عدوي الجميل ( تُرى من يكون ؟ )

عدوي الجميل ( تُرى من يكون ؟ )

الأديبة منى مصطفى

 

ابني الحبيب: أحببت أن أبوح لك ببعض أسراري، ولأني في سباق مع الزمن سوف أبدأ هذه الأسرار بأن أعرّفك على أعدائي واحدًا تلو الآخر، وسوف أبدأ بأخطرهم عليّ وعليك حتى تأخذ منه حذرك! إنه عدو ولكنه عدو جميل، فافطن له واحفظ ملامحَه وطباعه جيدًا؛ لتغالبه كما أغالبه

يزورني ذلك العدو فتضيق عليّ الدنيا بما رحبت، وتتلاشى ثقتي بنفسي؛ فلا طاقة لي بعمل أو انتاج، فكأنه شيطان يتربص بي، فيجعل عقلي مزرعة للظنون، وبدني متمردًا عليّ لا يسعفني لشيء، أهمّ لأفعل شيئا فيثبطني، وأجد عيونه ترمقني بنظرات محيرة أرى فيها جمودًا ينزع مني كل همة، أو يسلط عليّ أظافر العجز التي تُفتت طاقتي

لا تتعجب يا بني فهذا أقل ما يفعله بي وبحواسي، فضلا عما يفعله بقلبي، والذي لا أستطيع أن أصفه لأنه يجلّ عن الوصف، فإن قلت لك أنه يضيّق صدري، ويقضي على انتظام نبضاتي، ويرسل إليَّ أشعة من الاضطراب تجعلني أسأم كل ما حولي، بل وأفقد التأثر بكل جميل براق، ويتساوى في نظري التبر والتراب، إنه يا بني يحولني إلى آلة معطلة، تمتلئ أحشاؤها بالتروس الحادة وخزانها بالوقود ولكن لا أسلاك تشعلها

العجيب الغريب في الأمر أنه رَغم هذا الخبث والأذى يحبني وأحبه، وأجد في وداعه صعوبة إذا رحل، وأتوق إليه عند انقطاعه، بل أنفق ما أجد من مالي وتفكيري حتى يزورني ويمكث عندي بضعة أيام، فإن له سحرًا خاصا، يجعلك تركن إليه رغم يقينك أنه عدو، بل وتزدحم في رأسك كل الأمنيات المشتهاة، وتخطط لتتذوق متعها كلها، ربما تفعل أو لا تفعل في حضرته ولكن العقل مزدحم والرغبات نشطة، والشهوات مستثارة

وفي النهاية يفارقك وما فعلت إلا القليل العليل مما كنت تتمناه

أخطر ما في هذا العدو الجميل أنه يجعلني أبذل نفسي لمن يقدّرها ولمن لا يقدرها، أركض وراء هذا وهذه وهؤلاء، وأقبل منهم ما لا أقبله في غيابه، بل ربما قبِلتُ ما تأنفه نفسي واعية بذلك أحيانا وغير واعية أحايين، فما إن يذهب عني حتى أستصغر نفسي التي كانت في حضرته

وهذا حاله معي ومع غيري كأفراد، أما إذا زار الأمم فتراه بثوبٍ آخر، يزور الأمة في ثوب المحارب القناص الذي لا يرضيه منها إلا قنص صمام أمانها، فتراه يصوّب أسلحته لقلوب الشباب، فيحوّل جدهم هزلا، وعزمهم تهاونا، وعمرهم عهنا منفوشا، وطاقتهم برودة وميوعة، أعلمت من هو يا بني؟

وددت لو سمعتك تجيب بصوت عالٍ وتقول نعم إنني أعرفه؛ لأن هذا مؤشر على فطنتك، ولكني لن أتركك تحتار كثيرا، إنه الفراغ يا حبيبي، نعم هو ذلك الكائن القوي الضعيف، الحبيب البغيض، النافع المحبط، الممتع المهلك

هو ذلك السيف المسلط على الرقاب، فإن اجتمع الفراغ والثراء أنجبا الفواحش، وإذا اجتمع الفقر والفراغ أنجبا الجرائم، تجده مؤثرا حيث حلّ

واللهِ يا بني إنني أخشاه كما لم أخش غيره، يستجلب عليّ خيله ورجله ويقذفني بحمم من الشعور بالوحدة البغيضة التي لا تفارقني في حضرته، يزكيها حتى تنهشني وإن كان حولي ألف صديق

صدق نبينا صلوات الله وسلامه عليه حين قال: (إِنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَرَاغَ، نِعْمَتَانِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ، مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)

وقال الحكيم أبو العتاهية: إن الشباب والفراغ والجدة   مفسدة للمرء أي مفسدة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: