صالون ثقافي

صالون ثقافي

غادة صلاح الدين

 

في الساعة الثانية ظهرًا، وصلت لهالة صلاح الدين البانرات الخاصة بندوة الليلة. وعبر الواتس آب وصلتها الدعوات من مصمم البطاقات الذي تأخر في إرسالها إليها، دخلت صفحة الفيس بوك، ونشرت صورة الدعوة وموعد الندوة في السادسة مساء، وأسماء النقاد وعنوان الرواية واسم المؤلف.

منذ أسبوع أنشأت مناسبة على صفحة الفيس بوك، تدعو الأدباء والشعراء ومحبي الأدب لحضور ندوة جديدة يقيمها صالونها الثقافي الذي حقق نجاحا كبيرا وشهرة واسعة في الوسط الأدبي العربي خلال أقل من عام واحد.

مرت عدة دقائق وتوالت علامات الإعجاب والتعليقات المباركة والدعاء بدوام النجاح والتوفيق.رن هاتفها المحمول، طالعت الرقم الغريب، لكنها لم ترد. عاود الرقم الاتصال مرة بعد مرة، زاد قلقها وانزعاجها، تساءلت: يا ترى من هذا اللحوح؟ أو من هذه الملهوفة؟ وأكملت تجاهلها، ودخلت إلى المطبخ لتعد فنجان بُن لتكافح الصداع المؤرق.

ظل الرقم يعيد الاتصال دون يأس، صمت لبرهة، ثم وصلتها رسالة على الهاتف: “مساء الخير يا أستاذة هالة، أنا “منصور الكاشف” مؤلف رواية “الواشم” والأخ اللي اسمه “أمين فكري” ده حرامي، من فضلك ردي على اتصالي”.

لم تصدق هالة عينيها، ظنت في البداية أن الموضوع لعبة، تأكدت أنها في شهر يونيو وليست في إبريل!

عاود الرقم الاتصال، فتحت الخط، تكلم الشخص على الطرف الآخر كثيرا، تحدث عن تاريخه وبعض من سيرته الأدبية، رغم أنه يبدو من طريقة كلامه وإنجازاته وكتبه التي طبعها، كاتبا مرموقا، إلا أن هالة لم تسمع اسمه من قبل.

قالت له وهي تحاول ألا تنفعل: أن الوقت ضيق جدا، والندوة ستقام بعد أربع ساعات، وإلغاؤها سيسبب مشكلات كبيرة ويضر بسمعة الصالون، ويغضب عددًا كبيرًا من الكُتَّاب، خاصة الذين تكبدوا مشقة السفر من مُدنٍ بعيدة من أجل حضور ندوة الليلة.

لكن بدا واضحا من نبرة صوت “منصور الكاشف” أنه صادق وحازم وصاحب حق، كاد صوته يخترق سماعة الهاتف، وروحه تنزف، يتوسَّل لــ”هالة” ألا تترك حقه يضيع وألا تسمح لنفسها بالمشاركة في هذا السطو البيِّن على حقِّه الأدبي.

فكرت بهدوء ما الذي يمكنها فعله في هذه الورطة العصيبة، طلبت من “منصور” أن يمنحها نصف ساعة فقط وسوف تعاود الاتصال به لتخبره عن قرارها.

ظلت تفكر وتتحير وتعصر قبضتها بيدها، ثم وجدت حلا رائعا. اتصلت به، أعطته عنوان مكان الندوة بالتفصيل، ووجهت له الدعوة للحضور، وطلبت منه أن يحضر معه أي جريدة أو مجلة أو مطبوعة، أو أية وثيقة تثبت حقه، واتفقا على ذلك.

في الخامسة مساء، كانت هالة تُهيِّء القاعة لاستقبال ضيوفها، وضعت البانرات على مدخل باب القاعة، نظَّمت المقاعد، جهَّزت المنصة، وبدأت تستقبل الضيوف. همست “هالة” للناقد الشهير الذي سيتولى مناقشة الرواية: “فيه مصيبة يا دكتور”. أخبرته بما حدث، سجل عدة ملاحظات في دفتره. وفي تمام السادسة بدأت الندوة، حضر عدد معقول من الكتاب والشعراء، يتجاوز العشرين وهو رقم كبير جدا؛ فجمهور الثقافة والأدب صار خرافة أسطورية.

ظلت “هالة” تترقب، ودكتور “هشام” ينتظر ظهور “منصور الكاشف”، بينما جلس “أمين فكري” يسار المنصة هادئًا مبتسمًا واثقًا.

أرادت هالة كسب بعض الوقت، طلبت من “أمين” أن يُقدِّم نفسه للضيوف، ثم بدأت حوارها معه والحديث عن ظروف كتابة روايته موضوع النقاش، وتركته يسترسل دون أن تقاطعه ودون أن تقلق لإهدار الوقت المتعمد.

بدا واضحا للناقد المتخصص وبعض الأدباء الحاذقين، أن “أمين” مجرد مدعٍ أخرق، مزيف وملفق، يتشدق بعبارات محفوظة ويكرر أسماء أدباء عالميين دون أن يظهر في تعرضه لسيرهم وأعمالهم، أنه يعرفهم فعلا أو قرأ لهم وتعلم منهم. كان سمجًا سخيفًا تافهًا أجوف دون شك، ولما تأكد دكتور “هشام” من حَدسِه الشفيف، كتب سؤالا في ورقة صغيرة ووضعه بهدوء أمام “هالة”.

نظرت إلى الورقة ثم سألته:

حدثنا عن معاناتك مع روايتك الجديدة “الواشم”، لماذا اخترت هذا العنوان؟ وهل تحتوي فصول الرواية على إشارات أو دلالات تكشف هذا العنوان الغريب وتنير الطريق للقاريء؟

مَدَّ الكاتب يده لرابطة عنقه الأنيقة وأرخاها قليلا، كانت الشرفة خلف المنصة في الطابق الثاني، طلب تهوية للمكان. قامت “هالة” وفتحت باب الشرفة على مصراعيه ثم جلست.

فتح “أمين” زجاجة مياه معدنية وشرب، بدت عليه الحيرة، فتَهْتَه وتلعْثَم، لَفَّ ودار حول الموضوع، حاول تقديم تفسيرات عديدة للعنوان، لمعت عينا الدكتور “هشام” بدهشة، لقد ظهرت أول علامة أن الكاتب لا يعرف أي شيء عن بناء الرواية وأسرارها العميقة!

سمع الحضور وقع أقدامٍ عديدة تصعد السلم مهرولةً، كأنها تعرف طريقها، فظنُّوها مجموعة من الأدباء المتأخرين أتوا في توقيت واحد.

ظهر شخص أشيب أسمر، متوسط القامة عند باب القاعة، يتطاير من عينيه غضب عارم، خلف ظهره بدا اللون الأبيض الذي يرتديه ضابط شرطة برتبة رائد، معه ثلاثة أمناء. بينما كانت كاميرا تسجيل الندوة ترصد تأهب القادمين ودهشة الجالسين، الذين وقفوا جميعًا للاستفسار عمَّا يجري.

لم يكد الشخص الأسمر ينتهي من نطق اسمه “أنا منصور الكاشف”، حتى دفع “أمين فكري” طاولة المنصة بيديه وقفز من الشرفة إلى الشارع.

ضَجَّت القاعة بالأسئلة والاستفسارات، بينما نزل أمين شرطة، السلالم قفزًا، وعم الصمت المكان، وتناثرت حولهما علامات التعجب والاستغراب.

جذب “منصور” البانر الكبير أمام مدخل القاعة ومزَّقه وداسه بقدميه، ثم جلس على كرسي واسع، شرب نصف زجاجة ماء صغيرة، التقط أنفاسه الشاردة، التفت الحضور كلهم نحوه، بعد أن قالت “هالة”: هذا هو الأستاذ منصور الكاشف المؤلف الحقيقي للرواية.

تكلم “منصور” فورا، بدأ بقراءة فقرة طويلة من الرواية من الذاكرة تضيء العنوان في عدة مناطق من الفصل الروائي، ثم أخذ يحدثهم عن الواشم وأسرار الرواية وأعمار تنسلخ في جهد لا يتعين أن يختطفه الغربان!

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: