المقاصد والحياة (7/10)     

المقاصد والحياة (7/10)     

أ.د/ محمد العتربي  .. جامعة السلطان عبد الحليم الإسلامية  ( UniSHAMS)

اهتم العلماء بمقاصد الصوم  فكتب العز ابن عبد السلام سلطان العلماء رسالة نادرة في مقاصد الصوم جاءت هذه الرسالة على صغرها شاملةً لمقاصد الصوم في فصول عشرة، مبينًا فيها وجوب الصوم، وفضائله، وآدابه؛ من تعجيل الفطور وتأخير السحور، وحفظ اللسان عن الجوارح، وفيما يجتنبُ فيه من الوصال، والحجامة، والقُبلة، والكُحل، والمبالغة في الاستنشاق أثناء الوضوء.كما تناولت الرسالة التماسَ ليلة القدر، وما ورد فيها من أقوال، وترجيح الإمام العزِّ بن عبدالسلام أن تكون ليلةُ القدر هي ليلة الحادي والعشرين مع ذكر الدليل على ذلك، وفضل الإنفاق في رمضان، وقراءة القرآن، وما ورد في فضل الاعتكاف في العشر الأواخر منه، وفضل إتْباع رمضان بستٍّ من شوال، وما ورد في صيام التطوُّع؛ كصيام تاسوعاء وعاشوراء، وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة، وصوم المحرم، والأيام البيض، والاثنين والخميس. كما أورد النهي عن الصيامِ في يوم الشكِّ، والصوم بعد انتصاف شعبان، واستقبال رمضان بيومٍ أو يومين، وصوم يوم الجمعة منفردًا، وصيام أيام التشريق. وجاءت عناوين الفصول العشَرة على النحو التالي:الفصل الأول: في وجوبه.الفصل الثاني: في فضائله.الفصل الثالث: في آدابه.الفصل الرابع: فيما يجتنب فيه.الفصل الخامس: في التماس ليلة القدر.الفصل السادس: في الاعتكاف، والجُود، وقراءة القرآن في رمضان. الفصل السابع: في إتْباع رمضان بستٍّ من شوال.الفصل الثامن: في الصوم المطلق.الفصل التاسع: في صوم التطوع.الفصل العاشر: في الأيام التي نُهي عن صيامها.إذا تكلمنا في المقالة السابقة عن مقاصد الصلاة والزكاة  ، وتأكيدا لروح المقاصد الساري في شعائر الإسلام وشريعته نقف مع  مقاصد الصيام وفوائدها، وآثارها.

المقصد الأول : تحقيق الطاعة لله ولرسوله : مقصد الصيام الأعلى وفائدتها العظمى هو طاعة الله ورسوله، والمسلم يصوم رمضان  طيبة نفسه طاعة لله  الذي كتب الصيام وفرضه بقوله : (كتب عليكم الصيام كمت كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة : 183،ولرسوله بقوله ” من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ” متفق عليه ، وهي سبب كل سعادة في الدنيا وفلاح في الآخرة، قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران:132] قال السعدي رحمه الله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}:” بفعل الأوامر امتثالا واجتناب النواهي{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}:فطاعة الله وطاعة رسوله، من أسباب حصول الرحمة والصوم من آكد فرائض الإسلام، وعدم الصوم  من أعظم الكبائر.والله تعالى أمر بالصوم وجعل إيتائها من صفات المؤمنين الصادقين،

لقد شرع المولى تبارك وتعالى العبادات لغايتين؛ منها تحسين العلاقة بين العبد وخالقه عز وجل وربط المخلوق بخالقه جل شأنه، والإقرار له بالألوهية، والاستعانة به في جميع أحواله: “إياك نعبد وإياك نستعين” سورة الفاتحة الآية 4، ومنها أيضا تحسين علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وتوثيق الروابط بين أفراد المجتمع، ليستطيعوا أداء الأمانة العظمى، والنهوض بالتبعة الكبرى في عمارة الكون بالخير وتحقيق الخلافة في الأرض.

المقصد الثاني: تأديب النفس وتزكيتها:

جعل المولى تبارك وتعالى للصيام وظيفة اجتماعية إلى جانب وظائف الروحية، والصيام هو الذي يشيع في النفس الإحساس بالإنسانية، ويدربها على التحلي بالإيثار، قال عز وجل: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”” سورة الحشر الآية 9، والتحرر من الأنانية، ويربي فيها المقدرة على تحمل المشقات …، ولهذا فإن الصيام يساعد على التخلص من كثير من الشوائب التي يستحيل على الفرد أن يقف في مواجهتها دون أن يشعر بقسوة الحرمان، فالجوانب الروحية هي التي تحقق من حد الحرمان، وتجعل منه متعة للنفس والروح، وهي من أهم مقوماته الإجتماعية.

إن الصيام مدرسة للتربية النفسية، والخلقية والاجتماعية تجد على جنباتها دروس عالية غالية في الفضائل الإنسانية التي تكفل للحياة التي تسير سيرا آمنا مطمئن. والنظام الدقيق، والعمل المنسق، الذي يدرب الصائم على أن يسلك في حياته مسلك الدقة والنظام، ويعتاد السلوك المنضبط في شؤونه، وعلاقته مع الناس. والمسلمون جميعا يجمعهم نظام الصيام، وفي هذا إعلان لحقوق الإنسان من العدالة والمساواة.

إن الصيام في مظهره الاجتماعي، يعطينا صورة الأسرة العظيمة المكونة من مئات الملايين  التي تنتشر في جوانب الأرض، وتقترن شعائرها الدينية كل يوم بأمس ما يحس به الإنسان في معيشته اليومية، وهو أمر الطعام والشراب، ومتع الأجساد، والملايين من المسلمين في جوانب الأرض يطعمون على نظام واحد، يستقبلون صيامهم على نظام واحد، وقلما انتظمت أسرة بين جدرانين على مثل هذا النظام.

المقصد الثالث:  تحقيق الرحمة والشعوربحاجة الفقراء والمساكين:

من أسرار الصوم الاجتماعية أنه تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح، تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة ونداء الأمعاء، فإن الذي في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع ولم يذق مرارة العطش، لعله يظن أن الناس كلهم مثله، وأنه مادام يجد فالناس يجدون، ومادام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير، فلن يحرم الناس الخبز والبقول! فلا غرو أن جعل الله من الصوم مظهرا للإشتراكية الصحيحة، والمساواة الكاملة وجعل الجوع ضريبة إجبارية يدفعها الموسر والمعسر، ويؤديها من يملك القناطير المقنطرة ومن لا يملك قوت يومه، حتى يشعر الغني أن هناك معدات خاوية، وبطونا خاوية، وأحشاء لا تجد ما يسد الرمق. ويطفئ الحرق، فحري بإنسانية الإنسان، وإسلام المسلم، وإيمان المؤمنين أن يرق قلبه وأن يعطي المحتاجين وأن يمد يده إلى المساكين. فإن الله رحيم، وإنما يرحم من عباده الرحمان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال أيضا: (من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

ومن هذا نعلم أن الصوم يحقق التكافل المعيشي بين أفراد المجتمع الإسلامي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وهو شهر –أي رمضان- المواساة)، (من خفف فيه عن مملوكه  …)، (من فطر صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره). هذه العبارات كلها رموز لمعان عظيمة في شأن الرسالة الاجتماعية للشهر المبارك حين يعاني الكل مذاق الجوع والظمأ، والسهر والقيام. ويكابد ما يكابده الفقير في السنة كلها. يقترب الشعور من الشعور ويرق القلب من عمق الإحساس، فتتدفق مشاعر الرحمة والفضل والكرم، والتعاون والتآزر وتأسيس العلاقات الاجتماعية الراشدة، الفقير عفيف والغني جواد كريم، والتواصل يحقق التكافل والكفاف، وعدو الإيمان الكفر يطرد من صفوف المجتمع المسلم.

يتسابق بعض الناس أمام وسائل الإعلام لإظهار التعاطف الكاذب مع المستضعفين برش بعض الفتات يلتقطه المنهوكون، ويهتفون بهتافات الشبع والرضى وما الرسالة الاجتماعية التي يريد الله تعالى منا أن نشبع لذة المترفين بالنظر إلى المفقرين يتسابقون على ما جادت به اليد العليا. إنما الرسالة الاجتماعية لهذا الشهر المعظم والدين المكرم أن تنظم الجهود وتعبأ الطاقات لطرد الفقر بيننا لتحقيق العيش الكريم، والكفاف والعفاف والغنى عن الناس. المسلم ذو كرامة، فينبغي أن يكفي مئونة نفسه وأسرته وعائلته.

وإذا لم يتحمل من طوق أمانة المسلمين ذلك، فلا مفر من جمع جهود المستضعفين فيما بينهم وتنظيمها لتكون قوة اجتماعية فاعلة أرضيتها الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وعنقها تحقيق المواساة الدائمة، مبتغاها رضي الله تعالى وإدخال الطمأنينة على المستضعفين من بني الإنسان.

المستضعف للمستضعف، والمسكين للمسكين والمؤمن للمؤمن، يدا في يد، وقلبا على قلب، صفا متراصا لاستنزال نصر الله تعالى على كل آفة خلقية واجتماعية وغيرها. قال الله عز وجل: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات”سورة البقرة الآية 55.

فالبعد الاجتماعي إذا بهذه الصفة الواقعية لا ينفك أبدا عن فريضة الصوم، بل هو مقصد من مقاصدها وسر من أسرارها، ولعل من يراقب مجتمعات المسلمين خلال شهر رمضان يتأكد حقا من هذه الحقيقة الثابتة، إذ يكثر الخير عن طريق المواساة والتضامن والتكافل الاجتماعي، وهذا المبدأ الجليل كان راسخا ثابتا في رصيد حياة النبيين والصديقين والسلف الصالح لهذه الأمة المسلمة، فقد كان يوسف عليه السلام لا يشبع من طعام بالرغم من كون خزائن مصر كلها تحت تصرفه، وقد سئل في ذلك فقال: أخشى إذا شبعت أن أنسى ما يفعله الجوع بالفقراء  ،وجا في بعض الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشبه الصورة المأثورة عن يوسف الصديق … روى أن: (رسول الله كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان). فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة وهو تعبير جميل ينم عن عميق مواساته وتضامنه مع ذوي الحاجات والإملاق والمسغبة. وللحديث بقية في المقالة القادمة والله المستعان .

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: