من قضايا اللغة (3)

من قضايا اللغة (3)

بقلم دكتور مصطفى شعبان

 

يُطرحُ في الآوِنَةِ المعاصرة كثير من القضايا المستجِدة في النحو والصرف واللغة تبحثُ عن مُعالجة تتوافق وقواعد لغة العرب وقوانينها وأصولها السماعية والقياسية المقررة، وقد عُرِضَتْ عَلَيَّ كَثيرٌ مِنْ تِلْكَ القضايا والمسائل فاجتهدتُ وأجبتُ عَنْها وفق ما استقر لدي من قناعة وما اجتمع عندي من دلائل، ومن تلك القضايا:

16- هل إدخال الفاء في جواب لئن فصيح أم عامي؟

الجواب:

تعلَّمنا في الدرس النحوي أن اللام الداخلة على (إنِ) الشرطية تُسمَّى اللامَ الموطئةَ للقسم، أي الممهِّدة للقسم، وهذا يعني أن العبارة فيها قسم؛ مثل: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)، وأنَّ (إنْ) الواقعةَ بعد هذه اللام حرف شرط يجزم فعلين، ففي قوله تعالى: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) اجتمع أسلوب الشرط مع أسلوب القسم، وكلاهما يَطْلُبُ جَوابًا، وليس في الجُملة سوى جوابٍ واحد هو (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)؛ ولذلك نَصَّتِ القاعدةُ النحوية على أنه إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما، وهنا القَسَمُ سبق الشرط بدليل اللام الموطئة للقسم، وهذا يعني أن الجواب (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) هو جواب القسم لا الشَّرط، وأنَّ اللام في (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) واقعة في جواب القسم وليس في جواب الشرط. وهو مذهب البصريين، وجَوَّزَ الفَرَّاءُ أن يكون الجَوَابُ جَوَابَ الشَّرْطِ.

ولو تتبعنا مواضع (لئن) في القرآن الكريم لوجدناها لم تخرج عن أسلوبين:

أحدهما: أن يكون جوابها جملة فعلية فعلها ماضٍ مقترنٌ باللام وهو الأكثر؛ نحو: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، و(لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بها)، و(لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ)،

والآخر: أن يكون جوابها جملة اسمية مجردة من الفاء؛ نحو: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ)، و(لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ). و(لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ)..

وعليه فإن اقتران الفاء بجواب (لئن) لا يُعَدّ من أساليب العربية الفصيحة، ولا يُمكن نَزْعُ الجواب مِن سُلطَةِ القَسَمِ لِيَدْخُلَ في سُلْطَانِ الشَّرْطِ وَقَدْ نَازَعَهُ القَسَمُ بِقرينة اللام المُوَطِّئَةِ له، اللهم إلا أن يُعَوَّلَ على دلالة السِّياق بأن يكون للشَّرْط فَضيلَةٌ دلالية تجعله أحق بالجواب من القسم فَيُعْطَى الجَوَابُ للشَّرْطِ، وساعتها فلا مانع من اقتران الفاء به في المواضع التي تَلْزَمُ الفاءُ جوابَ شرطِ (إن) على نحو ما هو مُقرَّرٌ في الدرس النحوي، ويُمكن قبولُهُ من هذه الحيثية فلا يُوصف بالعامية أو بالخروج عن الفصاحة.

والله تعالى أعلم.

17- متى تُكتب (في ما) بالفصل ومتى تكتب بالوصل؟

الجواب:

(مَا) الموصولة التي بمعنى (الذي) إذا وقعت بعد حرف من الحروف الثلاثة: (في، ومِنْ، وعَنْ) ففيها ثَلَاثَة مَذَاهِب ذكرها السيوطي في “الهَمْعِ” كالتالي: أَحدهَا أَنَّهَا تكْتب مُتَّصِلَة مَعهَا لأجل الْإِدْغَام فِي عَن وَمن، وَهُوَ مَذْهَب ابْن قُتَيْبَة، نَحْو: رغبت عَمَّا رغبت عَنهُ، وَعَجِبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، وفكرت فِيمَا فَكرت فِيهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا تكْتب مفصولة على قِيَاس مَا هُوَ من كَلِمَتَيْنِ، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا -يعني البصريين- وَبِه جزم ابْن عُصْفُور، وَهُوَ أرجح؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، وَلِأَن عِلّة الْوَصْل الْآتِيَة فِي (مِمَّن) وَهُوَ التباس اللَّفْظَيْنِ خَطًّا مفقودة فِي (مِمَّا)، وَالثَّالِث: أَن الْغَالِب تكْتب مَوْصُولَة وَيجوز كتبهَا مفصولة وَهُوَ اخْتِيَار ابْن مَالك. أ.هـ

ومذهب البصريين يُفَصِّلُهُ ابن درستويه في كتاب “الكتاب” فيقول: «ولا يجوز أن توصلَ (ما) بـ(في) عندنا؛ كقولك: رغبت في ما عند الله؛ لأنَّها بمعنى (الَّذي) ها هنا…، وإن جاءت (ما) المؤكدة الَّتي لا صلةَ لها بعد (في)؛ جاز وصلها بها، فأمَّا مَن وصلَها بها على كلِّ حال؛ فإنما شبَّهها بـ(من وعن)؛ لأنَّهما حرفا جرٍّ مثلها، وهنَّ على حرفين، وذلك رديءٌ، والقياس ما قلنا؛ لأنَّه يقع في (عن ومن) إدغام مع (ما)، وليس ذلك في (في)».

ولم يذكر الأستاذ عبد السلام هارون في “قواعد الإملاء” باب الفصل والوصل في (ما الموصولة) سوى وجه الوصل فقال: (الموصولة، النكرة، المعرفة التامة) توصل بهذه الكلمات: مِن، عن، في، سىّ، نِعْمَ؛ نحو: سألتُ عمَّا سألتَ عنه، رغبتُ عمَّا رغبتَ عنه، أفكر فيما تفكر فيه، لاسيَّما يومٌ بدارة جلجل، ((إنّ الله نعمَّا يعظكم به))، دققتُه دقًّا نعمَّا ….”. اهـ.

وبالنظر إلى مواضع (ما) مع (في) في القرآن الكريم فقد جاءت منفصلة (في ما) في (11) موضعًا، ونلاحظ أن أغلب تلك المواضع جاءت فيها (ما) موصولة بمعنى الذي. في حين نلاحظ أنها جاءت متصلة (فيما) في (24) موضعًا، وأغلب تلك المواضع أيضًا جاءت فيها (ما) موصولة بمعنى الذي، وجاءت في بعض المواضع تحتمل المصدرية مثل قوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ)، وقوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ). والعجيب أن الآية الأخيرة جاءت بالصورتين وصلا وفصلًا في سورة البقرة، فجاءت بالفصل في الآية (240): (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ)، وبالوصل في الآية (234): (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وعليه فالرأي أنَّ (ما) إذا كانت موصولة بمعنى (الذي) فالباب فيها واسع يجوز فيها الوصل والفصل والوصل أغلب استئناسًا بمواضعها في القرآن، وهو الرأي الذي اختاره ابنُ مالك. فإذا كانت مصدرية جاز وصلها بـ(في) بلا خلاف.. والله تعالى أعلم.

18- هل يلزم استعمال لغة وسيطة في تعليم العربية للناطقين بلغات أخرى؟

الجواب:

مبدئيًّا إنَّ غالبيةَ الملتحقين ببرامجِ تأهيل معلمي اللغة العربية أُحَادِيُّو اللغة، أي أن غالبيتهم لا يستطيعون التحدث بلغة وسيطة أو التواصل بلغة الطالب الأم، وإنما يعتمدون على اللغة العربية فقط. فبالنسبة لاستخدام لغة الطالب الأم في تعليم اللغة الثانية رأت بعض الدراسات الحديثة أن استعمال اللغة الأم عند تدريس اللغات الأجنبية أمر مشجِّع عند تعلم اللغة الثانية على أن يكون ذلك للمبتدئين، وتؤيد هذه الدراسة استعمال اللغة الأم في المراحل الأولى خاصة، وضمن نطاق محدد، وذلك في تفسير الأسئلة أو التدريبات، وذلك لعدم امتلاك الطالب القدرةَ على القراءة ومعرفة المطلوب منه؛ وعليه فلا مناص من تعرُّض المعلم في المؤسسة التعليمية لاستخدام اللغة الوسيطة أو لغة الطالب الأم، لكن ننصحه بأن يكون ذلك في أضيق الحدود.

وبالنسبة للمصادر الصوتية للمحادثات العربية فننصح السائل باعتماد أحد المصادر التالية:

1-الجديد في اللغة العربية – طبعة جامعة بكين.

2-العربية بين يديك سلسلة في تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها – العربية للجميع.

3-العربية للعالم – سلسلة في تعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى- جامعة الملك سعود.

هذا بالإضافة إلى مواقع ومنصات تعليمية تقدم فيها قنوات إخبارية عالمية معروفة محادثات عربية باللغة الفصحى.

ونتمنى لكم التوفيق والنجاح في تجربتكم الجديدة.

19- أأقول: اشتريت عجلين كليهما كبيرًا.

أم: اشتريت عجلين كليهما كبيرٌ.

أم: اشتريت عجلين كلاهما كبيرٌ.

أم: اشتريت عجلين كلاهما كبيرًا؟

الجواب:

لا تصح الثلاثة العبارات التالية:

اشتريت عجلين كليهما كبيرًا.

اشتريت عجلين كلاهما كبيرًا.

اشتريت عجلين كليهما كبيرٌ.

أما العبارتان الأوليان فوجه الخطأ فيهما، أنك لو أردت بـ(كبيرًا) النصب على الحاليةِ، فكان ينبغي أن تقول: اشتريت العِجْلَيْنِ كِلَيْهِمَا كبيرَيْنِ، فـ(كليهما) توكيد معنوي لـ(العجلين)، فيجب نصب (كليهما)؛ لأنها تابع لمنصوب، ويجب تعريف (العجلين) بأل لضرورة التطابق بين التابع والمتبوع تعريفًا وتنكيرًا؛ لأن (عجلين) نكرة، ولا يجوز توكيد النكرة مطلقا – عند البصريين -، وذلك لأن ألفاظ التوكيد المعنوي معارف، والنكرة تدل على الإبهام فهما متعارضان تعريفًا وتنكيرًا.

وأما العبارة الثالثة: فوجه الخطأ فيها، أنك لو أعربت (كبير) خبرًا، فكان ينبغي لك أن تقول: اشتريت عجلين كلاهُما كَبِيرٌ. برفع (كلاهُما) لأنها مبتدأ، و(كبير) خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب صفة لـ(عجلين).

مما سبق تستنتج أنه لم يصح من عباراتك إلا: اشتريت عجلين كلاهما كبيرٌ.

والله أعلم

20- هل نكتب: “ها أنا ذا”، أم “هأنذا”، أم “ها أنذا”؟

الجواب:

يجوز أن يُفصلَ بين (ها) التَّنبيه واسمِ الإشارة بضمير المُشار إليه، مثل: “ها أنا ذا، وها أنا ذي، وها نحن أولاء، وها أنت ذا، وها أنت ذي، وها أنتما ذان، وها أنتما تان، وها أنتم أولاء، وها هو ذا، وها هي ذي، وها هما ذان، وها هما تان، وها هم أولاء، وها هن أولاء “. ومنه قوله تعالى: {ها أنتم أُولاءِ تحبُّونهم ولا يُحبُّونكم}. ويستعمل هذا التعبير للإفصاح عن الشخص ومكانه، كأنه يقال: أين فلان؟ فيقال: ها أنا ذا، وها هو ذا.

والشائع المشهور في كتب أكثر المتقدمين والمتأخرين من النحاة واللغويين والأدباء هو الفصل بين (ها) التنبيه، والضمير، و(ذا) وأخواتها، هكذا: ها أنا ذا، وها أنت ذا…. ثلاث كلمات، كلُّ كلمة على حِدَةٍ.

وقد ورد استعمال: هأنذا (بوصل الجميع في كلمة واحدة). وسَنَدُهَم في ذلك القياس على (هذا وهذه وهذان وهؤلاء)، فقد أجازوا إسقاط الألف من “ها” التنبيه، تخفيفًا لمَّا كثرت استعمالها مع (ذا) جعلوها معها حرفا واحدًا. فكذلك تقول: هأنذا، وهأنت ذا، وهأنتم تكتب بألف واحدة، لأن “ها” مع الضمير كالحرف الواحد.

وجاء الرسم المصحفي بهذا في قوله تعالى: (هَأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران: 119)

واختلفوا في الساقط من “هأنذا” ونحوها، على قولين أحدهما: أن الساقط ألف “ها”، والآخر: أن الساقط ألف الضمير “أنا” ونحوه، بدليل أنهم قالوا: ها نحن ولم يقولوا: هنحن. وهو قول الفراء وصححه ابن مكي الصقلي، والمعتمد في قواعد الإملاء اليوم أنه قد حُذف من “هَأَنَذاَ” أَلِفان: ألف “ها” التنبيه، والألف الأخيرة مِن “أنا”، وما ألفها الأولى فقد وُصِلت بالهاء.

أما قولك: ها أنذا (بفصل “ها” ووصل الضمير بـ”ذا”)، فقد ورد في كتب النحاة واللغويين والأدباء، ولكنه أقل ورودًا واستعمالًا من نظيريه: (ها أنا ذا، وهأنذا)، والأمر فيه واسع، والله أعلم.). والله أعلم.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: