نادر في بلاد الإفرنج ( 1 ) 

بقلم: صلاح المكاوي
 حَطَّ (نادر) رحالَه في بريطانيا؛ فهو دائم التَّنقل والتِّرحال بين البلاد؛ لمناقشة الرسائل العلمية والإشراف عليها، وكذا تدريس بعض المواد التي تفرَّد فيها، أو إلقاء المحاضرات بمختلف اللغات في شتى الأصقاع.
وها قد سنحت له الفرصة لزيارة صديقه الذي لم يره منذ زمن، المكان يبدو كمُتحفٍ أثريٍّ مُبهر، إنه يحوي الكثير من التُّحف والمُنمنمات والكريستالات زائعة الصيت باهظة الثمن، فتلك سوقٌ رائجةٌ لأصحاب الأموال التي لايعرفون لها عددًا، ويهون عليهم إنفاقها بددًا!
المحل مُزجَّجٌ ومُزركش، يشعُّ بالألوان من كل زاوية، القطعُ الثمينة متربِّعةٌ على الأرفف تخطفُ الأبصار وتشدُّ برونقها وبريقها النُّظّار، وعلى الجانب الأخر من المحل يسيرُ الهُوينى عاملٌ سيريلانكيٌّ أعجميّ بهيئته البسيطة، يتحسَّسُ خُطاه لينفضَ ذرَّات الغبار العالقة ببعض القطع، يحسِبُ حسابَ كل خطوة يخطوها، متى يضع يدَه ومتى يرفعها حتى لايقع ما لا يُحمد عُقباه، وإلا فالعاقبةُ ساعتها ستكون وخيمة!
يلتقي نادر بصديقه، يبثُّة تحاياه وأشواقَة ويبرِّرُ له غيابَه وفِراقَه، وإذ بهما يلتفتان فجأة على صوت يصدرُ من جهة العامل الذي انطرح أرضًا وازرقّ وجهُه، وبالَ على نفسه مُبلِّلا ثيابَه من شدة الرُّعب!
ياتُري ما الخطب؟! يبدو أن الأمرَ جلل!
اقترب نادر وصاحبه من العامل أكثر؛ ليُعاينا حقيقة الأمر، وكانت المفاجأة التي عمل لها هذا العامل ألف حساب؛ لقد علِقتْ إحدى القطع الثمينة بكُمِّه بينما هو ينظف، ثم سقطت على الأرض وتكسَّرت نِتفًا، فياللهول!
ما العمل إذن؟! إنها باهظة الثمن، والخسارة بسببها كبيرة!
يقولها صاحب المحل وقد تملَّكه الغيظ، وصبَّ جامَّ غضبه على العامل الذي قد جثا على ركبتيه وطوّق رأسَه بذراعيه كمن يدفعُ عن نفسه أذىً سيقع عليه، يتوسل ويبكي بكاءً شديدًا، ويقول بالإنجليزية: ( قلبي ليس فيه تُراب، قلبي ليس فيه تراب) أي أن قلبي نظيف، لم أقصد كسرها، نيّتي سليمة.. هكذا ترجمها نادر.
اقترب نادر منه وهدَّأ من روعه وربتَ عل كتفه قائلا له: لاتقلق وجاء له بماءٍ وبعض العصير ليرطِّب جفافَ حلقه، ثم دخل نادر في حالة من الصراع الداخلي مع نفسه:
أأتركُه وهو الأعجمي غير المسلم لصاحب المحل يتصرف معه كيف يشاء، أم أدفع ثمنَها وأنتشلُه من الغرق الذي ألجمَه والرُّعب الذي داهمَه، وأُعدُّها إغاثةً للملهوف كما أمر ديننا الحنيف؟
على بركة الله، فتلكن الأخيرة؛ ربما رقَّ قلبه للإسلام، وعلم أنه دين الرحمة والتسامح.
لم يستغرق ذلك الصراع طويلا في نفس نادر، إذ لم يتعدّ الدقيقة الواحدة، وإذ بنادر يقول للسيرلانكي بالإنجليزية: أنا سأدفع ثمنها، لابأس عليك! بكى الرجل بشده وانتفض واقفًا كمن أُنقِذ من غرق وشرع يقول: (الله محمد.. الله محمد.. الله محمد) ثم سجد على الأرض كسجود المُصلِّى تماما.
ياألله! ماذا يقصد هذا العامل بما يقول، وماذا يرد بفعلته تلك؟!
فطنَ نادر إلى أنه يريد أن ينطق الشهادتين ويدخل في الإسلام، وما قوله ذلك وسجوده التلقائيّ إلا رغبةً في وُلوج هذا الدين الذي اعتبره الرجل مُنقِذًا ومُخلّصًا.
ذهبا به إلى مكتب الجاليات ليُعلن اعتناقه الإسلام رسميا ويتبدّل خوفُه أمنا.
بكى صاحب المحل من هول الموقف قائلا لصاحبه نادر: لقد كان همّي الدنيا والمادة، وأنت كنت تنظر إلى ما وراء كذلك، لم أكن أتوقع مطلقا أنه سيدخل في الإسلام كردَّة فعل سريعة لمعاملتك معه وإغاثتك له!
يقول نادر: ثم زُرتُ ذلك العامل بعد شهرين لأجد النورَ يرتسِمُ على مُحيَّاه ويُكسبُه ألقًا وبهاءً، ليستحيلَ وجهَه من العبوس والخوف إلى النور والطمأنينة بفضل الوضوء، فحمدتُ الله على انتصاري في تلك المعركة النفسية التي اعتملت بداخلى.
يرمقُ نادر صاحبَه بعينين يملؤهما الرضا تشرقُ منه ابتسامةٌ زيَّنت مُحيّاه الوضيء قائلًا: سبحان الله، لم أزرْك منذ فترة طويلة، ثم آتي ليفتحَ الله عليّ بهذا القلب فيدخل في الإسلام، فاللهم لك الحمد!
انخرط صاحبُ المحل في البكاء مرة أخرى، يجلدُ ذاته ويلوم نفسَه ويوبِّخُها ليقولَ له لنادر: انظر كيف تصرفتَ أنت وكيف تصرفتُ أنا؛ لقد فكرتَ في الرِّبح والخسارة، أما أنا ـ بفضل الله ـ فكرتُ فيما عند الله وأردتُ خيرَ الرجل بدخوله في الإسلام. فالحمد لله الذي جعلني سببًا، ثم مضى نادر إلى حال سبيله ضاربًا في الأرض إلى حيث يشاء الله في بلاد الإفرنج.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: