صقلية بين الحاضر والماضي

صقلية بين الحاضر والماضي

دكتور إسلام فوزي محمد

 

إذا سألنا كثيرين من العرب أو المصريين عن صقلية سواء كانوا من المتخصصين في دراسة الثقافة الإيطالية أو المتخصصين في التاريخ أو حتى بعض المهتمين بالتاريخ في منطقة دول المتوسط، لأجاب كثيرون منهم بمعرفتهم باسم صقلية لأسباب مختلفة منها شهرتها بعصابات المافيا ومنها تاريخها القديم لوجود العرب والمسلمين فيها لمدة زادت عن قرنين امتدادًا لوجود العرب المسلمين جنوب أوروبا، خاصة في الأندلس.

في زيارتي الأخيرة لإيطاليا كانت المرة الأولى لي في جزيرة صقلية وهذا هو الاسم العربي، بينما يطلق عليها بالإيطالية سيتشيليا Sicilia وبالإنجليزية سيسيلي Sicily. وكان اندهاشي بجمال المكان يدفعني للبحث في أصوله وجذوره، وكيف كان للمسلمين دخول هذه الجزيرة وما صلتها بالعالم العربي الإسلامي من جهة وبين العالم الأوروبي والإيطالي من جهة أخرى.

وفي مدينة تاورمينا Taormina، وهي مدينة صغيرة في منطقة جبلية مرتفعة على بعد ساعة تقريبًا من مدينة كاتانيا Catania، إحدى المدن الرئيسة في صقلية، بدأت أتساءل وأبحث وعرفت أن هذه هي الحصن الأخير الذي استطاع المسلمون العرب آنذاك اقتحامه بعد حصار طويل ساعدت جغرافيا المدينة في صمود أهلها أمام الحصار لفترة طويلة مقارنة بباقي المدن. ومن هنا بدأت أعود إلى أصل هذه القصة بحثًا عن معلومات وافية، فوجدت أن غزو المسلمين العرب لصقلية لم يأت مرة واحدة، لكنه مر بمحاولات مختلفة ومراحل زمنية؛ فإذا قلنا إن حكم المسلمين في صقلية بدأ عام 902 ميلاديًا وإن حكم المسلمين للجزيرة كاملة امتد من عام 965 إلى عام 1061 ميلاديًا، فإن الوجود الإسلامي في صقلية أطول وأسبق إذ كانت أولى الغزوات على صقلية متكررة من عام 652 حتى عام 827.

ولعل أهم المراجع التي توثق الوجود العربي الإسلامي في صقلية كتاب المؤرخ والمستشرق الإيطالي ميكيلى أماري Michele Amari تاريخ مسلمي صقلية Storia dei Musulmani di Sicilia، الذي أشرف على ترجمته إلى العربية في النسخة الكاملة عام 2003 الأستاذ الدكتور محب سعد إبراهيم وكما يقول في مدخل هذا الكتاب المؤرخ الإيطالي المعروف فرانكو كارديني Franco Cardini فإنه كان للجزر الإيطالية بوجه خاص تاريخ شديد الخصوصية تأثر فيما بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر بظاهرة التوسع الإسلامي في البحر المتوسط؛ فقد استوطنها مرات متعددة عرب وسكان قادمون من شمال أفريقيا وخاصة من المغرب ومن شمال شبه الجزيرة الإيبيرية، وهذا يخص صقلية تحديدًا إذ فتحها العرب المغاربة في القرن التاسع الميلادي لتخضع لحكم الأغالبة والكلبيين حتى القرن الحادي عشر ميلاديًا. وقد صارت إمارة عربية إسلامية مقرها پاليرمو Palermo ثم تفتت إلى دويلات عديدة مستقلة كثيرًا ما اشتعلت الصراعات بينها مما شجع مجموعة من المحاربين المغامرين القادمين من شمال فرنسا يعرفون باسم النورمان على الاستيلاء على صقلية وتوحيدها مع الطرف الجنوبي لشبه الجزيرة الإيطالية القديمة في مملكة واحدة أطلق عليها في البداية مملكة صقلية ثم في فترة لاحقة أصبحت مملكة الصقليتين، إلى أن دخلت زمام حكم مملكة إيطاليا الموحدة عام 1861، التي كانت تحكمها أسرة ساڤويا.

وفي تقديم المستشرق والمستعرب الإيطالي كلاوديو لوياكونو لكتاب تاريخ مسلمي صقلية وإسهامه في الدراسات الإسلامية نجد جزءًا من واقع التأريخ إذ يقول إن هناك اهتمام ضئيل جدًا برصد تاريخ صقلية الإسلامية في تلك الفترة سواء من المؤرخين المسيحيين الغربيين أو المسلمين وهذا ما يثير اندهاشه ويثير اندهاشنا نحن أيضًا. وربما يعود ذلك وفقًا له إلى عدم الاستقرار في جزيرة صقلية في ظل حكم المسلمين لها.

كل هذا التفكير والبحث جاء نتيجة لرحلة في تلك الأراضي الجميلة التي ترك العرب والمسلمون فيها بصمة واضحة؛ فكلما ذهبت إلى مدينة وجدت أثرًا للعرب المسلمين فيها. وفي تاورمينا Taormina في زيارة إلى متحف المسرح القديم أو العتيق وهو مسرح شيده الإغريق هناك على هيئة دائرية للعروض الموسيقية وبشكل يساعد على تجميع الصوت بحدة دون مكبرات صوت صناعية آنذاك في القرن الثالث قبل الميلاد ثم جاء بعدهم الرومان وطوروا فيه وجعلوه مسرحًا لمصارعة الحيوانات على غرار الكولوسيوم المعروف في روما وكذلك نجد مثيلًا له في تونس، لا يعلم عنه الكثيرون. وكانت تصحبنا المرشدة السياحية مارجاريت رانيري Margaret Raneri وعندها شرحت لنا جزءًا من تاريخ المتحف والمسرح وتطرقت في حديثها إلى وصول الإغريق الذين أطلقوا على هذه الجزيرة اسم صقلية Sikelìa، وفقًا لشرحها هي كلمة مركبة مكونة من شقين الأول يعني التين والآخر يعني الزيتون، وكأنها أرض التين والزيتون، وهو ما أدهشني ودعاني للبحث عن ذلك، خاصة وأن الأمر يتعلق بآية قرآنية في سورة التين، فربما أراد المسلمون صبغ الاسم بصبغة خاصة بالناحية الدينية على الرغم من أنه اسم أعطاه الإغريق لهذه الجزيرة. فوجدت أن هناك أقاويل غير موثقة وإن كانت متداولة من البعض بذلك التفسير، بينما ترجع بعض الكتب الأصل إلى السكان الأصليين الذين كانوا يعرفون بـ سيكولوس عند وصول الإغريقيين إلى الجزيرة بضعة قرون قبل الميلاد.

وبدأت أبحث في ذاكرتي أولًا عن بعض المعلومات التي نعرفها عن صقلية بدءًا من كونها أرضًا عاش بها المسلمون والعرب فترة تزيد عن القرنين بشكل أو بآخر، ومن كونها أرض عصابات المافيا في القرن العشرين ومسرح أحداث أشهر الأفلام الإيطالية والعالمية عن هذا الأمر، ومن كونها أرض نشأة لبعض الشخصيات المهمة تاريخيًا سواء بالنسبة للعرب والمسلمين أو بالنسبة للمصريين تحديدًا مثل جوهر الصقلي، وسواء كون ستاد پاليرمو عام 1990 كان شاهدًا على مشاركة منتخب مصر في كأس العالم للمرة الثانية في تاريخه وإن كانت المرة الأولى في إيطاليا أيضًا عام 1934.

فرأيت أنه يجب أن أبحث عن بعض المراجع التي يجب أن أقرأها بصورة متأنية فاحصة ووجدت أولًا أن الأهم قراءة تلك المراجع باللغة العربية إن وجدت والبحث عن مراجع أخرى باللغة الإيطالية فيما بعد، ومن أهم تلك المراجع كتاب تاريخ مسلمي صقلية الذي ذكرناه في الأعلى وقد أعد ترجمة كاملة وافية له الأستاذ الدكتور محب سعد وشاركه في ترجمة الأجزاء الثلاثة مجموعة من الأساتذة والمترجمين بقسم اللغة الإيطالية بكلية الألسن بجامعة عين شمس وراجع الصياغة العربية مجموعة من الأساتذة بقسم اللغة العربية بالكلية ذاتها وصدرت الترجمة عام 2003. ومن قبل ذلك جاءت محاضرة الأستاذ لويچي رينالدي التي ترجمها إلى العربية طه فوزي عام 1921 وعام 1922 وصدرت في مجلة المقتطف على جزءين وعقب عليها أمين الخولي في عدد لاحق من المقتطف أيضًا. وكان عنوان محاضرة لويچي رينالدي ودراسته “المدنية العربية في الغرب”. ثم أخيرًا صدر منذ أعوام قليلة كتاب للباحث والأكاديمي الإيطالي أليساندرو ڤانولي تحت عنوان “صقلية المسلمة” وترجمه إلى العربية الأكاديمي العراقي المتخصص في اللغة الإيطالية الأستاذ الدكتور بهاء نجم محمود وصدرت الترجمة في عام 2021 عن دار المأمون للترجمة والنشر العراقية.

وبهذه الفترة ولدت شخصيات مهمة ومؤثرة ثقافيًا وعلميًا وسياسيًا بأراضي صقلية، أو كبروا فيها ومنهم نذكر جوهر الصقلي، وابن القطاع الصقلي، وأبو الحسن البلنوبي الصقلي، وابن حمديس، وابن ظفر الصقلي؛ ومنهم من عاش فترة من حياته فيها وتوفي بها مثل ابن رشيق القيرواني، وابن بشرون الصقلي الأزدي، والإدريسي؛ ومنهم من عاش فترة فيها مثل ابن واصل، وغيرهم ويحتاج هذا الأمر كثيرًا من البحث الدقيق والتحقيق.

وحتى اليوم نجد أثرًا للثقافة العربية والإسلامية وحضارتها في جنوب إيطاليا سواء على صعيد المكان أو على صعيد اللغة والعادات ولذلك يجب علينا إعادة النظر في هذا الأمر كليًا و مراجعة تاريخ أمتنا وربطها بحاضرها والبحث عن أواصر الصلة الفكرية والعلمية بين أقطار العالم الإنساني والنظر في القيم الإنسانية المشتركة وما تبقى منها.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: