العرب في عيون الرحالة – العالم العربي بعيون روسية

بقلم: الأستاذة الدكتورة  دينا محمد عبده

أستاذ ورئيس قسم اللغة الروسية وآدابها – كلية الألسن – عين شمس

علي الرغم من كافة التغيرات الإقليمية والدولية من عصر إلي عصر ومن زمن إلي زمن، لكن تظل العلاقة بين روسيا والعالم العربي لها طابعها الخاص، والذي يختلف عن طبيعة العلاقة مع دول الغرب أو الشرق الأقصى بشكل أو بأخر. وقد يرجع السبب في هذا إلي ميل الروس إلي الشرق، وتشابه الظروف والأحوال ربما وبعض العادات والمعتقدات، فالروس دائما يعتبرون أنفسهم شرقيين بل ويشيرون إلي أنهم يمتلكون روحا شرقية. قدمت إحدى الباحثات الروسيات مؤخرا وتدعي كوخاريفا دراسة عن التصور القائم لدي الروس تجاه العرب والمسلمين بدءا من رحلات الروس الأولي إلي فلسطين حتي يومنا هذا والتحول التدريجي لدي روس في اهتمامهم بالثقافة العربية والإسلامية.

تشكلت صورة العرب والشرق العربي لدي الروس لقرون عديدة، كما قدم الدبلوماسيون والصحفيون والعلماء والمتخصصون السوفيت والروس المعاصرون صورة معينة ومميزة للعربي في مختلف المواقف، جاءت من جراء التعاملات الدبلوماسية والرحلات والزيارات المختلفة وقد سجلوا تلك الملاحظات في العديد من الأعمال والكتب والمقالات والتي صورت الإنجازات العظيمة للثقافة العربية والإسلامية، وصفات الشهامة والمروءة والشرف والصبر والتحمل وكرم الضيافة التي يتميز بها العربي من وجهة نظرهم، بالإضافة الي بعض الصفات السلبية التي يرونها في التهور والإهمال أحيانا. العربي في عيونهم متدين بطبعه ويحرص علي تأدية عباداته التي لا تعوقه علي أن يعيش حياته الدنيوية ويتعلم وينجز ويبدع وهو أيضا متسامح تماما تجاه الأخرين ولكن يكون حازما وأحيانا قاسيا إذا تم التعدي علي شرفه أو كرامته أو مبادئه الأخلاقية.

العالم العربي لدي الروس هو عالم فريد وغامض، تفوح منه روائح شرقية وحكايات ساحرة تبدأ من حياة البدو الرحل أبناء الصحراء الذين أعجب بهم الكاتب الروسي الكبير نيقولاي جوجول الذي يري أن هذا العالم الرائع لم يتغير إلا ليتطور ويرقي.

انبهر جوجول بالعديد من مظاهر الحضارة العربية والإسلامية ومنها العمارة واتقان المهندسين المعماريين للعديد من البنايات والزخارف التي كشفت عن الإبداع والتميز الحقيقي في الهندسة المعمارية. أما عن الأدب العربي الكلاسيكي من القرن السادس حتي القرن الثاني عشر، فيري الروس أنه علي الرغم من عدم وصول العرب إلي الفهم الفلسفي للعالم، إلا أن التفكير العربي يتسم بالسطوع الشديد الذي يعتبر الإنسان جزء لا يتجزأ من الكون، فهو يتسالم تماما مع الطبيعة ولا ينظر لظواهرها نظرة عدائية وهي بالنسبة له معيار الجمال والسحر. الثقافة العربية والإسلامية في عيون الروس هي اندماج القيم الدينية الموحدة والروحية والأخلاقية مع القيم الجمالية والوطنية متعددة الأوجه والمستويات. لم يكن جوجول وحده من بين عمالقة الأدب الروسي هو من أعجب بالشرق بل انبهر به بوشكين وتولستوي وبونين وتشهد العديد من أعمال هؤلاء الشعراء والأدباء الإبداعية علي ذلك.

تعتبر (رحلة هيجومن دانيال) هي أول رحلة موثقة لرحالة روسي في بداية القرن الثاني عشر إلي الأماكن المقدسة في فلسطين وكتب مذكراته التي تعتبر (مذكرات رحالة) واصفا المدن والانهار والجبال والجزر التي مر بها أثناء رحلته إلي القدس وقد امتلأت مذكراته بالعديد من الأسماء المقدسة للمسيحيين: المسيح، العذراء مريم ،يوحنا المعمدان ، بطرس وبولس ، القدس ، القبر المقدس ، بيت لحم. ولكن كتب أيضا دانيال عن بعض السلبيات والمخاطر المميتة التي واجها أثناء رحلته.

تكونت لدى الشعب الروسي فكرة عن العرب والشرق الأوسط أيضا بفضل واحدة من أقدم آثار الأدب الروسي وهي “حكاية السنوات الماضية” التي شملت أحداث من التاريخ الروسي حتى عام 1110 بالإضافة إلي وصف الطابع الجغرافي والاثنوجرافي، الذي تضمن وصفا للأراضي العربية. وقد جاء في تلك الحكايات ما حدث بعد الطوفان حيث قسم أبناء نوح الثلاثة الأرض – سام ، حام ، يافث، حيث حصل سام على الشرق: بلاد فارس ، باكتريا ، وحتى الهند في خطوط الطول ، وفي اتساع نطاق رينوكورور ، أي من الشرق إلى الجنوب ، وسوريا ، وميديا إلى أنهار الفرات ، بابل ، كردنا ، الآشوريون ، بلاد ما بين النهرين ، شبه الجزيرة العربية وفينيقيا. أما حام فقد حصل علي الجنوب: مصر ، إثيوبيا ، الهند المجاورة ، وإثيوبيا ، التي يتدفق منها النهر الأحمر الإثيوبي إلى الشرق ، طيبة ، ليبيا ، المجاورة كيرينيا ، مرمريا ، سرت ونهر جيونا ، المعروف أيضًا باسم النيل. حصلت يافث على البلدان الشمالية والغربية وجزء من آسيا يسمى الأردن، ونهر دجلة، الذي يتدفق بين ميديا وبابل.

لم يٌذكر الإسلام بشكل مباشر في المدونات والسجلات القديمة لدي الروس إلا من خلال الحديث عن عملية الاختيار التي قام بها الأمير الروس فلاديمير الذي أراد أن يختار واحدة من الديانات السماوية ليدين بها الروس، فأتي بممثلين من الديانات الثلاثة، حيث وصف المسلمون ايمانهم علي النحو التالي: (إن محمد يعلمنا ألا نأكل لحم الخنزير ولا نشرب الخمر) وعن رد فعل الأمير، فقد ذكرت المدونات أنه لم يعجبه منع الروس من الخمر وقال: (الروس تستمتع بشرابها ولا يمكن الاستغناء عنها). لدرجة أن الكثير من الروس يؤكدون لولا منع الإسلام الخمر لصارت روسيا كلها مسلمين.

تمر السنون والقرون وتحتل الخلافة العربية مساحات شاسعة من أراضي العالم، وتتبدل وتتغير الأحداث وتنتهي بتشكيل أكثر من عشرين دولة عربية مستقلة يجمعها تاريخ واحد ولغة واحدة ودين واحد، تلك العوامل التي ساهمت في ظهور الشخصية العربية التي فرضت سماتها ونشرت أفكارها من حدود الصين حتي المحيط الأطلسي.

يربط الروس دائما بين العرب وبين التدين، فالإسلام هو الدين الرسمي في كل الدول العربية والجميع يمارس الطقوس الإسلامية حتي غير المسلمين بل والملحدين، فهم ليسوا ببعيد عن التدين، حيث دخل الإسلام بعمق في وعي وسلوك العرب وأصبح جزءا من حياتهم اليومية، فالتقوي والإخلاص ومخافة الله هي سمات العرب.

لعل من أبرز ما يدهش الروس الآن في العصر الحديث هي طقوس الأعياد والمناسبات لدي العرب والتي ترتبط معظمها بكرم الضيافة وتنوع الأطعمة. ففي شهر رمضان والأعياد تمتلئ الطاولات بكل ما لذ وطاب من الطعام، يدهشهم عادات بعض العرب الذين يجلسون علي الأرض يطوون الأكمام لتناول الطعام، لا يحتاجون للشوك والسكاكين فقد يكون تناول الطعام باليد ألذ وأسهل، وهم لا يقلقون من نظافة العرب فهم طهورين ويتوضؤون كثيرا، يتناولون العصائر والمشروبات الشرقية والتمر بدلا من النبيذ والخمر. يذهبون بعد الفطور في رمضان لأداء صلاة التراويح، يتمشون أو يسترخون في المقاهي. أيضا تبرهم عادات المسيحيين الأرثوذوكس والتزامهم وطقوسهم، طعامهم وشرابهم الذي يندر فيه شرب النبيذ أيضا.

تدهشهم أيضا عادات الزفاف ورسم الحنة، والسيارات المزخرفة بالشرائط الملونة، هتافات الشباب وقرع الطبول.

يمثل البدو لدي الروس ظاهرة مثيرة تستحق الدراسة سواء من ناحية شكلهم وهيئتهم ومظهرهم الخارجي، أو من ناحية عاداتهم وتقاليدهم وأسلوب معيشتهم. فهم يبعدون عن مظاهر الحضارة الحديثة، ويبدون أنهم يعيشون عصرا أخر يختلف عن ذلك الذي نعيشه ومع  ذلك فانهم يرونهم مثلما ذكر الباحث الروسي فاسيلييف أنهم مثال للتكيف والبقاء في ظروف وجودية لا يمكن تصورها، فقد يعيشون في مسكن بائس، في خيمة من القماش، يعيشون مع الإبل والماعز تحت أشعة الشمس الحارقة أو في البرد القارص في الصحراء الشاسعة، يبدون البدو بالنسبة للروس أناس غريبي الأطوار يتحدون المحن والجوع والعطش، بل وينتصرون علي الفقر بروح لا تلين، ويعتبرون أنفسهم أفضل الناس، أن يسير علي جمل أفضل له من ركوب سيارة فارهة. هم يرون أنهم يحملون في حياتهم ومعيشتهم الموروث العربي القديم الذي كانوا يقرؤن عنه في الكتب والحكايات. يري الروسي فاسيلييف أن أبشع جريمة لدي البدوي هي خيانة صديق، فالولاء للصديق والعائلة والقبيلة لا حدود له، أما مع الأعداء فهو شرس وقاس، شخصيته تبني علي رغبة لا تقهر في الحرية، فهو يحترم القوة ويكره الضعف، وهو ذكي وفطن ولكن نهم للمال لكنه كريم بنفس القدر، لا يرد محتاج ولا يبخل علي ضيف. ينبع كرم البدو وكرم ضيافتهم من الافتراض القائل بأن الكرم فضيلة، والبخل رذيلة، وأن الضيف ضيف، حتى لو كان بيده سيف (أي ، حتى لو كان عدو). وهي الأمثال والأقوال المأثورة التي لطالما ذكرها العرب وتداولها عبر التاريخ.

يترك العرب الكثير من الانطباعات الإيجابية في روح وعقل الروس، ودائما الشرق العربي لهم هو عنصر جذب واهتمام وفضول واكتشاف ودراسة للثقافة العربية والإسلامية ورغبة في التعرف والتعمق في جوانبها. لعل تلك النظرة الغير متحيزة والغير متحاملة إلي العرب والمسلمين هي أهم ما يميز علاقة الروس بالعرب دون عن غيرهم.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: