ذَاكِرَةُ فَارِس

ذَاكِرَةُ فَارِس

غادة صلاح الدين

====

– صَبَاح الفل يا ست الكل.

– صباح الخير يا عم السيد.

دست مدام نهى الورقة ذات الجنيهات الخمسة في يد عم السيد، كعادتها اليومية بعد عودتها من العمل، لا يقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل ينال الرجل المسن الذي تجاوز الستين سنة، وجبات جاهزة وهدايا من نهى.

اعتادت أن تفعل هذه الأمور الإنسانية الرحيمة كما علمها أبوها طوال عمره، وكل المحيطين بحياتها الهادئة ينالهم من بركة أبيها فيها كثير من الخير والعطاء.

نهى السخية، امرأة جميلة، مشرقة الوجه، بيضاء وتلمع كقمر بدر في ليلة تمامه، موظفة ثلاثينية مرموقة في وزارة العدل، ومنذ اتخاذ عم السيد هذا الشارع الذي تسكنه نهى كمورد رزق وحيد من غسيل السيارات وقضاء المشاوير لسكان الشارع المرموقين، تعلق قلبه بنهى واعتبرها ابنته، ولم تكن تنزعج عندما يناديها بـــــ”ابنتي”، خاصة عندما تجلب له غداء مميزا أو عاديا، فهو في حالة شكر ورضا تجاهها.

سألته عن حاله: إيه الأخبار؟ كله كويس؟

شكرها لحنانها ولطفها، رغم كبره يبدو ببنيانه القوي الطويل العريض كحائط أبوَّة هائل في وجه الأيام المتقلبة، وكانت نهى تشعر أن هذا الرجل الطيب سند لها بعد وفاة والدها الحنون.

لاحظت أن الرجل حزين ويبدو هرما ومهزوما على غير العادة، كانت تتأمل راحة يده التي تشبه مطرقة هدم كبيرة، وتتذكر حكاياته العجيبة كجندي صاعقة باسل وجسور، عاش الحرب كما تعيش هي حياتها الهادئة النشيطة. مالك يا عم السيد؟

رغم حر الثانية ظهرا في قاهرة المعز، وحاجتها الملحَّة لدُشّ بارد، لم تبخل على المسكين الحزين بعدة دقائق.

تنهد الرجل وزفر أنفاسه الملتاعة، وقال لها: “كنت في النيابة النهاردة يا بنتي”.

عم السيد بعد الستين، ورث قطعة أرض لا تزيد على خمسة وأربعين مترا، لم يفكر في بيعها كما نصحه المقربون، كان يحلم أن يمتلك بيتا، يريد أن يشعر أن لديه وطنا، فالوطن في ذهن جده وأبيه هو أرض وبيت وعائلة وناس، وعم السيد لم يكن يملك من ذلك شيئًا.

من رزق الله الخفي والصدقات، وضع أساس البيت، ثم بعد سنوات رفع السقف، ولأن إكمال البناء أمر محال بالنسبة إليه في هذا الوقت، حيث كل ما يصل يديه من مال لا يكفي أصلا لاكتمال الستر حتى نهاية الشهر، فقد فكر في تهيئة الطابق الأرضي للسكنى على الطوب الأحمر.

رَكَّب بابًا بعد عدة أشهر، وقام بتبليط الأرضية ببلاطٍ رخيص، لم يفصل غرفًا؛ فالمساحة صغيرة جدًّا، لكنه فصل مكانًا للحمَّام، ثم اكتشف أول أزمة .. عدَّاد المياه.

استطاعت نهى حل المشكلة، وتم تركيب عدَّاد لعم السيد بتوصية منها غير المبلغ الذي دفعته لإنهاء الإجراءات المرهقة.

فشل الرجل في الخلاص من الأزمة الثانية .. عدَّاد الكهرباء.

ورغم توسط نهى تلكأ الموظفون في تركيب عداد لعقار عم السيد، وكان قد انتقل مع زوجته للبيت الجديد هربًا من جحيم إيجار الشقة الذي هو بحاجة إليه؛ ليسد به جوعه.

صديق عم السيد نصحه بتوصيل الكهرباء للبيت الجديد سرا، دون تعاقدات ولا عدَّاد!

نهره عم السيد قائلا: “أنا عمري ما سرقت عاوزني أسرق كهربا على آخر الزمن؟ أنا السيد الوحش يا بركات! ونزع القميص وأراه ظهره كما اعتاد أن يفعل منذ خمس وأربعين سنة”.

كسب بركات الجولة، في الصباح جاء فني كهرباء شاب، وقام بتوصيل التيار، لكن الناس لا يرحمون بعضهم بعضًا، ويحبون الأذى للآخرين، فأبلغ جار له مباحث الكهرباء بعد أن شاهد البيت مضاء.

بعد عدة أسابيع داهمت الحملة بيت عم السيد وكسرت الباب الجديد، الضابط لم يترفق به، وعامله معاملة سيئة في مكتبه، ومن خبرته في التعامل مع الضباط، عرف أنه لا أمل في الكلام مع هذا الشاب الأهوج المتغطرس، فطلب منه بصوت آمر أن يحوِّله للنيابة فورًا.

اسمك وسنك وعنوانك ومهنتك؟

كان اعترافه بسرقة التيار الكهربائي هادئا واثقا أريحيا، وأثار هذا الأمر فضول وكيل النيابة، فكرر السؤال:

– سرقت كهربا يا سيد؟

– أيوا يا ابني .. سرقت!

– ليه بس يا راجل يا طيب؟! وطالبه بالجلوس.

لمعت الدموع في عينيه وقاومها بقوة، رغم كبره لم تصب روحه بالشيخوخة ولا قلبه بالهزيمة. وقف في ثورة غضب، لعن الأرض ومن عليها، لعن الموظفين الذين يحوِّلون حياة الناس إلى جحيم، ثم نزع الفانلة الصيفية والحمَّالة.

أُصيب وكيل النيابة بذعر وانتفض واقفا وابتعد عن المكتب والتصق بالحائط. استدار عم السيد وقال بغضب: بص يا باشا؟ شوف! حدَّق وكيل النيابة فوجد نجمة خضراء موشومة فوق كتف الرجل، وآثار جراح قديمة، وبسط الرجل يديه مقلوبتين وأراه أظافره المشوهة، ثم أراه أظافر قدميه!!

هدأ وكيل النيابة وتحرك ناحيته، وقبَّل رأسه وأجلسه، ضغط الجرس وطلب ثلاثة أكواب من الليمون.

“يا ابني، أنا مقاتل صاعقة، أسروني في حرب أكتوبر، عذبوني وسجنوني ومحدش قدر من اليهود يطلع مني بكلمة، كمان في بلدي هاتذل؟! حتى عدَّاد الكهربا مش عارف أركِّبه؟”

اتصل وكيل النيابة بصديقه ضابط شرطة مباحث الكهرباء، وطلب منه أن يتولى شخصيًّا تركيب عدَّاد كهرباء حديث بكارت لعم السيد الوحش، ثم قَبَّل رأسه مرة أخرى ووضع في جيبه ورقة من فئة المئتين بعد أن ارتدى الحمالة والفانلة وقال له: “تشحن بها كهربا يا عم السيد!”.

فتحت نهى حقيبة يدها وأخرجت ورقة من نفس الفئة، أعطتها له ثم قالت مقهقهة: “اشتري بها ليمون”، وانصرفت تجاه مصعد العمارة وضحكات الوحش تتقافز كالقطط في وهج الشمس.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: