روح التواضع: علامة العظمة في شخصية البيومي

روح التواضع: علامة العظمة في شخصية البيومي

د. علي زين العابدين الحسيني – كاتب وأديب أزهري

 

حين وقفتُ أمام أستاذي الأجل محمد رجب البيومي في إحدى اللقاءات غمرتني رغبةٌ شديدة في كتابة تفاصيل حياته، تلك التفاصيل التي امتلأت بالتجارب المثرية واللحظات المميزة المحملة بالمعرفة والتأمل. إنه البيوميّ! ذلك العالم الموسوعي الذي أضاء سماء الفكر والأدب بتألقه الفذ، والذي عاش وعمل وتأمل على مدى عقود، فلم تكن حياته مجرد سجلٍ مملٍ في سجلات الزمن، بل كانت ملحمةً تاريخيةً ملونة بألوان العطاء والتفاني، فقد تحمل بمفرده كتابة تراجم أعلام عصره من الأدباء والمفكرين والعلماء والمثقفين.

كانت رغبتي الأولى هي توثيق بعض الذكريات المهمة في حياته، فطلبت منه أن يملي عليَّ تاريخ حياته بأدق التفاصيل، لأنشره فيما بعد كوثيقة تاريخية ترصد مسيرته العلمية والإنسانية، وبالرغم من استعدادي الشديد وحملي للقلم والأوراق فقد فوجئت بأنه اكتفى بتقديم ترجمة مختصرة لا تتجاوز صفحة واحدة. هذا الموقف الذي لم أكن أتوقعه من أستاذي الذي كنت أرى فيه بحرًا لا ينضب من الحكمة والمعرفة أثار في نفسي العديد من التساؤلات.

تساءلتُ كثيراً عن سبب اكتفائه بهذا القدر القليل من الكلمات، هل كان يفتقر إلى الزمن ليحكي عن حياته بالتفصيل؟ أم كان حريصاً على الاقتصار والتواضع رغم مسيرته العلمية الطويلة الرائعة؟

ولربما كان يرى أن كلماته القليلة كافية لنقل معاني العطاء والتفاني الذي عاشه طوال حياته.

من هنا يتجلى المجد والسمو في شخصية أستاذنا، لأني أدركتُ حبه الكبير للآخرين وتقديم الاهتمام بمسيرتهم وأعمالهم على نفسه وسيرته العطرة الغنية بكثير من الأحداث والشخوص والروايات العزيزة عن أربابها مباشرة، حيث كان يتكلم عن هؤلاء الأعلام بإسهاب وتفصيل، ولكن حين يأتي الحديث عن نفسه فإنّه يكتفي بالحد الأدنى من الكلمات، فلا تظهر عنده رغبة في أن يشغلنا بأخباره، وأنا أعلم قدرته الفائقة على الإفصاح عن تجاربه العديدة، ونقل الأحاسيس الغامضة بعبارات ناطقة!

 

إنّها ملامح شخصية تكشف عن تواضعٍ وتوازنٍ نادرين في عالمنا اليوم!

وعلى الرغم من هذا الاكتفاء فإن كلماته القليلة كانت كفيلة بأن ترسم أمامي لوحةً بديعةً عن حياته، كانت تلك الصفحة الواحدة التي ملأها بلفظه الأنيق تحكي قصة رجلٍ عاش وتفانى وأثرى عقول الجميع بعلمه وفكره. إنها دروسٌ وعبرٌ استفدتها من هذه الزيارة، فقد علمتُ أن التواضع والتقدير للآخرين هما صفتان لا تقلان أهمية عن العلم والمعرفة.

هذا الجانب المميز في شخصية أستاذي البيومي يستحق تسليط الضوء عليه، فأحاديثه عن الآخرين -لا سيما أخبار أساتذته- تفوق الحديث عن نفسه بجدارة وإتقان. إنه رجل يعيش على أخبار القوم وسيرهم، ويحمل في عينيه مواقف كثيرة عن أساتذته، فهو يروي قصصهم، وينقل تجاربهم بكل تفاصيلها.

وفي عالم مليء بالتنافس والطموح يظهر التواضع كنقطة مضيئة تتألق في شخصية أستاذنا البيومي، وتجسد فلسفة التواضع لديه جمال روحه وعمق شخصيته، ويتجلى فيها احترام الذات واحترام الآخرين. إنها ليست ضعفًا، بل قوة تبدو في القبول والتسامح. وفي ذكريات الزمن يتراقص ذلك الجمال؛ كزهور الربيع، ينمو بتواضع، ويزدهر ببساطة، ويتجلى التواضع في قبول الحقائق بصدر رحب، دون تعال أو استكبار، ويعكس وعيًا بحجم الإنسان ومكانته في المجتمع.

ويبدو أن أستاذي كان يجد الإلهام والتأثير في حياة أساتذته وأعمالهم، ولذا كان يحكي عنهم بشغف وإعجاب، مما يعكس تقديره العميق لهؤلاء الصفوة الأخيار الذين ساهموا في بناء مسيرته العلمية والفكرية، فيروي لحظات التأمل التي قضاها معهم، وكيف أثرت عليه مواقفهم ومعارفهم.

قد تكون هذه المواقف والحكايات عن أساتذته شكلت جزءًا كبيرًا من تكوينه الشخصي وتأثيره في عالم العلم والأدب، وقد ألهمته ليكون الشخص الذي عرفناه اليوم، الشخص الذي يعيش المعرفة، ويتنفس العلم والتواضع.

هذا الجانب البارز في شخصية أستاذي البيومي يبرز مدى عمقه وتواضعه، وكيف كان يرى الآخرين ويقدرهم بمثابة مصدر إلهام وتحفيز له. إنها صفة نبيلة وقيمة تضاف إلى قائمة مميزاته العديدة، وتجعل منه شخصية فريدة ومحبوبة لدى الجميع.

لم أكن فقط أبحث عن تاريخ حياته، بل كنت أتساءل أيضًا عن الدروس والحكم التي اكتسبها على مدى سنوات عمره الطويلة. لقد بدأت أتساءل عن كيفية تحول هذه التجارب إلى حكم، وكيف يمكننا جميعًا الاستفادة منها في حياتنا اليومية؟

أحاول أن أتصوّر كيف يمكن لأستاذي أن يكون متواضعًا لهذا الحد، وكيف يمكنه أن يكون مليئًا بالمعرفة والحكمة وفي الوقت نفسه يظل متواضعًا ومتفتحًا للتعلم دائمًا. وبينما كنت أتأمل في تلك اللحظة، بدأت أدرك أن التواضع ليس مجرد صفة شخصية، بل هو نهج حياة قائم على الاحترام المتبادل والتعاون.

إنها دعوة لنا جميعًا لنكون متواضعين ومتسامحين مع الآخرين، ولنتعلم من تجاربهم ونشاركهم الحكمة التي اكتسبناها.

في النهاية أصبحت واثقًا أكثر من أن التواضع ليس مجرد صفة شخصية، بل هو فلسفة حياة يمكن أن تغير العالم بشكل إيجابي، لقد تعلمت أن التواضع هو أساس العظمة والسعادة، وأنه يمكننا جميعًا أن نتعلم وننمو من خلاله.

تنبعث روحه المتواضعة من قلب صافٍ، يرفض التفاخر والتباهي، ويتجاوز العقبات بسلام، ويقبل التحديات بصمود. إنها روح تنبض بالتسامح والسماح! تلك التي تفتح أبواب الفهم والتعاطف، وتصنع جسور الود والتآخي.

وبكلمات يسيرات تنبض بالحكمة والعمق يستقي الطالب قوته منها، ويبني علاقاته عليها ممزوجة بالصدق والإخلاص. إنها رسالة سامية تهز أرجاء القلوب تدعو إلى تقدير قيمة البساطة وعظمة الروح في عالم مليء بالتعقيدات.

هذه التأملات تعكس أهمية التواضع والاحترام في حياتنا، وكيف يمكن أن تؤثر إيجاباً على علاقاتنا ونجاحنا الشخصي والمهني.

ورغم أن الشخصية المتواضعة قد لا تسعى بنفس القدر للتكريمات والحظوة في المجتمع كما يفعل البعض الآخر، إلا أنها تحظى بتقدير واحترام أعمق من قبل الآخرين، فالشخصية المتواضعة تبرز بالتوازن، مما يجعل الآخرين يشعرون بالراحة والاطمئنان في وجودها.

يتجنب الشخص المتواضع البهرجة والتعرض الزائد للضوء المجتمعي، وبالتالي قد لا يكون لديه الحظوة الظاهرة في المجتمع. ومع ذلك فإن تأثيره الإيجابي يمكن أن يكون أكثر عمقًا، حيث يترك بصمة إيجابية في حياة الآخرين، ويكسب احترامهم وتقديرهم على المدى الطويل.

بالإضافة إلى ذلك قد يكون للشخصية المتواضعة تأثير قوي في بناء علاقات قوية ومستدامة، حيث يكون الناس متواجدين حولها لأنهم يشعرون بالراحة والثقة بها. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي هذا إلى فرص أكبر للتعاون والنجاح المشترك، وبالرغم من أن الشخصية المتواضعة لا تحظى بالحظوة السريعة في المجتمع عادة، إلا أن تأثيرها الدائم يجعلها تستحق التقدير والاحترام في النهاية.

نعم، قد تكون شخصية الدكتور محمد رجب البيومي المتواضعة جداً قد أثرت على عدم حصوله على حظوة في المجتمع بالشكل الذي يمكن توقعه بالنظر إلى إسهاماته العظيمة في المجال العلمي والأدبي، فالتواضع الشديد يؤدي في الغالب إلى عدم الترويج للذات والإنجازات بالقدر الكافي، مما قد يؤثر سلباً على مدى الاعتراف به وتقديره في المجتمع.

على الرغم من ذلك، فإن التأثير الإيجابي لشخصية محمد رجب البيومي المتواضعة أكبر وأعمق بكثير من التأثير السطحي للحظوة في المجتمع، وقد تكون شخصيته المتواضعة جداً سبباً في جذب تقدير أعمق من قبل الأشخاص الذين يعرفونه، حيث يُثبت المتواضع قدرته على الاستماع والتواصل بفعالية مع الآخرين، وهذا يمكن أن يؤدي إلى بناء علاقات قوية وثقافة تعاونية داخل المجتمع، ومن ثم قد يكون لشخصية الدكتور محمد رجب البيومي المتواضعة جداً تأثير إيجابي أعمق في المجتمع على المدى الطويل، رغم عدم حصوله على حظوة ظاهرة في الوقت الحاضر.

لقد امتلكَ محمد رجب البيومي قلباً نقياً يعكس جمال روحه وعمق إنسانيته، وحملَ راية تواضع في سماء الحياة تشرق كالنجمة اللامعة، وتضيء كالشمس في سماء الصباح.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: