ليست حربا

ليست حربا

بقلم: د. منير لطفي

 

في عام ١٩٩٦م، أي قبل أكثر من ربع قرن، وفيما يشبه قراءة الغيب، كتب أحد نشطاء الهنود الحمر، وهو الأمريكي مايكل هولي إيجل، قائلا: “يا الله، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! إبادات كثيرة واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك”، وها قد تحققت نبوءته، فحجم الدمار الذي يتقصده الصهاينة في غزة اليوم، والذي طال الحجر والشجر والبشر دون أدنى تمييز، ومئات الألوف من الجنود والعتاد المستنفر لاجتياح القطاع برا وبحرا وجوا، يدل بكل جلاء على أن هذه ليست حربا على مغنم، ولا ردا لصفعة مذلة باغتتهم بها المقاومة الباسلة على قفاهم العريض، بل هي إبادة جماعية تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ثمانية قرون حين أباد الأوربيون والأمريكيون السكان الأصليين للأمريكتين واستراليا، فالجلاد المقدس هنا وهناك واحد، والضمير المدنس هنا وهناك واحد. ومن أجرى الدماء أنهارا فقتل أكثر من خمسة وأربعين مليونا من بني جلدته في حربين عالميتين، لن يمنعه ضميره من التصفيق لقتل وقبر بضعة ملايين في غزة إن استطاع الصهاينة إلى ذلك سبيلا، خاصة بعدما جردوهم من إنسانيتهم ولم يروا بأسا في وصفهم بالحيوانات البشرية، تماما كما فعل آباؤهم مع الهنود الحمر قبل ذلك.

كنا نظن أن إنذاراتهم المتكررة بإخلاء مستشفيات غزة تمهيدا لقصفها، هو من قبيل التخويف والترهيب، ورسالة للمربوط يرتجف منها السايب، ولكنهم بكل نذالة وحقارة تليق بهم فعلوها يوم السابع عشر من أكتوبر في مستشفى المعمداني بحي الزيتون جنوب مدينة غزة، هل رأيتم فجرا أكثر من ذلك؟! قصفوا المصابين الممددين على الطاولات وفي الطرقات، وقصفوا الشهداء الذين غصت بهم الثلاجات، وقصفوا جموع النازحين الذين احتموا بها بعدما هجروا قسرا من بيوتهم!! والله إن النازية والفاشية لتتضاءل أمام أفعال كهذه.. ففي أكثر الحروب دموية ووحشية يتم تحييد المستشفيات، وضمان سلامة الأطقم الطبية والإغاثية، والسماح بالحد الأدنى من ضرورات الحياة كالماء والغذاء والوقود والدواء.

 

وواضح أنهم لم يسمعوا ب (صن تزو)، ولم يقرأوا كتابه عن (فن الحرب)، وبالتالي لا يعترفون بأول قواعدها الخمسة وهي الأخلاق. وواضح أيضا أن اتفاقيات جنيف الأربع التي ولدت في منتصف القرن العشرين لتنظيم السلوك أثناء النزاعات العسكرية والعمليات المسلحة تخص غيرهم، أما هم فأولاد ذوات على رأسهم الريش وتحت قدمهم القانون!

اللافت للنظر هنا؛ هذا الدعم المادي والمعنوي اللامحدود من الغرب، والاصطفاف السافر لأمريكا مع الكيان الغاصب وكأنها معركتهم لا معركة البضعة ملايين من صهاينة فلسطين.

وفي الوقت ذاته، يلفت نظرك ويحز في نفسك، هذا التخاذل المريب من أصحاب القرار العربي الذين يعالجون الأمور بدم بارد وكأنها خناقة عابرة على ناصية شارع بعيد، حتى بيانات الشجب والاستنكار التي كنا نسخر منها صارت بعيدة المنال!

وهذا يدعونا إلى مراجعة فهمنا للقضية الفلسطينية في ضوء معطيات جديدة على البعض قديمة على البعض الآخر، ثم الترحم على رجال كزايد ومرسي وفيصل، كانت فلسطين تسكن قلوبهم وتجري كالدماء في عروقهم، ولو شهدوا هذا اليوم لكانت لهم كلمة حق مدوية في وجه هذا الصلف الصهيوصليبي اللامسبوق، فحقا..في الليلة الظلماء يفتقد البدر.

الدرس الأهم الذي كتبته المقاومة بذراعها الطويلة ورايتها الخفاقة في السابع من أكتوبر الجاري، والذي لا يريد الخانعون الكثر فهمه واستيعابه: أن كل شيء ممكن، وممكن جدا، شرط أن نتحرر من الخوف، كل الخوف، وفي كل مكان..

ولعل السادة المطبعين، وفي مقدمتهم عباس وسلطته التي راهنت على المفاوضات ثلاثين عاما ولم تجن سوى العار والشنار، يقرأون وعد الحق سبحانه: “إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”. الأنفال ٦٥,٦٦

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: