العربية في أرض الصين

 
 د . مصطفى شعبان 

حينَ نتكلم عن أرض الصين وحضارة الصين فنحن بصدد الحديث عن حضارة من أعظم وأرقى وأقدم الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخُ، فحديثي عن مسيرة العربية في أرض الصين سينعكس عليه تلك الخصوصية وذلكم التميز الفريد الذي اتسمت به الحضارة الصينية، وقد استخدم لأول مرة لفظة “alabi ” بدل “تياتشي” التي سبق لأهل الصين أن سّموا بها أرض العرب حتى بدأت مقابل العبارات أو الكلمات كـ”الجزيرة العربية” و”العرب” و”اللغة العربية” تظهر في الوثائق الرسمية بالصين اعتبارا من تلك الفترة التاريخية.
ويرجع تاريخ العلاقات بين الحضارتين الصينية والعربية إلى قبل الإسلام بعدة قرون كما تؤكِّد المصادر التاريخية الصينية أنَّ الصينيين كانت لديهم معرفة قوية بالعرب قبل الإسلام. كانت سياسة أسرة هان (206 ق.م – 8م) تهدف إلى فتح طرق تجارية مع الأقاليم الغربية للصين فيما عُرِفَ لاحقا بطريق القوافل أو طريق الحرير، وكان أباطرة أسرة هان يرسلون البعثات إلى الأقاليم الغربية، وبعد عودتها من رحلتها كانت تصف بلاد العــرب لإمبراطور الصين. إضافة إلى ذلك، كان للتجار العرب دورٌ مهمٌّ في العلاقات التجارية بين الصين والغرب قبل القرن الخامس الميلادي، لذلك كان الصينيون في عهد أسرة هان على دراية جيدة بالعرب.
وللصين تاريخ طويل مع اللغة العربية، إذ دخلت إلى الصين مع دخول الدين الإسلام إليها في القرن السابع الميلادي، لتنتشر بعد ذلك في أرجائها، وتدرس بين المسلمين الصينيين في البداية، والآن تدرس في الجامعات الحكومية.
ويمكن تلخيص مسيرة اللغة العربية في الصين في المراحل الآتية:
1) تعليم اللغة العربية في المساجد:
تشكل تعليم اللغة العربية في المساجد مع انتشار الإسلام وزيادة عدد المسلمين في الصين، فبدأ هذا النوع من التعليم في زمن جيا جينغ لأسرة مينغ (1522 – 1566 م)، على يد السيد خو دنغ تشو (1522 – 1597 م) العالم والمعلّم المسلم من قومية هوي في مقاطعة شانشي. فكان يقبل الطلبة في بيته ويعلمهم مجاناً اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ثم انتقل إلى المسجد. فبدأ هذا النوع من التعليم في مقاطعة شانشي وامتد تدريجيا إلى مقاطعات خنان وشاندونغ ويوننان وقانسو وبكين وغيرها. وكان التعليم في المساجد بازدهاره يشمل النظم الابتدائية والإعدادية والعالية، وكانت حالتها مثل حالة الدول العربية، حيث المساجد في الدول العربية تقوم بدور المدارس.
وقد بدأت المرحلة الأولى من مراحل تعليم اللغة العربية في الصين في نهاية عهدي مينغ وتشينغ (1368- 1911 م) دعا الشيخ الفاضل خو دنغتشو (1522 -1592 م ( إلى التعليم الإسلامي المسجدي، ما شكل تدريجيًّا مجموعة من أنظمة التعليم الإسلامي، رغبة منه في تقديم خدمات مباشرة للشؤون الدينية، ومن ثم أتى بعده بعض الحكماء بعيدي النظر في الفترة المخضرمة بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لينشئوا عددًا من المدارس الإسلامية على أساس تعليم جديد إلى حد ما، لكن بين جدران المساجد، والتعليم من هذا النوع وإن لم يكن قد كّون مقدرة لغوية لدى المتعلمين ليستطيعوا تجاوز فهم النصوص الدينية وترجمتها من العربية إلى الصينية، فإن تعليم اللغة العربية في هذه المرحلة قد تقدم خطوة واسعة بتعليم اللغة العربية إلى الأمام في الأزمنة الحديثة لدينا، ومن ثم شهد تقدمًا جديدًا مع الأيام الجديدة حتى أصبح في إمكان المقدرة اللغوية الناتجة عنه أن تنتقل إلى ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الصينية إضافة إلى بعض الترجمات الأخرى في مجالات الفلك والتقويم والجغرافيا وغيرها.
أما لهجة التعليم المسجدي فهي لهجة خاصة أساسها اللغة الصينية باللهجة المحلية، تمتزج بها بعض المفردات العربية والفارسية، وعلى الأخصّ مفردات المصطلحات والأعلام من اللغتين العربية والفارسية. وبالإضافة إلى ذلك فإن لكل عنصر من عناصر الجملة فيها لهجة أو تعبير خاص اخترعوها لتدلّ على محلّ هذا العنصر أو الكلمة من الإعراب، فعلى سبيل المثال، فإن للكلمة الواقعة حالا لها لهجة خاصة، وللكلمة الواقعة مفعولا مطلقا لها تعبير خاص، وللفعل الماضي لهجة خاصة، وللفعل المضارع لهجة أخرى… وهكذا، وبمجرد سماع أحدهم هذه اللهجة أو التعبير لكلمة ما، يفهم محلّها من الإعراب في الجملة الأصلية. وبناء على ذلك، فإن أسلوب الشرح والترجمة للمعلّمين والتلاميذ يكون على نمط واحد لا يكاد يختلف في شيء، حتى أنهم لا يختلفون في عدد المفردات المستخدمة عند شرح نص واحد أو ترجمته.
ومع ذلك هناك شيء من الاختلاف في اللهجات المحلية ومستوى الإتقان لشرح المواد المعينة، وترتّب على ذلك أن نشأت بعض مدارس حسب اللهجات المحلية، من أهمها مدارس أربعة: مدرسة شمال غربي الصين، ومدرسة يون نان، ومدرسة شان دونغ، ومدرسة شان سي. تتميز مدرسة شمال غربي الصين بحسن التعليم للتفاسير وشروح الحديث، وتتميز مدرسة يون نان بالجمع بين تعليم الكتب العربية والكتب الصينية، وتتميز مدرسة شان دونغ بإتقان اللغتين العربية والفارسية وباهتمام كتب الطرق الصوفية، وتتميز مدرسة شان سي بإجادة الشرح لكتب العقيدة والتفاسير.
وأما شياوجينغ فهي عبارة عن اللغة الصينية وبالتحديد اللغة الصينية بلهجة التعليم المسجدي والمكتوبة بالحروف العربية مع إضافة بعض الحروف الفارسية، وذلك نظرا لأن بعض المعلّمين والتلاميذ لا يعرفون اللغة الصينية أصلا، فلا يستطيعون القراءة ولا الكتابة للغة الصينية. فهؤلاء يشرحون الكتب المقرّرة بلهجة التعليم المسجدي، ثم يقومون بترجمتها إلى اللغة الصينية المكتوبة بالحروف العربية والفارسية. فشياوجينغ في الأساس هي اللغة الصينية بلهجة التعليم المسجدي نطقا، واللغة العربية حروفا وكتابة. وهذا الأسلوب سهّل على من لا يستطيع القراءة باللغة الصينية تعلّمُ اللغة العربية والعلوم الشرعية.
2) تعليم اللغة العربية في المدارس:
بعد ثورة عام 1911، ونتيجة لتأثير الحركة الثقافية الجديدة المتمثلة في مقاومة الإمبريالية والإقطاع عرف المسلمون الصينيون تدريجيا الجوانب السلبية للتعليم في المساجد وبدؤوا بإنشاء مدارس حديثة، وهي المدارس التي تدرس فيها اللغتان الصينية والعربية وهي تقبل أولاد المسلمين رئيسيا وتدرس المواد الثقافية الصينية والعربية في وقت واحد. وبعض هذه المدارس ابتدائية منها المدرسة الابتدائية الإسلامية الأولى من الدرجة الثانية في العاصمة (1908)، ومدرسة سيهجين في شاويانغ (1906)، ومدرسة مويوان في تشينجيانغ (1906)، والمدرسة الابتدائية الإسلامية للدرجة الثانية في تشيتشيهار؛ وبعضها متوسطة منها المدرسة العامة في شمال غربي الصين (كانت المدرسة الإسلامية عام 1928)، ومدرسة داتشنغ للمعلمين في جينان (انتقلت إلى بكين عام 1925)، والمدرسة الإسلامية للمعلمين في شانغهاي (1928)، ومدرسة مينغده المتوسطة في كونمينغ بمقاطعة يوننان(1930)(5). وقد تخرج في مثل هذا النوع من المدارس معظم العلماء المسلمين أمثال الأستاذ محمد ما كين والأستاذ عبد الرحمن نان تشونغ وغيرهما من المثقفين المسلمين الذين كانوا الدفعة الأولى من الطلبة الصينيين الموفدين إلى جامعة الأزهر بمصر.
وينبغي علينا بعد أن أخذنا لمحة عن المرحلة الأولى حول تقدم تعليم اللغة العربية وانتشارها في الصين أن نلقي نظرة على المرحلة الثانية، حيث أخذت الحضارتان- العربية الإسلامية والحضارة الصينية منذ القدم تشعان رونقا وروعة على ربوع آسيا وإفريقيا وأوربا لتبقيا درتين مشرقتين في قلوب الناس ّ ، لكن قطاعات واسعة من كلا الطرفين – الصيني والعربي- تعرضت لعوامل سلبية كثرية من ضغط الرياح الغربية بعد القرون الوسطى، بل إن بعض تلك الآثار السلبية قد مست كرامتنا إذ إن كلا من أمتينا، بل معظم الأمم المستضعفة قد تأذت بها بين فترة وأخرى خلال العديد من القرون حتى استطاعت أن تحقق الانتصار العظيم في الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث شرع الستار يرفع عن أكثر الأمم المستضعفة لتفتتح عصرا لاسترجاع عزتها الماضية.
3- تعليم اللغة العربية في الجامعات:
يعتبر الأستاذ عبد الرحمن نا تشونغ (أستاذ متقاعد في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين) أول من بدأ تعليم اللغة العربية في جامعة صينية، ففي عام 1943، وبعد تخرجه في جامعة الأزهر وعودته إلى الصين بدأ لأول مرة تعليم اللغة العربية في الجامعة المركزية (جامعة نانجينغ حاليا)، حيث ألف الأستاذ نا تشونغ أول كتاب منهجي لتعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية، كما بدأ لأول مرة في عام 1945 يلقي على الطلبة في الجامعة المركزية محاضرات حول التاريخ العربي الإسلامي.
وتعتبر جامعة بكين أول جامعة صينية أنشئ فيها تخصص اللغة العربية. ففي عام 1946، استقدمت جامعة بكين السيد محمد ما كين الذي تخرج في جامعة الأزهر، لإنشاء شعبة للغة العربية في قسم اللغات الشرقية بجامعة بكين. وبهذا اخترق تعليم اللغة العربية في الصين مناطق المسلمين السكنية وأدرج في نظام التعليم العالي بالصين الأمر الذي أوضح جيدا اهتمام الحكومة الصينية بإعداد الأكفاء الذين يتقنون العربية ويعرفون الثقافة العربية الإسلامية.
وفي هذه الفترة التاريخية الحاسمة عاد إلى تربة الوطن عدد كبري من العلماء الشبان المسلمين الصينيين من الأزهر ودار العلوم، بعد أن أمضوا في القاهرة مدة ثمانية أعوام معانين لوعة الشوق والحنين لبلدهم العزيز وأهاليهم الأحباء. وملا عادوا إلى الوطن الأم حظوا ببالغ الاهتمام من الحكومة المركزية بنانكين، إذ سرعان ما أصبح بعضهم شخصيات معروفة في الأوساط الدينية، وبعضهم رجال في النشاطات الاجتماعية، بينما الباقون احتشدوا في معهد اللغات الشرقية الوطنية بنانكين، الأمر الذي هيأ ظروفًا ملائمة لتبدأ البلاد مسيرة لا مثيل لها في التاريخ لتسيير تعليم اللغة العربية وفق مناهج التعليم الحديثة، فلم تمر سنوات حتى انتقل هذا المعهد إلى بكين مع انتقال مركز السلطة في البلاد إلى الشمال عام 1949، ليحل ما قد تشكل من طاقم السابق له من معلمي اللغة العربية جامعة بكين طبق توجيهات وزارة التربية والتعليم؛ وعلى هذا الأساس أصبح بإمكان اللغة العربية أخيرا أن تعتلي المنبر الأكاديمي في أول مؤسسة تعليمية وأكاديمية بالصين وذلك بصفتها فرعًا لغويًّا مُهِمًّا لأول مرة في تاريخ البلاد.
وقد قوبل تخصص اللغة العربية في جامعة بكين برعاية مباشرة من قبل وزارة التربية والتعليم، وكان للجامعة إذن خاص في اختيار خيرة الخريجين من أهم الثانويات في مختلف المدن الصينية لتلحقهم بقسم اللغة العربية التابع للجامعة، وتخضعهم لتدريبات مكثفة في صفوف صغيرة أي قليلة الأفراد. ومن ثم راحت ترسل البعثات الدراسية إلى القاهرة دفعة إثر دفعة بعد إنشاء العلاقة الدبلوماسية بين الصين ومصر، حتى إن شو آن لاي رئيس مجلس الدولة الصينية الأسبق قد خصص وقتًا في زحمة أعماله للاجتماع بأول بعثة قبل انطلاقهم إلى القاهرة رغبة منه في تشجيعهم على التعايش الودي مع الشبان العرب، والدراسِة بجد واجتهاد، وهذا يعكس مدى اهتمام الحكومة الصينية باللغة العربية منذ البداية.
ومع مرور الأيام تكونت لدينا أجيال متعاقبة من المدرسين الشبان الأكفاء الذين أُعِدُّوا عبر الجهود الخاصة، إذ إن جامعة بكين هي أول من أخذت تمد المدارس الأخرى بخيرة خريجيها في تخصص العربية رغبة منها في دعم إنشاء تخصص جديد للغة العربية في جامعات أخرى مثل جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، وجامعة اللغات والثقافة ببكين، وجامعة الدراسات الدولية ببكين، وجامعة التجارة والاقتصاد الخارجيين ببكين، ثم جامعة الدراسات الأجنبية بشانغهاي…، ولم تمر أعوام طويلة على المدارس العليا سالفة الذكر حتى حققت إنجازات ملحوظة في إدارة تخصص اللغة العربية وتمكن بعضها من إبراز مميزاته، بل إن بعضها قد بلغ مدى التحديات الذي بلغه أقدم أقسام اللغة العربية عندنا إلى حد معين. ومع ذلك علينا أن نكون منصفين فنقول إن كل قسم للغة العربية بالصين دائما ما يحافظ على علاقة التعاون الوثيق مع أشقائه من الأقسام الشقيقة المعنية باللغة العربية في كل حين وكل ظرف، ذلك من أجل غاية مشتركة بيننا ألا وهي دفع عجلة تعليم اللغة العربية لدينا ليحافظ على حالة تتكيف مع التطور المنشود بين الأمتين الصينية والعربية.
وترمي المقررات في تخصص اللغة العربية في الجامعات والمعاهد العالية بالصين إلى تدريب الطلبة لاستيعاب المهارات الأساسية الخمس: الاستماع والمحادثة والقراءة والكتابة والترجمة، وإعطائهم المعارف العربية والإسلامية الضرورية، منها موجز تاريخ الأدب العربي ومختارات أعمال الأدب العربي، وقواعد اللغة العربية، وعلم اللغة العربية، وعلم المفردات العربية، والبلاغة العربية، وتاريخ العرب، ومقتطفات من “القرآن الكريم” و”الحديث الشريف”، وموجز أحوال الدول العربية، والسياسة والدبلوماسية العربية، والاقتصاد والتجارة في العالم العربي، والثقافة والحضارة العربية الإسلامية.
إن تعليم اللغة العربية في تلك المرحلة يعد امتدادًا طبيعيا للمرحلة الأولى وتطورًا علميًّا لها في آن واحد، وأكبر فارق بينهما يتجسد -في نظري- في التدريس على ضوء الممنهج الأكاديمي؛ إذ إن اللغة العربية هي لغة بنية، بينما اللغة الصينية هي لغة فكر والفارق بينهما واسع، فإذا أراد دارس اللغة العربية أن يجتاز عتبتها فعليه أن يستوضح المفهوم الخاص بالهيكل صرفيًّا والإعراب نحوّيا في هذه اللغة، وهذا يقتضي أن يبذل الدارس ما يشق على نفسه من جهود. ونظرا لهذا السبب ظللنا نتبع مسار القواعد العربية التي انحدرت إلينا من جامعة الأزهر ودار العلوم عن طريق الرعيل المتقدم من الأساتذة، كالأستاذ محمد مكين وغيره من الأساتذة رحمهم الله، وجميعهم قد نهلوا بنجاح من علوم الأجهزة التعليمية الموثوق بها في العالم العربي.
استمرت حركة تعليم اللغة العربية في التقدم بشكل حيوي، حتى شهدت البلاد أزاهيرها تتفتح بعنفوان في أرجاء البالد، إذ انبثقت نحو أربعين قسما جديدا للغة العربية في سائر المدن الكبرى، كتيانجين، وشيآن، وشينينغ، وخاربين، ودارين، وتشونغتشينغ، وتشينغدو، ويانغتشو، ونانكين، ويانغتشو وغيرها من المدن الرئيسة ليلتحق بها ما يبلغ ألف طالب سنويا. أما المدارس الخاصة لنشر العربية فيصعب علينا أن نعطيها رقما مضبوطا، وإنما يقال لنا إن عدد طلابها على رأس الدراسة منتظمين كانوا أو غير منتظمين قد قارب عشرة آلاف طالب. هذه الحركة الجياشة تمثل تيارًا ثالثًا لحركة اللغة العربية في تاريخ الصين، وقد جاء هذا التيار في زمن يشهد موجة جديدة من الانفتاح الصيني وكذلك تيار عولمة الاقتصاد العالمي. وعندما نعود إلى إنجازات هذه المرحلة نحّول أنظارنا إلى الجامعات الأخرى، وفي مقدمتها جامعة الدراسات الأجنبية ببكين، وجامعة اللغات والثقافة ببكين، وجامعة الدراسات الأجنبية بشانغهاي، وتعد جامعة الدراسات الأجنبية ببكين صاحبة السبق، إذ تخرجت فيها أول مجموعة من حملة الدكتوراه في تخصص اللغة العربية وآدابها في هذه المرحلة، تحت إشراف أساتذة الجامعة مباشرة، وفي ظل رعاية المرحوم الأستاذ عبد الرحمن ناجون عمدة اللغة العربية الآخر في حقبة من الزمن من بلادنا، وذلك بعد تغيب نظام الدرجات العلمية عنا لعشرات السنين وعودته مؤخرا، وبزغ جيل مستجد إثر جيل مستجد فيها، ومن ثم في جامعتنا، وجامعة اللغات الأجنبية بشانغهاي، وجامعة اللغات والثقافة ببكين، حتى أصبحوا قوة ناشئة بدأوا يعتلون المسرح الدولي لنشر اللغة العربية وأدبها بوجوه مشرقة.
وبعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين حققت الجامعات الصينية طفرة جديدة في تعليم اللغة العربية، فمنذ الثمانينات من القرن العشرين وحتى اليوم، بدأت الدراسات العليا لتخصص اللغة العربية والأدب العربي على التوالي في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين وجامعة بكين وجامعة الدراسات الدولية بشانغهاي وجامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية ومعهد اللغات الأجنبية لجيش التحرير الشعبي الصيني والمعهد الثاني للغات الأجنبية ببكين، كما صار لجامعة الدراسات الأجنبية ببكين وجامعة بكين وجامعة الدراسات الدولية بشانغهاي الحق في منح درجة الدكتوراه لتخصص اللغة العربية والأدب العربي.
ومنذ التسعينات من القرن العشرين، ومع ازدياد التبادل الاقتصادي والتجاري والاتصالات الثقافية بين المقاطعات الصينية والدول العربية، بدأت المقاطعات الصينية تهتم بإعداد أكفاء يجيدون اللغة العربية، ففتحت جامعة نينغشيا وجامعة يوننان وجامعة القوميات في شمال غربي الصين ومعهد اللغات الأجنبية في تيانجين وجامعة هيلونغجيانغ على التوالي تخصص اللغة العربية لدرجة الليسانس وقبلت طلبة يتخصصون بالعربية، وسوف يتم إنشاء مثل هذا التخصص وقبول الطلبة في معهد اللغات الأجنبية في سيتشوان الذي يدرس بعض الطلبة فيه اللغة العربية كلغة أجنبية ثانية، ومعهد اللغات الأجنبية في داليان هذه السنة أو السنة القادمة..
وجدير بالذكر أن أقسام اللغة العربية في الجامعات الصينية قد حظيت بتفاهم وثناء ومساندة أكثر بعد تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، ففي عام 1987، تبرعت غرفة التجارة في دبي دولة الإمارات لإنشاء صندوق تعليم اللغة العربية دبي – شانغهاي في جامعة الدراسات الدولية بشانغهاي، وفي عام 1990، أهدت المملكة العربية السعودية معملا لغويا بكامل أجهزته إلى جامعة بكين، كما تبرعت إليها في عام 1995 لإنشاء أكاديمية ما كين للدراسات الإسلامية في جامعة بكين؛ وفي عام 1995، وبفضل تبرع صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تم بناء مركز الإمارات العربية المتحدة لتدريس اللغة العربية والدراسات العربية والإسلامية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين وبدأ استخدامه رسميا؛ وفي عام 1997، أهدى المكتب الإعلامي التابع لسفارة جمهورية مصر العربية لدى بكين إلى عدد من أقسام اللغة العربية في الجامعات الصينية أنظمة لاستقبال القنوات الفضائية. وإلى جانب ذلك أهدت الإمارات والسعودية ومصر والبحرين وتونس والمغرب ولبنان والكويت وعمان وليبيا واليمن والسودان وغيرها من الدول العربية إلى أقسام اللغة العربية في الجامعات الصينية كتبا ومطبوعات ومواد صوتية وبصرية، كما ترسل إليها بعثة جامعة الدول العربية لدى بكين والمكتب الإعلامي التابع لسفارة مصر لدى بكين دورياتهما ومنشوراتهما مجانا، كما يبادر كثير من أصحاب السعادة السفراء العرب والمستشارين في السفارات العربية في الصين إلى إلقاء المحاضرات أو الكلمات في الجامعات الصينية. وإضافة إلى ذلك لقي مجمع اللغة العربية بالصين للتدريس والدراسات تأييدا ومساعدة من قبل البعثات الدبلوماسية العربية في الصين في كثير من نشاطاته.
4- تعليم اللغة العربية في غير الجامعات:
إلى جانب تعليم اللغة العربية في الجامعات هناك أشكال عديدة لتعليمها وعلى مستويات مختلفة، معاهد العلوم الإسلامية، وقد تم بموافقة الحكومة الصينية إنشاء معهد العلوم الإسلامية بالصين التابع للجمعية الإسلامية الصينية وتحت رئاسة لجنة الدولة لشؤون القوميات مباشرةً في بكين عام 1955. ويقبل المعهد الطلبة المسلمين من أنحاء الصين، ومدة الدراسة فيه 4 سنوات، ومن مقرراته الرئيسية اللغة العربية والمواد الدينية. وبعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين، تم تطبيق مزيد من سياسات الشؤون القومية والدينية، فمن أجل إعداد عدد أكبر من الأكفاء المتخصصين والمحبين للوطن والدين، تم إنشاء معاهد العلوم الإسلامية في بكين ولياونينغ وشينجيانغ وتشينغهاي ونينغشيا وقانسو وخنان ويوننان وخبي وغيرها من المدن والمقاطعات، وكل هذه المعاهد تحت رئاسة اللجان المحلية للشؤون القومية والدينية في هذه المدن والمقاطعات، أما أهداف هذه المعاهد وأنظمتها فتشبه ما هي في معهد العلوم الإسلامية بالصين، ومدة الدراسة فيها 2- 3 سنوات.
5- المدارس المتوسطة:
تقع المدارس المتوسطة التي تدرس فيها اللغة العربية على وجه العموم في المناطق التي يعيش فيها المسلمون. وتنقسم هذه المدارس إلى نوعين، أحدهما مدارس عربية تدرس فيها اللغة العربية والعلوم الدينية رئيسيا، إضافة إلى بعض المقررات الثقافية المحددة في المدارس العامة، وهذا النوع من المدارس في عدد كبير وعلى مستويات مختلفة ومعظمها أهلية، منها مثلا مدرسة تشانغتشي العربية في مقاطعة شانشي، وكلية اللغة العربية في تونغشين بمنطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي. والنوع الآخر هو مدارس متوسطة عامة، تدرس فيها اللغة العربية كمادة هامة ولكن مقرراتها الرئيسية ثقافية عامة تحددها الدولة، وهذا النوع من المدارس الحكومية وطلبته مسلمون وغير مسلمين.
إن مسيرة اللغة العربية في أرض الصين تتنامى تصاعديًّا لتُخرج لنا في كل يوم أجيالًا من المترجمين والمثقفين والأكاديميين المرموقين البارزين الذين أسهموا بسهمة كبرى في دفع عجلة التلاحم الثقافي الحضاري والتبادل الفكري والتناغم الثقافي بين حضارتين من أعظم وأقدم الحضارات الإنسانية التي أخرجت للبشرية من العلوم المعرفية والكنوز الأدبية ما يعجز اللسان عن وصفه والتعبير عن جماله وإبداعه.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: