میادین

میادین

دكتور بلال رامز بكري

 

المیدان فسیح ورجل المیدان غیر موجود، فأحوال الخلق لیست مثل ما تعرفھا، ظواھرھم تشبھ طواھر الأولیاء لكن لیس في باطنھم رائحة”

“.الإسلام

ھذا القول المنسوب إلى الصوفي العظیم الشاعر والمفكّر مولانا جلال الدین الرومي یأتي على ذكر المیدان. ولعلھّ أراد ھنا میدان الجھاد فيالحرب والسلم، وفي العلم والعمل. ولعلھّ أراد المعنى الرمزي المجازي، فأشار إلى خلوّ المیدان من الرجال المجاھدین، ولیس إلى خلوّه مطلقا منھم.

وما إن تذكر كلمة “المیدان”، حتى تتبادر إلى الذھن معاني تفید المبارزة والمسابقة والاقتتال. فمن “میدان المعركة” إلى “میدان سبق الخیل” إلىمیادین العلوم والآداب والفنون كافة حیث یتناطح الأساطین والجھابذة ویتجادلون ویطعن بعضھم بعضا ویلمز بعضھم بعضا ویتباغضون

.ویتحاسدون. إذًا، فما إن یذكر میدانٌ من المیادین، حتى تتسلل إلى العقل الباطن معاني الكفاح والنضال والمجالدة والمجاھدة

ولست أدري ما السبب الذي دفع إخواننا في مصر إلى استخدام مصطلح “میدان” في تسمیة ساحاتھم العامة في مدنھم. فلا یكاد المرء یقع على لفظ”ساحة” في الإشارة إلى أي مرفق من ھذه المرافق المدنیة العمرانیة العامة. فمن میدان التحریر إلى میدان طلعت حرب مرورا بمیدان عبد المنعمریاض ووصولا إلى میدان مصطفى كامل. كلھا میادین تزخر بھا القاھرة وتشكّل رموزا لھا ومعالم وعلامات بھیة وأماكن تجمع ونقاط وصل بین.مختلف شوارع وتقاطعات المدینة العریقة. ولا یكاد المرء یقع على أي ذكر لمصطلح “ساحة” في مصر المحروسة

وھذا على خلاف بلدان بلاد الشام المختلفة. ففي لبنان وسوریة، لا نكاد نقع على لفظ “میدان” للدلالة على أي من المرافق العامة المدنیة. ففيبیروت ھناك ساحة النجمة وساحة الشھداء وساحة ساسین. وفي دمشق ساحة المرجة وساحة الأمویین وھناك حي بأكملھ اسمھ حي المیدان دون أنیكون ھذا الاسم دلالة على ساحة بعینھا. لذلك فإن الاختلاف ظاھر بین بلاد الشام ومصر في تفضیل إحداھما مصطلح ساحة، الذي یجنح أكثر نحو.الھدوء والسلم، في حین أن الأخرى تفضّل مصطلح میدان، الذي یذكرنا بالصراع والعراك والمقارعة

على أیّة حال، فھذه الاختلافات في استخدام الألفاظ موجودة بین شطري الوطن العربي الآسیوي والإفریقي، وبین مشرقھ ومغربھ. ففي تونسالخضراء على سبیل المثال یستَخدَم لفظ “نھج” كمرادف لكلمة “شارع” المستخدمة في معظم البلدان العربیة. وقد كان غریبا على مسامع معظمالعرب المشارقة استخدام الرئیس اللیبي الراحل معمر القذافي للفظ “زنقة” (الذي یفید معنى زاروب أو مسلك ضیق) في سیاق إحدى خطاباتھ إبانالربیع العربي طیب الذكر. وھناك لفظ “ركح” الذي یستخدمھ المغاربة من العرب للدلالة على خشبة المسرح، وھو لفظ یكاد یكون مجھولا لدى.المشارقة، فیقول إخواننا المغاربیون “الفنون الركحیة” للدلالة على الفنون المسرحیة

ومن ھذه الاختلافات الشائعة بین مصر والشام استخدام المصریین لكلمة “عیش” بدل “خبز” الشائعة في بلاد الشام وربما في باقي البلدان العربیةكذلك. كنت ألاحظ في الأفلام والمسلسلات المصریة حتى زمن لیس ببعید أن المصریین كانوا یستخدمون لفظ “عربیة” للدلالة على “السیارة”، وھواللفظ الأكثر شیوعا في بلاد الشام مثلا. في رحلتي ھذه إلى مصر، وجدت أن لفظ “سیارة” صار شائعا لدى المصریین وربما طغى على لفظ”عربیة” الشائع قدیما، أو حل محلھ كلیا. وینتقل الأمر إلى مأكولات ومشروبات أخرى، فالحلیب في بلاد الشام ھو اللبن في مصر، والفریز لدىاللبنانیین والسوریین ھو الفراولة، والبندورة في بر الشام ھي الطماطم في أرض الكنانة، والفلافل في فلسطین ھي الطعمیة في وادي النیل، وھكذا.دوالیك

ولا بد أن ھذه الاختلافات في ظاھر الكلمات تعكس أیضا اختلافات في نفسیات الشعوب العربیة مشرقا ومغربا وفي بواطنھا وتقالیدھا وعاداتھاوأعماق فكرھا. فما كانت ھذه التسمیات لتجيء عفو الخاطر، وما كانت لتكون استنسابیة عشوائیة. ھذا لا یعني أن فیھا تكلفًّا أو تعمّلًا أو تصنّعًا،.ولكنھا مرآة لاختلافات عمیقة في طرائق التفكیر وفي سبل المعاش بین العرب على اختلاف أقالیمھم وبلدانھم

وإنني وإن كنت لا أدري ما السبب الذي یقف بین الاختلاف في التسمیة بین ساحات بلدان بر الشام وبین میادین مصر، فأعتقد أن مؤاخذا لنیؤاخذني في ما لو حاولت تخمین ذلك. فإن أصبت فإنني أكسب أجرین وإن كانت الأخرى فلي أجر واحد على اجتھادي. لعلّ اخواننا المصریینفضّلوا المیدان على الساحة لأنھم في رباط دائم للذود عن الإسلام والعرب، ولأنھم تسلموا أمانة قیادة ھذه الأمة منذ بضعة قرون. فكانت حیاتھمقتالا في قتال ونضالا في نضال. فرغم وداعتھم ودماثتھم وطیبتھم فإنھم شعب مناضل مكافح. ویبدأ نضالھم وكفاحھم من أجل البقاء في وادي النیلالمحاصر بالصحراء من كل الجوانب. ومن ثم كفاحھم ضد الغزاة الأجانب على مر العصور. وأخیرا كفاحھم ضد الطغاة والظالمین الذي یتسلطون.علیھم. فكانت كلمة “میادین” أصدق تعبیرا عن طبیعة حال المصریین وأعظم دلالة على ما یعانونھ ویكابدونھ

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: