من قضايا اللغة (5)

بقلم مصطفى شعبان

 

يُطرحُ في الآوِنَةِ المعاصرة كثير من القضايا المستجِدة في النحو والصرف واللغة تبحثُ عن مُعالجة تتوافق وقواعد لغة العرب وقوانينها وأصولها السماعية والقياسية المقررة، وقد عُرِضَتْ عَلَيَّ كَثيرٌ مِنْ تِلْكَ القضايا والمسائل فاجتهدتُ وأجبتُ عَنْها وفق ما استقر لدي من قناعة وما اجتمع عندي من دلائل، ومن تلك القضايا:

29- كيف نفرق بين شروحات المرادي وترجيحاته في شرح ألفية ابن مالك؟

الجواب:

المرادي مِنْ نُحاة الأندلس، وهو ذو شخصية علمية متزنة يوافق نحاة الأندلس أحيانًا ويخالفهم أحيانًا أخرى، يميل إلى المذهب البصري وكثيرًا ما يرجحه ويصححه ويعلل لذلك، وأحيانًا يرجح المذهب الكوفي وهو قليل، وكان كثير الإجلال لابن مالك، يدفع عنه الاعتراضات ويعتذر ويعلل ويوضح مراد الناظم، ومن أمثلة ذلك:

قال بعد الشرح: “وأورد على الناظم أنه قسم الكلم إلى غير أقسامه؛ لأن الاسم والفعل والحرف أقسام الكلمة لا أقسام للكلم.

وأقسام الكلم أسماء وأفعال وحروف؛ لأن علامة صحة القسمة جواز إطلاق اسم المقسوم على كل واحد من الأقسام.

والجواب: أن هذا من تقسيم الكل إلى أجزائه، وإنما يلزم صدق اسم المقسوم على كل من الأقسام في تقسيم الكلي إلى جزئياته، والناظم لم يقصد ذلك”.

في باب المعرب والمبني بعد قول الناظم:

وشرط ذا الإعراب أن يضفن لا … لليا كجا أخو أبيك ذا اعتلا

قال: “ويشترط في إعراب هذه الأسماء مع الشرطين المذكورين شرطان آخران: أن تكون مفردة … أن تكون مكبرة … فإن قلت: فقد أهمل هذين الشرطين قلت: قد علق الحكم على ما لفظ به، وقد لفظ بها مفردة مكبرة فاكتفى بذلك” اكتفى بالمثال عن القاعدة”.

ويُعدُّ أبو حيان النحوي الأندلسي الوحيد الذي لم يخالفه المرادي في آرائه وأقواله، بل وافقه في كل ما ذهب إليه لأنه أستاذه وشيخه، فكان يعتدُّ برأيه وينقل عنه في شرحه بعض الآراء مبينًا رأيه في مسائل بلا تعقيب.

ففي باب النائب عن الفاعل بعد قول الناظم:

ولا ينوب بعض هذي إن وجد … في اللفظ مفعول به وقد يرد

قال المرادي:

“وإذا فقد المفعول به جازت نيابة كل واحد من هذه الأشياء.

قيل: ولا أولية لشيء منها، وقيل: المصدر أولى، وقيل: المجرور أولى، وقال الشيخ أبو حيان: ظرف المكان أولى”.

وفي باب الاستثناء بعد قول الناظم:

واستثن ناصبا بليس وخلا … وبعدا وبيكون بعد لا

بعد الشرح قال المرادي:

“وفي الارتشاف: قال ابن مالك وصاحب البسيط: هو المحذوف حذف الاسم لقوة دلالة الكلام عليه، وهذا مخالف لما اتفق عليه الكوفيون والبصريون من أن الفاعل مضمر لا محذوف”.

فالخلاصة أن اختيارات المرادي في شرح الألفية أغلبها جاءت تقريرًا لما ذهب إليه شيخه أبو حيان، وما ذَكَرْتَهُ من مسائل فمن باب الشرح والتوضيح لا الاعتراض والترجيح.. والله أعلم.

 

30- هل يجوز الفصل بين المضاف المصدر والمضاف إليه بالجار والمجرور؟

الجواب:

أرى أن الضبط الصحيح لهذه العبارة هو: (فَلْيَتُبْ إلى اللهِ مَنْ وَقَعَ لَهُ هذا الخَاطِرُ السَّيِّئُ).

على أن (مَنْ) موصول اسمي بمعنى (الذي) في محل رفع فاعل (فليتب)، و (وَقَعَ) صلة الموصول، و(هذا) فاعل (وَقَعَ)، و(الخاطرُ) بدل من (هذا).

أما تأويلك فلا أراه مقصودَ الكاتب، مع غموض المعنى فيه، زِدْ عليه أنَّ المضاف هنا مصدر، ولا يُفصل بين المضاف المصدر والمضاف إليه بالجار والمجرور في الراجح من مذاهب النحاة، وإنما يُفصَلُ بالجار والمجرور بين المضاف الوصف (اسم الفاعل) والمضاف إليه نحو: قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث أبى الدّرداء -: (هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي).. والله أعلم

 

31- ما حروف السببية وحروف التعليل؟ وما الفارق بينهما في الدلالة؟

الجواب:

حاول بعض العلماء أن يوجد ضابطًا فارقًا بين التعليل والسببية فقالوا: السببية تكون الجملة الأولى سببًا في الثانية؛ نحو: أمطرت السماء فاخضرت الأرض، والتعليل تكون الجملة الثانية سببًا في الأولى أو بيانًا لعلتها؛ نحو: اخضرت الأرض لأن السماء أمطرت.

وليس هذا الضابط بجامعٍ لأن السببية قد تكون الجملة الثانية فيها سببًا في الأولى كما في: مَرِضَ بالبَرْدِ، أي بسبب البرد، فالبرد سبب في المرض.

ويرى الأكثرون أن التعليل والسبب مصطلحان لمعنى واحد عند علماء العربية فلم يفرقوا بينهما لأنهما يدلان على المعنى ذاته، فأسقطوا باء التعليل اكتفاء منهم بالسببية، وربما استعملوا مصطلح التعليل وتارة مصطلح السبب دلالة منهم على أن المصطلحين بمعنى واحد

والتحقيق أن السبب: هو العامل المؤثر والمسبِّب، وهو متقدم – غالبا- على المسبَّب في الذهن والخارج، أما العلة فمتأخرة في الوجود متقدمة في الذهن، والتعليل فهو تبيين الغرض من إيقاع الفعل أو سبب وقوعه.

فالحروف السببية:

كالباء في نحو: “ماتَ بالجوعِ”، ومنه قولهُ تعالى: {فَكُلاُّ أخَذْنا بذنبه}.

وكـ (مِنْ) في نحو قولهِ تعالى: {مِمّا خطيئاتِهم أُغرِقوا}، وقول الشاعر: يُغْضِي حَياءً وَيُغْضَى مِنْ مَهابَتهِ.

وكـ (في) في نحو قولهِ تعالى: {لَمَسّكم فيما أَفضتُم فيه عذابٌ عظيم} أي بسبب ما أَفضتم فيه. ومنه الحديثُ “دخلتِ امرأَةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَستها” أي بسبب هِرَّةٍ.

وكـ (الفاء) في نحو قولهِ تعالى: (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) إذ المعنى: لا يكون قضاء عليهم فلا يكون موت لهم.

والحروف التعليلية:

كاللام في نحو قوله تعالى: {إنَّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ لتحكُمَ بينَ الناسِ بما أراكَ الله}.

وكـ (الكاف) في نحو قوله تعالى: {واذكرُوهُ كما هداكم}، أَي لهدايتهِ إيّاكم.

وكـ (حتى) التي للتعليل بمعنى اللام، في نحو: {اتَّقِ اللهَ حتى تفوزَ برضاهُ}، أي لتفوز.

وكـ (كي) في نحو قوله تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا).

وكـ (على) بمعنى اللام التي للتعليل، كقوله تعالى: {ولتُكَبّروا اللهَ على ما هداكم}، أي “لهِدايتهِ إيّاكم.

وكـ (عَنْ) في قولهِ سبحانه: {وما نحنُ بتاركي آلهتِنا عن قولك}، أي من أجل قولك، وقولهِ: {وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إلا عن مَوعِدةٍ وعَدَها إيّاهُ}.

والله أعلم

 

32- ما إعراب “أكثر” في قولنا: (كُنْ حريصًا أكثرَ)؟

الجواب:

(أكثر) اسم مشتقٌّ يختلف إعرابه في سياق الكلام وَفق موقعه، فقد يأتي مبتدأ، أو خبرًا، أو فاعلًا، أو مفعولًا به، أو نعتًا، ومن المواضع التي يأتي فيها (أكثر) نعتًا في الأصل، ولكنه نابَ في الإعراب منابَ منعوته المصدر: (باب المفعول المطلق) في نحو قولك: (كن حريصًا أكثر)، والتقدير: كن حريصًا حِرْصًا أكثرَ، فـ(حِرْصًا) مصدر مفعول مطلق حُذِفَ وأُقيمَ نَعْتُهُ (أكثرَ) مَقَامَهُ، ودَاعِي الحذف أن المفعول المطلق مفهوم من السياق، فلا وجه لتخطئة مَن أجاب بهذا الجواب، والمُخَطِّئُ مُخْطِئٌ؛ لأن (حريصًا) في الأصل نعت لمنعوت محذوف تقديره: كُنْ شَخْصًا حَرِيصًا، فإعراب (أكثر) نعتًا لـ(حريصًا) يلزم عليه نعتُ النَّعت، وهو الذي قيَّدَهُ النَّحاةُ بقيود منها أن يجري النعت الأول مجرى الاسم الجامد فيكون خبرًا عن مبتدأ أو بدلاً من اسم جامد.

ونعت النعت يجوز عند سيبويه ومنه: “يا زيد الطويل ذو الجمة” ومنعه جماعة منهم ابن جني والسهيلي ونقله أبو حيان والصبان، فلو قلت: مررت برجل عاقل كريم، فلا يجوز أن يكون ” كريم ” نعتًا لـ(عاقل)، ولكن نعتًا للاسم الأول؛ لأن النعت ينبئ عن الاسم المضمر، وعن الصفة، والمضمر لا ينعت، ولأنه قد صار بمنزلة الجملة من حيث دلَّ على الفعل والفاعل، والجملة لا تنعت، ولأنه يجري مجرى الفعل في رفعه للأسماء، والفعل لا ينعت.

والحق أن النعت قد يحتاج إلى نعت أحيانًا كما قال الأستاذ عباس حسن، مثل: هذا ورقٌ أبيضُ ناصعٌ. “أي: شديد البياض”، فالورق يشتمل مدلوله على جسم ولون مطلق، والنصاعة إنما هي تحديد للونه … ونحو: هذا وجه مُشرقٌ أيُّ إشراق!!

لكنَّ قولك: (كن حريصًا أكثر) على إعراب (أكثر) نعتًا لـ(حريصًا) الذي هو نعت في الأصل ليس من المواضع التي سوّغ فيها النحاة نعت النعت فيما أحسب، وعليه فلا يجوز إلا أن تقول: كونوا حرصاء أكثر.. على الإعراب الأول وهو الذي يُعرب فيه (أكثر) نائِبًا عن المفعول المطلق.. والله أعلم.

 

33- هل يجوز مجيء الجملة الإنشائية خبرًا؟

ما تردد في كتب النحاة صحيح وهو رأي ابن السراج وبعض الكوفيين كذلك، وحجتهم في ذلك -كما نقل الشاطبي في مقاصده الشافية- أن الجملة الواقعة خبرًا للمبتدأ مؤولة بالمفرد كما تقول: زيد أبوه قائم، فهو في تأويل: زيد قائم الأب، وكذلك: زيد يقوم في تأويل: زيد قائم، ولو حاولت تقدير الجملة الطلبية بمفرد لم يصح، لذهاب معنى الطلب إذا قدرت قولك: زيدًا اضْرِبْهُ، بقولك: زيدٌ مَضْرُوبٌ، بخلاف الجملة الخبرية، فإن معناها لا يذهب بتصييرها بالتقدير إلى المفرد، وما جاء مما ظاهره هذا فعلى إضمار القول، فالقائل: زيدٌ اضْرِبْهُ، هو على تقدير: مَقُولٌ فيهِ اضْرِبْهُ.

واحتج ابن الأنباري كذلك بأن الجملة الطلبية لا تحتمل الصدق والكذب، والخبر حقه ذلك.

وردَّ ابن مالك والجمهور قول ابن الأنباري من وجهين:

أحدهما: أن خبر المبتدأ لا خلاف في أن أصله أن يكون مفردًا، والمفرد من حيث هو مفرد لا يحتمل الصدق والكذب، فالجملة الواقعة موقعه حقيقة بألا يشترط احتمالها للصدق والكذب؛ لأنها نائبة عما لا يحتملهما. وما قاله ابن مالك صحيح؛ فإن المفرد يقع خبرًا إجماعًا ولا يحتمل ذلك وبالسماع كذلك، فلا يشترط في جملة الخبر أن تحتمل الصدق والكذب؛ بدليل أن المفرد يقع خبرًا ولا يحتمل ذلك. وأيضًا لو اشترط في الجملة احتمالها للصدق والكذب للزم من ذلك أن تكون أيضًا واقعة موقع ما لا يحتملهما؛ لأن المفرد لا يحتملهما، فالجملة إذا- وإن كانت خبرية- لا يصح تقديرها بالمفرد لذهاب معنى الخبرية واحتمال الصدق والكذب، فالحاصل أن الجملتين المحتملة وغير المحتملة بالنسبة إلى تقديرهما بالمفرد سواء، فما يلزم في إحداهما يلزم في الأخرى.

والثاني: أن وقوع الخبر مفردًا طلبيًّا ثابت باتفاق نحو: كيف أنت؟ فلا يمتنع ثبوته جملة طلبية بالقياس لو كان غير مسموع فكيف وهو مسموع كقول رجل من طيء:

قلتُ مَنْ عِيلَ صبرُه كيف يَسْلو … صاليا نارَ لَوْعة وغرام

وردَّ الشاطبي ما زعمه ابن الأنباري ومَنْ لَفَّ لَفَّهُ من إضمار القول بأنه لا يستقيم معناه، لأن معنى: زيد اضربه هو معنى اضرب زيدا من غير فرق، وأنت لو قلت: زيد مقول فيه اضربه لكان مخالفًا لمعنى اضربه فقد أوقعهم هذا التقدير في مثل ما فروا منه، والخبر في هذا المعنى مخالف للصلة والصفة؛ إذ المعنى على تقدير القول فيهما مستقيم وموافق للمعنى المراد، وهو في الخبر مخالف للمعنى المراد.

والله تعالى أعلم

 

34- هل لابن مالك رأيان في شرط جزم الجواب بعد النهي؟

الجواب:

فَطِنَ لذلك المرادي في “توضيح المقاصد” فقال:

“يعني: أن شرط جزم الجواب بعد النهي أن يصح إقامة شرط منفي مقامه، وعلامة ذلك أن يصح المعنى بتقدير إن قبل لا النافية نحو: “لا تدنُ من الأسد تسلم” “فهذا يصح جزمه لأن المعنى: إنْ لا تدنُ مِنَ الأسدِ تسلمْ” بخلاف “لا تدن من الأسد يأكلك”؛ فإن هذا لا يصح جزمه لعدم صحة المعنى بتقدير: إنْ لا تدنُ، هذا مذهب الجمهور، وأجاز الكسائي جزم جواب النهي مطلقًا، ولا يشترط تقدير إن قبل لا، بل يقدر: إن تدن من الأسد يأكلك.

وذكر في “شرح الكافية” أن غير الكسائي لا يجيز ذلك.

قلت – أي المرادي -: وقد نسب “ذلك” إلى الكوفيين”.

وكما شاع بين العلماء فكتاب (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد) هو من أواخر ما ألف ابن مالك في النحو، إذا ألفه بعد الكافية والألفية، وأهمية كتاب “التسهيل” تكمن في كونه يمثل الآراء الأخيرة والاختيارات الراجحة لابن مالك، فهو ثمار بحثه، ونتائج فِكَرِهِ، وسَّعَ ابن مالك فيه دائرة السماع باعتماده على لغة الحديث الشريف، مبرهنًا على أن جميع الشواهد الواردة في الأحاديث النبوية الشريفة، لها شواهد من أشعار العرب الذين أجمع النحويون على الاستشهاد بهم، ومن ثَمَّ يمكنك التعويل على رأيه الأخير الذي اختاره في “التسهيل” إن تبين لك رجحانه بالبحث والفحص، فهو آخر القولين من أقواله في المسألة،.. والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: