الْمَقَامَةُ  الْعِرْقُسُوْسِيَّةُ

الْمَقَامَةُ  الْعِرْقُسُوْسِيَّةُ

 

الأستاذ الدكتور محمد دياب غزاوي

 

وَاعْلَمْ, يَا رَعَاكَ اللهُ, أَنَّ حُبَّ الْعِرْقُسُوْسِ مَرْكُوْزٌ فِي النُّفُوْسِ, مَغْرُوْسٌ فِي الْفِطْرَةِ, جِبِلِّيٌّ فِي الرُّوْحِ, مُتَأَصِّلٌ فِي الطَّبْعِ, بَدْهِيٌّ فِي الْعَقْلِ, مَأْمُوْرٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَالنَّقْلِ, قَدْ تَحَدَّثَتْ بِأَهَمِّيَّتِهِ الْأَخْبَارُ, وَتَرَادَفَتْ بِفَضْلِهِ الْآَثَارُ, الْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا وَالْآَحَادُ, وَالْمُتَّصِلُ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادُ, سِيَّمَا إِنْ شُرِبَ بَارِدًا هَنِيَّا, وَمُثَلَّجًا صَفِيَّا, فَيُنْعِشَ حِيْنَئِذٍ النَّفْسَ, وَيُرَطِّبَ الْقَلْبَ, وَيُلْهِبَ الُّلبَّ, وَيَجْلِبَ الْمَحَبَّةَ, وَيُشِيْعَ الْمَوَدَّةَ, وَيَنْثُرَ الْإِخَاءَ, وَيُزِيْدَ الْإِبَاءَ, وَلِمَ لَا؟!! وَهُوَ شَرَابُ أَهْلِ الْجِنَانِ, وَالْمُعْتَمَدُ فِي السُّقْيَا بَعْدَ الْخَمْرِ عِنْدَ أَهْلِ الرِّضْوَانِ, تُدَارُ بِهِ الْكُؤُوْسُ, وَتَنْتَشِي بِلَذَّتِهِ النُّفُوْسُ.

وَهُوَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا عِنْدَ ذَوِي الْهَيْئَاتِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ الثِّقَاتِ, وَأَهْلِ الْعِلْمِ الْأَثْبَاتِ, حَتَّى أَفْتَى بَعْضُهُمْ بِضَرُوْرَةِ الْإِفْطَارِ عَلَى احْتِسَائِهِ, وَالْعَبِّ مِنْ أَقْدَاحِهِ وَارْتِوَائِهِ, بَلْ بَالَغَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْغَزَّاوِيَّةِ- رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى – أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِفْطَارُ عَلَى شَرَابٍ سِوَاهُ, بَلْ لَقَدْ أَوْغَلَ بَعْضُهُمْ فَرَأَى إِعَادَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قَضَاءً, فَلِلَّهِ دَرُّهُمْ, وَعَفَا اللهُ عَنَّا وَعَنْهُمْ!!

وَهَا نَحْنُ قَدِ ابْتُلِيْنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مِمَّنْ لَا خَلَاقَ لَهُمْ, وَلَا رَأْيَ لَدَيْهِمْ, قَدْ رَفَعُوْا عَقِيْرَتَهُمْ, وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُهُمْ, يُفَضِّلُوْنَ ( التَّمْرَ هِنْدِيّ ) عَلَى الْعِرْقُسُوْسِ؛ وَذَلِكَ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ, وَمُبَرِّرَاتٍ تَافِهَةٍ وَاهِنَةٍ, بَلْ لَقَدْ وَجَدْنَا بَعْضَهُمْ مِمَّنِ انْتَكَسَتْ فِطْرَتُهُمْ, وَشَاهَتْ وُجُوْهُهُمْ, وَسَقِمَتْ عُقُوْلُهُمْ, وَضَعُفَتْ أَحْلَامُهُمْ, وَتَبَاطَأَتْ آَمَالُهُمْ, وَنَفِدَ مِدَادُهُمْ, وَكَثُرَ إِيْلَامُهُمْ, وَعَمَّ خِذْلَانُهُمْ, وَتَرَاءَى خُسْرَانُهُمْ, بَلْ وَصَلَ بِهِمُ الزُّوْرُ وَالْبُهْتَانُ, وَالْإِثْمُ وَالشَّنَآَنُ, فَذَهَبُوْا –  وَيَا لَفَدَاحَةِ مَذْهَبِهِمْ – إِلَى عَدَمِ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ, أَوِ اقْتِرَابِهِمْ مِنْهُ, فَتَرَاهُمْ يَتَأَفَّفُوْنَ مِنِ اسْمِهِ, وَيَمْتَعِضُوْنَ مِنْ وَسْمِهِ, وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَرَوْنَ شُرْبَهُ, وَلَا يُطِيْقُوْنَ رَائِحَتَهُ, فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُوْنَ, وَللهِ الْأَمْرُ مِنْ هَذِي النُّفُوْسِ الْمُرْتَكِسَةِ, وَتِلْكُمُ الذَّوَاتِ الْمُنَكَّسَةِ!

فَسُحْقًا لِهَذِهِ الْكَائِنَاتِ الْغَرِيْبَةِ, وَتِلْكَ الْهُوِيَّاتِ الْعَجِيْبَةِ!! سُحْقًا لَهُمْ, وَأَيُّ سُحْقٍ!! أَفَلَا يُدْرِكُ هَؤُلَاءِ وَأُوْلَئِكُمْ مَغَبَّةَ قَوْلِهِمْ, وَشَنَاعَةَ جُرْمِهِمْ, وَسُقْمَ فِعَالِهِمْ, وَجَرِيْرَةَ مَآَلِهِمْ, وَفَسَادَ رُؤْيَتِهِمْ, وَتَهَاوِي طَوِيَّتِهِمْ, وَتَضَعْضُعَ دِيْنِهِمْ, وَاخْتِلَاطَ دَيْدَنِهِمْ!! أَفَلَا يَتُوْبُوْنَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُوْنَهُ؟! فَقَدْ ظَنُّوْا ظَنَّ السَّوْءِ, وَكَانُوْا قَوْمًا بُوْرَا, بَعْدَ أَنْ تَحَدَّثُوْا إِفْكًا وَزُوْرَا, وَوَخْزًا وَشُرُوْرَا!

أَفَلَا يَدْرِي هَؤُلَاءِ مِمَّنِ ابْتُلُوْا بِعَدَمِ مَحَبِّتِهِ, وَالتَّشَيُّعِ لَهُ – عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاهُمْ – مَا لِلْعِرْقُسُوْسِ عَلَى النُّفُوْسِ مِنْ فَوَائِدَ تَعْيَا عَلَى الْحَصْرِ, وَتَضِيْقُ عَنِ الْوَصْفِ وَالْقَصْرِ, مِمَّا تَحَدَّثَ بِهِ الْحُكَمَاءُ, وَأَدْلَى بِهِ الْأَطِبَّاءُ قَدِيْمًا وَحَدِيْثًا؟!! وَقَدْ ذَكَرَ لِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ فِي رِوَايَتِهِ وَدِرَايَتِهِ أَنَّ أَبُقُرَاطَ وَجَالِيْنُوْسَ كَانَا يُكْثِرَانِ مِنْهُ صَيْفًا وَشِتَاءً, لَيْلًا وَنَهَارًا, سَفَرًا وَحَضَرًا, حَتَّى صَارَ حُبُّهُمَا لَهُ مِمَّا تَسِيْرُ بِهِ الرِّجَالُ وَالرُّكْبَانُ, وَيَنْطَلِقُ بِذِكْرِهِ الِّلسَانُ وَالتِّبْيَانُ, وَلَا يَكَادُ يُنْكِرُهُ إِلَّا مَنْ غَابَتْ بَصِيْرَتُهُ, وَعَمِيَتْ سَرِيْرَتُهُ, وَاتُّهِمَتْ سِيْرَتُهُ, وَامْتُحِنَتْ أَمَانَتُهُ, وَقَلَّتْ مَؤُوْنَتُهُ, وَنَدَرَتْ مِيْرَتُهُ.

وَقَدْ حَدَّثَنَا مَشَايِخُنَا أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ لَمْ يَكُوْنُوْا يَقْبَلُوْنَ شَهَادَةَ مَنْ لَا يَتَعَاطَاهُ, أَوْ يَمْتَنِعُ عَنْ شُرْبِهِ, أَوْ يَأْبَاهُ, حَتَّى شُوْهِدَ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي زَمَانِهِ يَضَعُ أَمَامَهُ الْقَدَحَ وَالْقَدَحَيْنِ, وَالَّلتْرَ وَالَّلتْرَيْنِ فَيَعُبَّ مِنْهُمَا عَبَّا, وَيَصُبَّ فِي جَوْفِهِ صَبَّا, بَلْ لَا يَكَادُ يَجْزِمُ فِي قَضِيَّةٍ مِنَ الْقَضَايَا الْكُبْرَى حَتَّى يَأْخُذَ كِفَايَتَهُ, وَيَحْتَسِيَ ثُمَالَتَهُ, فَحِيْنَهَا يَلِيْنُ طَبْعُهُ, وَتَسْكُنُ رُوْحُهُ, وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ, وَتَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ, وَتُرْتَضَى- مِنْ ثَمَّةَ – حُكُوْمَتُهُ.

وَفِيْهِ نَظَمْتُ مِنَ الْبَسِيْطِ:

الْعُرْقُسُوْسُ شَرَابٌ فَاقَ مَا كَانَا

فَسَلْ خَبِيْرًا وَسَلْ مَنْ كَانَ حَيْرَانَا

 

بُقْرَاطُ يَحْلِفُ لَا طَعْمٌ يُضَارِعُهُ

وَالطِّبُّ فِي فَضْلِهِ يَحْكِيْهِ أَزْمَانَا

 

يَجْلُو الْجُسُوْمَ وَيَجْلُو رُوْحَ ذِي مِقَةٍ

وَالْعَاشِقُوْنَ لَهُ سَمَّوْهُ “رَيَّانَا”

 

فِي الصَّيْفِ تَحْسَبُهُ فِرْدَوْسَ صَاحِبِهِ

وَيَرْتَوِي عَلَلًا مَنْ كَانَ ظَمْآَنَا

 

وَالشِّعْرُ يَنْظِمُ وَالْأَلْفَاظُ تَعْشَقُهُ

وَالْحَرْفُ يَثْمُلُ بَلْ قَدْ بَاحَ نَشْوَانَا

 

فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ لَاحَ مُنْتَشِيًا

وَالْكُلُّ مِنْ دَنِّهِ قَدْ رَاحَ سَكْرَانَا

 

لَكِنَّ خَلْقًا بَغَوْا فِي حَقِّه زَمَنًا

عَافُوْهُ دَهْرًا وَقَدْ ذَمُّوْهُ أَحْيَانَا

 

سُحْقًا لِقَوْمٍ تَنَاسَوْا فَضْلَهُ سَفَهًا

وَفَضَّلُوْا غَيْرَهُ زُوْرًا وَبُهْتَانَا

 

لَا يَرْعَوُوْنَ وَإِنَّ الزَّيْفَ مَقْصِدُهُمْ

وَالزُّوْرُ شَارَتُهُمْ سِرًّا وَإِعْلَانَا

 

لَوْمَا رَأَوْا طَعْمَهُ ذَاقُوْا حَلَاوَتَهُ

لَهَامُوْا فِيْهِ زُرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا

 

مَا ضَرَّهُمْ لَوْ أَتَوْا بَاكِيْنَ يَسْبِقُهُمْ

كُلُّ اعْتِذَارٍ نَمَا بِالشَّوْقِ نَدْمَانَا

 

مُقَدِّمِيْنَ فُرُوْضًا بِالْوَلَاءِ لَهُ

وَيُقْسِمُوْنَ لَهُ بِرًّا وَتَحْنَانَا

 

عُذْرًا أَيَا سَيِّدِي جِئْنَاكِ فِي ثِقَةٍ

بِأَنَّ عَفْوَكَ قَدْ وَافَى وَقَدْ آَنَا

 

وَإِلَّا فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ يَرْقُبُهُمْ

مَنْ شَاخَ مِنْهُمْ وَمَنْ ذَا كَانَ شُبَّانَا

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: