حمامة على ظهر أمي!

حمامة على ظهر أمي!

دكتور سيد شعبان

 

حين دخلت بيتنا الحجري الذي يربض فوق تلة بالصحراء، يبدو كحارس أمين تركه الطيب وارتحل؛ في مرة أخبرتني بأنها تسمع هاتفا منه؛ تصغي إليه السمع.

– يا أمي لا تلق بالا لكل هذه الأشياء؛ الموتى يزوروننا بصورة أخرى؛ إنهم معنا في كل يوم؛ صاروا في عالم آخر ملؤه الطيبة.

ليتني ما حدثتها بهؤلاء؛ باتت تنتظره كل آونة؛ تترقب طلوع الفجر لتسمع دعاءه، كان يقوم بالليل يسبح ربه؛ خلا البيت الحجري من همسه وصوته؛ سكن مكانا آخر؛ أوصاها أن تعتني بي؛ تأتي إلى سريري وتغطيني؛ إنهن الأمهات يرثن الآباء، يؤتين الصغار جلدا يقاومون بها أعباء كان الكبار يحملهونها، أداعبها بأن غرابا يقف على أسلاك الكهرباء؛ تغضب؛ هل تراه يأتى في صورة هذا الذي لا يكف عن النعيب؟

تطارد الغربان بعصاها، تلقي في وجه البومة العجوز بحصوات.

تترقب حدثا ما!

استقبلتي اليوم بترحاب لامثيل له؛ تحتفي بي كأنني ما أزال ذلك الطفل الذي ترضعه وتحنو عليه؛ بادلتها حبا بحب؛ كلانا يرى في الآخر شطره؛ ابتسمت وقالت: حين كنت أصلي جاءت حمامة ووقفت على رأسي؛ هل تتصل أمي بالعالم العلوي؟

يبدو هذا واضحا من دعائها لي؛ أجد  عناية الله تحيط بي.

أخاف عليها؛ فلقد كرهت رحيل الآباء

أتكون تلك نذر الوداع؟

ضاحكتها مبتسما: لا تهتمي يا أمي؛ ليتك أكملت صلاتك!

تعلم ما دار في عقلي.

– لم يحن بعد يا ولدي الرحيل.

سيكون العيد حين تشرق الشمس وينزوي الشتاء بعيدا؛ أنت يا أمي الربيع بورده وزهره.

– أمسكت بها ووضعتها في مأمن، اصعد بها إلى برج الحمام؛ داوها فقد وجدتها تنزف دما، بالفعل كانت البيضاء بها أثر لجرح صياد أو لعل قطنا الأخضر حاول أن يلتهمها ففرت منه لما خافته.

أحقا هذا طيف منه؟

حين تصلى الأمهات تفتح أبواب السماء؛ ثمة رهيف لأقلام الملائكة؛ تتابع قطرات المطر؛ أنظر أشجار البرتقال فإذا هي تفوح أريجا.

تفحصت تلك الحمامة الوديعة؛ حاولت أن تتخلص من قبضة يدي، أطلقتها ومن ثم بت أتفرس ملامحها؛ نشرت جناحيها؛ أخذت تداعب الأخريات؛ هل تراها تبادلهن كلاما لا أفهمه؟

سألتني هل أطعمتها؟

اسقها ماء محلى بالسكر؛ تألف المكان وتعيش معنا.

-إنه طيفه يزورونا.

-لا يا ولدي؛ لقد ارتحل إلى ربه؛ لم تعد به حاجة إلينا؛ قريبا سنلحق به على خير.

هي بيضاء تسبح ربها، العجائز يدركن موعد السفر، تمسحت بأمي.

قلت لها: هيا يا طيبة تعالي نتجول في الحديقة؛ جاء محمد النحال بخلاياه؛ أريك أشجار الرمان وهي تتفتح؛ نسيت أن أخبركم بأنني أحضرت إصيص ورد بلدي؛ زنبقة حمراء توشك أن ترى الشمس، أمسكت أمي بالمعول؛ تحت نافذتي بين كرمة العنب وشجرتي الرمان قامت بزرعها.

-انثر ياولدي بذور الحب، ازرع عند طرف الأرض لأبناء الله!

-حين يأتي الربيع تزهو الأشجار بتلك الوردة الحمراء، في برج الحمام تصدر المطوقة البيضاء هديلها.

تحتفي أمي بالحياة؛ تغالب شيخوختها؛ تشد نطاقها ومن ثم تعاندني جهدا؛ لديها ولد لاتفتأ تدعو أن يهديه الله؛ لا يأتيها بغير ما تكره؛ أحاول أن أنسيها سوء فعله؛ يدعي أنه استلب منها بيتها الذي جعلته لأولدها من بعد ما ارتحل الطيب.

-تعالي وانظري لقد جاءت بشرى الربيع؛ ثمة عصافير خضراء تزقزق فوق أشجار الليمون.

-هذا أوان طيف أبي يأتى؛ ماتزال بركته تحفنا؛ فعرقه ارتوت منه الأرض، كان طيب القلب لكن عزيمته أشد من الصخر.

ابتسمت ثم قبلت جبينها.

يحوم الغراب حول برج الحمام؛ يتحين فرجة بالباب؛ يسعى جاهدا ليقتنص زغب الحواصل؛ تأمرني الطيبة أن أحضر الكلب؛ إنه يعارك هذه الأخطار يبيت عند مدخل البيت الحجري ويخيف الغرباء.

-في المرة القادمة عليك أن تنتظر بجواري حتى أكمل صلاتي، لن أقطعها حتى لو وقفت على رأسي كل طيور الجنة الخضراء.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: