما يعد به التعارف من علاقة عاطفية تناسب المراهقة التي تمر بها الشخصيات جميعا.

لدينا نموذج آخر عند نجيب محفوظ يوازي نموذج إحسان، تجتمع فيه أربع شخصيات، تغادر الحرم الجامعي العريق في رواية القاهرة الجديدة، لكن المسار يختلف، كذلك الغاية من السرد، فمحفوظ يتابع شخصياته في الرواية التي تحتوي نماذجهم المتعددة، اليميني المحافظ، واليساري التطوري، والمراقب الذي يرى الأحداث وهو فيها – فهو معادل المؤلف الضمني –  والمضغوط الضائع باحتياجه ونهمه الساقط في اختبار التاريخ، وتنتهي الرواية بأن تظل الرمزية الأيديولوجية – الثنائية – في مواجهة لا تحسمها الدراما المحفوظية، وتحورها – فيما بعد – أعمال أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد وعبد الرحيم كمال، ولكن كيف يسير نموذج إحسان في روايته القصيرة (نوفيلا) الوسادة الخالية؟

سيمضي قارئ الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس في صحبة شخصية واحدة تشغل دراما القص، شخصية صلاح، فكأنه هو الثلاثة معا ولكنه شخصية واحدة – سنجد البنية نفسها عند إحسان في روايته أنف وثلاث عيون مع اختلاف النموذج – وسيكون مصيره (صلاح) مرتبطا بثلاث تجارب، سيحب سميحة، ويسقط مع سنية، ويؤسس بيته مع درية في النهاية معايشا حبه الفعلي الأول والأخير، في حوار مع ميتانص لأبي تمام “ما الحب إلا للحبيب الأوّل”.

نموذج البطل في الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس يذكرنا بثنائية نحوية هي الاشتغال والتنازع، تلك الثنائية التي وظفها أحمد شوقي في أحد أبيات سينيته: “وطني لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتني إليه في الخلد نفسي” إن القصائد منابع للدراما، وللتنظير النقدي أيضا، فما اقتنصه شوقي من درامية الاشتغال والتنازع يصلح لأن يؤسس منهجية قراءة تستلهم المفاهيم النحوية في صياغة تنظير لتحليل النص السردي، والجملة الفعلية في علم السرديات هي نموذج القصة.

إن مسار شخصية صلاح في الوسادة الخالية متنازع عليه بين الحلم والواقع، بين النموذج الذي يسيطر على عاطفته غير المروّضة بمنطق العقل من ناحية، والنموذج الذي يقدمه له المجتمع ليفهمه ويستثمره ويتجلّى داخل إطاره من ناحية أخرى.

لايدرك صلاح قيمة النموذج الاجتماعي إلا بعد معاناة عاطفية وسقوط ومرض، فيبدأ في إعادة إنتاج ذاته من أجل أن يراه الحبيب الذي هجره بداية، ثم من أجل نفسه وشريكته في بيت الزوجية، صلاح هو موضع الاشتغال الذي تتجه إليه الأحداث، الحب والهجران والهبوط والصعود، وهو المتنازع عليه من العاطفة المشبوبة التي تعده وتخذله (تحب سميحة وتهجر.. صلاح) ثم يتنازعه استقرار مهدد بوهج الماضي الذي لم يخمد تماما (يتزوج درية ويرى شبح سميحة.. صلاح) لقد استطاع صلاح العبور من الفشل العاطفي إلى النجاح الاجتماعي لكن جذوة المراهقة مازالت نابضة في خلايا شعوره، إن وجه سميحة يتسلل إلى وسادة وحدته أحيانا لينازع ولاءه لعش الزوجية الذي تغرّد فيه دريّة، فالماضي يطفو من تيار اللاوعي محاولا تغيير مسار الحياة في الوقت بدل الضائع، وعلى الوعي أن يتخذ موقفا يحفظ للذات توازنها.

كان على صلاح – الشخصية المحورية في الوسادة الخالية لإحسان عبد القدوس – أن يمر في رحلة إنجاز الذات بثلاث تجارب، تماما كما يحدث للبطل في الحكاية الشعبية، فقد أحب سميحة بعاطفة لا تستند إلى عقل، ثم سقط مع سنية في رد فعل للفشل العاطفي غير الناضج، ثم ارتبط بدريّة وانشغل بها فتخلّص بعد معاناة من شبح سميحة الذي يظهر له على الوسادة، ولم يعد في حياته سوى بيته مع دريّة، وتفوّقه في عمله، ولم تعد سميحة تشغله أو تنازع دريّة حبه بعد أن كادت دريّة تموت بسقوط جنينهما – في بنية تمثيلية لفقدان ثمرة الحب غير المكتمل – لقد فهم صلاح التجربة وتصالح مع الواقع وقرأ المواقف بالتوازي، رأى نفسه مكان الدكتور فؤاد زوج سميحة، ورأى دريّة بالنسبة له مثل سميحة بالنسبة للدكتور فؤاد، رأى عالما يؤسس نفسه في إيقاع صاعد، حتى سنية بعد أن تركها ارتفع اسمها في عالمها الفني فكأنها عرفت كيف تتخذ من تجربتها معه نموذجا موازيا لتجربته مع سميحة، أي كيف تتجاوز مرضها العاطفي.

واستثمار بنية الحكاية الشعبية في قصة حب لإنجاز الذات نوع من الذكاء التعبيري الرمزي الذي يسمح للقصة بالتغلغل في لاوعي المتلقي لتحرك العقل من الباب الخلفي، باب الفن، وفي الوقت نفسه تنقل القصة الدلالة العاطفية أو النفسية إلى مجال أكثر رحابة هو المرجعية الجمعية التي تبحث عن صورتها في السرد الإبداعي المكتوب من أدباء يجيدون الحكي والفكر معا، ونسق الحكاية الشعبية أنتج في الفترة نفسها رواية رد قلبي ليوسف السباعي أيضا، لذلك لا يمكن معالجة قصة صلاح وسميحة ودرية في إطار دراما سردية عاطفية فقط لأنها صورة رمزية يعكس فيها إحسان عبد القدوس تجربة أكثر أهمية في سياق زمن كتابة الوسادة الخالية، فالكاتب يتفاعل مع الواقع بالرواية، والإبداع حلم يقرأ التاريخ من أجل الآن.

إننا نقرأ الوسادة الخالية الآن، وستظل الرواية في أفق التلقي كما هو الحال في علاقة الأعمال الإبداعية بالزمن، فالنصوص مانحة لتجارب معرفية جديدة تتصل بخبرات القارئ المستقبلي وسياقه المتطوّر الذي تتفاعل فيه الآداب مع العلوم، وهناك مثال واضح لاستخلاص علم النفس النماذج الإنسانية من التراث الأدبي، فليس بعجيب أن يجد علماء الدراسات النفسية والاجتماعية والحضارية حالات أدبية تضيف إلى معرفتنا بالإنسان، فالنص الأدبي له حضور حال تلقيه في ضوء نظريات النقد الداعمة لخبرات القراءة، لكن هذا لا يمنع من فهم الإبداع في ضوء زمن إنتاجه.

ويمكن أن نتحدث عن حالية العمل الإبداعي وظرفيته، فالحالية هي حضور النص في زمن التلقي بكل ما في هذا الزمن من إضافة داعمة لعمليات الفهم، وفي الوقت نفسه لدينا الظرفية الإبداعية أي ارتباط النص بسياق إنتاجه الخاص بكل ما في ذاك السياق من عوامل مؤثرة في المبدع، وهذا يربط رواية الوسادة الخالية بمنتصف خمسينيات القرن العشرين.

نتذكر أن الوسادة الخالية ظهرت عام 1955م وتحوّلت إلى فيلم عام 1957م – أخرجه صلاح أبو سيف المعروف بانتمائه للمدرسة الواقعية وقام عبد الحليم حافظ صوت الرومانسية بدور صلاح – أي أن العمل السينمائي دمج الواقعية بالرومانسية، وهذا ملمح مهم إذا نظرنا إلى السياق الثقافي لمصر في أعقاب 23 يوليو 1952م ولا يمكن فصل الظرف التاريخي عن الحال الدرامي لبطل الرواية، مع الوضع في الاعتبار أن إحسان عبد القدوس عاش فترة جزر ومد مع المرحلة التاريخية لكنه استطاع أن يشغل مكانا مع أهم صنّاع السردية الداعمة لتلك المرحلة، وموقفه يختلف عن موقف نجيب محفوظ النقدي الذي ظل مخلصا لزعيم الوفد سعد زغلول والنموذج الليبرالي الكوزموبوليتاني السائد في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين.

هل يدعّم إحسان عبد القدوس السياق التاريخي بعمل رومانسي؟ إن المؤلف يتحدث عن البيت الجديد الذي يمكن أن يقوم على حب ناضج بعد أن فشلت تجربة الحب الأولى وانتهت إلى سقوط، إحسان مواليد 1919م عام الثورة المصرية التي قادتها النخبة المثقفة ضد الاحتلال الإنجليزي، لكن حلم تلك الثورة لم يحقق الاستقلال الكامل، ووصل الأمر إلى النكبة ثم أتت فترة الخمسينيات بمرحلة جديدة لها ما لها وعليها ما عليها، وكان إحسان واحدا من أهم داعمي المرحلة بإبداعه السردي فكتب في بيتنا رجل ولا تطفئ الشمس وأنا حرة، هذا الإبداع يبدو مباشرا في التعبير عن المرحلة الخمسينية من كاتب لديه مهارة الصحفي الذي يتابع الأحداث، لكن الدعم المهم هو الذي لا يبدو مباشرا مثل الوسادة الخالية.

تنطلق افتتاحية الرواية القصيرة “الوسادة الخالية” من حال الشباب الثلاثة وهم يمرون بتمثال سعد زغلول قرب كوبري قصر النيل، إن الشخصيات تعبر المرحلة الخديوية والملكية والوفدية القريبة من زمن تكوين إحسان، وفي إشارة رمزية – توجّه السرد إلى التاريخ – يقدّم إحسان بطله صلاح، طالب المرحلة الثانوية المتطلع إلى غد يحقق حلمه النفسي والاجتماعي، وهو يبحث عن حل لمشكلته الحالية عند زعيم الفترة المنقضية “وكان ينظر ساهما إلى تمثال سعد زغلول، وكأنه يشكو الجوع لسعد.” إن السردية العاطفية لا تنفصل عن السياق السياسي وهو ما يسمح للدلالة بحمولة ثقافية يمكن استثمارها في التأويل، ويخوض صلاح تجربة إنجاز الذات في متوالية تصل إلى الدمج بين الحلم والواقع، فيصبح صلاح الرومانسي بطلا واقعيا مسئولا عن بيته، هكذا يضع إحسان عبد القدوس النموذج الناجح لسياق يبحث عن صيغة درامية لتضافر التجربة الفردية والتجربة المجتمعية في سياق تاريخي، وهكذا تحل الظرفية فرضية التنازع والاشتغال في الخطاب السردي.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: