حِكَايَةُ كَلِمَةِ جَـامِـعِ الـعُـلُـومِ في اسْتِقْبَالِ الـشَّـيـخِ الـجَـلِـيل

 

 
سَعْد بن عَبد العَزيز مَـصْـلـوح

حِينَ طَالَعَني نَعِيُّ عَالِمِنَا الـمَكِين الأُسْتَاذِ الدُّكْتورِ مُحَمَدِ بن أَحْمَدَ الدَّالي أَخَذَتْني الأَوَاخِذُ، وتَخَالَـجَـتْني الأَحْزَانُ بِمَا أصَابَ العِلْمَ مِنْ صَدْعٍ لا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ رَأْبُهُ، وبِمَا خَلَّفَ مِنْ فَرَاغٍ يَعِزُّ عَلى العَرَبِيَةِ أَنْ تَجِدَ مِنْهُ عِوَضًا. وَلَقَدْ فَزِعْتُ إلى سِيرَةِ الرَّجُلِ العَامِرَةِ بِجَلائِلِ الأَعْمَالِ عَلى مَعْرِفَتي بِكَثِيرٍ مِنْ تَفْصِيلاتِها، وإلى عُمْرٍ مُبَارَكٍ أَنْفَقَهُ طَائَعًا مَحْبُوراً في خِدْمَةِ القُرْآنِ المَجِيدِ ولِسَانِهُ وعُلُومِهُ الشَّرِيفَةِ، فَغَشِيَني مِنْ رَوْعَةِ الفَّقْدِ مَا غَشِيَني؛ إذْ سَقَطَ عَلَينَا نَبَأُ رَحِيلِهِ مِنْ حَيثُ لا تَوَقُّعَ ولا احْتِسَاب، فَزَلْزَلَ قُلُوبَ أَحِبَّائِهِ وتَلامِيذِهِ وطُلاَّبِ عِلْمِهِ، لا في مَوْطِنِهُ حَسْبُ، بَلْ في كُلِّ صُقْعٍ يُقَامُ فِيهِ لِلعَرَبيَّةِ مِنْبَرٌ، ويُرْفَعُ لَها في مَعَاهِدِهِ لِوَاءٌ. وإذَا اللِّسَانُ والفَؤَادُ كِلاهُمَا يَلْهَجُ بِدَعْوَةٍ صَادِقَةٍ خَالِصَةٍ أنْ يَجِدَ الشَّيخُ ثَوَابَ مَا قَدَّمَهُ حَاضِراً، وأَنْ يُثَقِّلَ اللهُ بِهِ مَوَازِينَهُ، ويُيَمِّنَ كِتَابَهُ ويُيَسِّرَ حِسَابَهُ، ويَتَلَقَّاهُ بِسَابِغِ الرَّحْمَةِ والـمَغْفِرَةِ والرُّضْوَان.
بَيدَ أَنِّي – وَلَسْتُ أدْري كَيفَ ذَلِكَ كَانْ – أَرْسَلْتُ نَفْسِي مَعَ بَعَائِثَ فِكْرِي تُرَاوِدُ الغَيبَ الـمُحَجَّبَ، وتُصَاحِبُ رُوْحَ الشَّيخِ في رِحْلَتِها السَّمَاويَّةِ الـمُبَارَكَةِ إلى حَضْرَةِ الـخَيَالِ، حَيْثُ تَتَجَسَّدُ الأَرْواحُ وتَتَرَوحَنُ الأَجْسَادُ؛ فَإذَا الـمَشْهَدُ الـحَاضِرُ يَتَوَارَى رُوَيداً، وإذَا القَومُ مِنْ خَاصَّتِي وَذَوِي إيلافِي يَنْتَبِذُون مِنَ الـمَشْهَدِ مَكَاناً قَصِيّاً يُسَاقُونَ إِلَيهِ فَهُمْ يُوزَعُون، وإذَا الـمَكَانُ غَيرُ الـمَكَانِ، والـمَجْلِسُ غَيرُ الـمَجْلِسِ، والـمَلأُ غَيرُ الـمَلأِ. وإِذَا أنَا أَمَامَ قَوْمٍ لَيسُوا مِنْ أهْلِ زَمَانِنَا؛ يَزِينُهُمُ الوَقَارُ؛ يَجْمَعُونَ طَيَالِسَهُم عَلى فَضْلٍ وَزُهْدٍ وَوَرَعٍ، وَيَلُوثُونَ عَمَائِمَهُم عَلى أَمْثَالِ البُدُورِ التَّوَامّ. وإذَا شَيخٌ يَنْهَدُ مِنْ بَينِهِم مُحَدِّثاً أصْحَابَهُ بِلِسَانٍ بَلِيْلٍ وَبَيَانٍ رَائِقٍ جَمِيْل. ثُمَّ جَعَلْتُ أَسْتَكِفُّ وأَسْتَشْرِفُ وأَسْأَلُ، فَقِيلَ لِي: هَذَا زَينُ أَصْفَهَانَ ويَعْسُوبُ الـنُّحَاةِ؛ جَامِعُ الـعُلُومِ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنُ عَلِيّ البَاقُوليُّ قَامَ يَحْتَفِي مَقْدِمَ ابنٍ نَجِيبٍ مِنْ عَالَمِ الأَغْيَارِ إلى عَالَمِ الأَنْوَارِ؛ هُوَ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بنُ أحْمَدَ الدَّالِي، فَجَعَلْتُ أَسْتَسْمِعُهُ، وَقَدْ خَشَعَتِ الأَصْوَاتُ مِنْ حَوْلِهِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْساً؛ فَلِلَّهِ مَا سَمِعْتُ مِنْ قَوْلٍ يَلِجُ في طَيَّاتِ القُلُوبِ! ولِلَّهِ صَاحِبُنَا وَقَدْ أَقْبَلَ على القَوْمِ يُبَيِّنُ لَهُمْ وَيَعِظُهُم وَيَقُولُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِم قَولاً بَلِيغاً، مُـحْـتَفِياً قُدُومَ أَبِي أَحْمَدَ عَلى مَجْلِسِ القَومِ فِي بِشْرٍ وطَلاقَةٍ وإِينَاسٍ فَيَقُولُ: “يَا وَلَدي! حُقَّ لِلقَومِ فِي دُنْيَاكُم أَنْ يَحْزَنُوا لِفَقْدِكَ أشَدَّ الحُزْن، فَمِثْلُكَ يُبْكَى عَلَيْه. بَيْدَ أَنِّي وَجَدْتُّهُم – وَهُمْ مَعْذُورون – يَسْتَهْوِلُونَ الـمَوت، ويُعَظِّمُونَ مِنْ شَأنِهِ مَا صَغُر. كَيْفَ وَهُم يَعْلَمُونَ عِلْماً لَيْسَ بِالظَنِّ أن لّا مَدْفَعَ لِلمَنِيَّةِ، وكَأَنَّهُمْ لَمْ يَأتِهِم قَوْلُ قَائِلِهم:
نُــرَاعُ لِــذِكْــرِ الـمَـوتِ سَـاعَـةَ ذِكْـرِهِ وَنَـعْتَـرِضُ الــدُّنْــيـا فَــنَــلْهُــو وَنَــلْــعَــبُ
يَــقِــيــنٌ كَــأَنَّ الــشَّــكَّ أَغْــلَــبُ أَمْــرِهِ عَــلَــيــهِ، وَعِــرْفَــانٌ إلى الـجَــهْــلِ أَقْــرَبُ
ثُمَّ أَلَمْ يَقُلْ شَاعِرُهُم، وصَدَقَ:
وَلا تَــحْــسِــبَــنَّ الــحُــزْنَ يَــبــقَــى، فَـإنَّـهُ شِــهَــابُ حَــرِيــقٍ وَاقِــدٌ ثُـمَّ خَــامِــدُ
سَــتَـألَفُ فِـــقْــدَان الَّــذِي قَــدْ فَــقَــدَتَــهُ كَــإِلْــفِكَ وِجْــدَانَ الَّــذِي أنْــتَ واجِــدُ
وهذَا شَاعِرُكُم الذِّي نَصَّبْتُمُوهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَمِيراً عَلى كُلِّ مَنْ قَالَ شِعْراً، يُرْسِلُ قَوْلَهُ – ومَا أَحْكَمَه – في نَعْتِ سَاكِنِ القَبْرِ فَيَقُول:
نَــزِيْــلٌ – لَــعَــمْرِي – غَــرِيــبُ الــغِــطَــاءِ غَــريــبُ الــوِطَــاءِ، غَــرِيــبُ الــحُــجَــرْ
لَـــــدَى مَــــنْـــــزِلٍ كَـــبُــــيُــوتِ الــكِـرَاءِ مِـــــرَاراً خَـــــلا، ومِــــــراراً عَـــــمَــــــــرْ
يُــزَارُ كَـــثِــيْــراً، فَــدُونَ الــكَــثِـــيرِ فَــــغِـــبّــاً، فَــيُـــنْـــسَـــى كَــأنْ لَــمْ يُــزَرْ
لَقَدْ عِشْتَ – يَا وَلَدِي – الأَحَبَّ بَيْنَ ظَهْرَانَي صَحْبِكَ، وأَخْرَجْتَ لَهُمْ أَصْنَعَ التَّصِانِيفِ وَأَبْدَعَهَا، ومَا عَرَفْتُكَ ولا عَرَفُوكَ فِي ذَلِكَ نُتَفَةً عَجُولا، ولا أخَّاذاً نَبَّاذاً، بَلْ كُنْتَ بَينَ لِدَاتِكَ فِي عِلْمِكَ لَبِثاً مَكِيثاً، تُصَادِقُ تُرَاثاً غَالِياً جَهِدْنَا فِي صِنَاعَتِهِ، وتُحْيِي فِي الأَوَاخِرِ مَا عَكَفْنَا عَلى إنْجَازِهِ فِي مَبْدَاتِنَا، وتُصَابِرُ صِعَابَهُ، وتَكْشِفُ مِنْهُ ما طَمَّ عَلَيهِ الزَّمَانُ، مُسْتَنْبِطاً الـمَاءَ الزُّلالَ مِنَ الصَّخْرِ الأَصَمِّ. وَلَقَدْ رَفَعْتُ بَينَ النَّاسِ ذِكْرِي، وأَفْشَيتَ بَينَهُم بَعْضَ مَا آتَانِي اللهُ مِنَ العِلْمِ فَأنَا الأَوْلَى بِكَ حِفَايَةً وَشُكْراً؛ إِذْ صِرْتَ بَينَهُم بِما يَسَّرَكَ اللهُ لَهُ مَنْبُوهَ الاسْمِ مَقْصُودَ الـجَنَابِ؛ يَتَدَاوَلُونَ كَلامِي، وبِذَلِكَ نَفَخَ اللهُ سُبْحَانَهُ الرُّوحَ فِي رَمِيمِ عِظَامِي.
فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ – يَا وَلَدِي – مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ قَدْ أَضَعْتَ بارْتِحَالِكَ إلَى هَذا الـمَقَامِ الكَريْم؟
أمَا تَرْضَى أو يَرْضَونَ لَكَ بَعْدَ مَا كُنْتَ جَلِيسَ فُلانٍ وفُلان، وَبَعْدَ مَا كَابَدْتَ مِنْ إحَنٍ وأضْغَانٍ، أَنْ تَكونَ – بِفَضْلٍ مِن اللهِ وَرَحْمَةٍ – جَلِيساً لأَمْثَالِ أبِي بِشْرٍ وأَبِي عَليٍّ وأَبِي الفَتْحِ وأَخِي ثُمَالةَ وأبِي سَعِيْدٍ عَبْدِ الـمَلِكِ بن قُرَيبٍ وَأبِي يَحْيَى زَكَرِيَّا وغَيرِهِم مِنَ العُلَماءِ الأَعْلامِ، وقَدْ نَزَعَ اللهُ مَا في قُلُوبِهم مِنْ غِلّ، وَتَفَضَّل عَليهِم بِإذْنِهِ فَغَفَرَ الزَّلاتِ، وأَجْزَلَ الهِبَاتِ؟!
وَكَما كَانَ لَكَ – يَا وَلَدِي!- مَعِي مِنْ حُسْنِ الصَّنِيعِ أَحْسَبُ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مُقَيِّضٌ لَكَ بِفَضْلِهِ مَنْ يَعْرِفُ قَدْرَك، ويُعْلِي ذِكْرَك، ويَنْشُرُ بَينَ الأَنَامِ عِلْمَك. أمَّا مَا أَرْجُوهُ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ مِنْ حُسْنِ الـجَزَاءِ وَشَرَفِ الـمَعِيَّةِ وَطِيبِ الـرُّفْقَةِ فَإنَّهُ بِإِذْنِ اللهِ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ؛ فَلَعَمْرِي لَقَدْ أقْرَرْنا لَهُ سُبْحَانَهُ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وشَهِدْنَا لِـمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالة، وأَحْسَنَّا الظَنَّ بِاللهِ رَبِّنَا، فَمَنَّ عَلَينَا بِأَنِ اسْتَعْمَلَ جَوَارِحَنَا فِي خِدْمَةِ دِينِهِ وكِتَابِهِ. ولِسَانُ حَالِنَا يَقُول:
“رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ”.
ثُمَّ إنِّي رَأَيتُ الشَّيخَ الجَليلِ أَبَا الحَسَنِ الأصْفَهَانِيَّ البَاقُولِيَّ يَعُودُ إلَى مَجْلِسِهِ بَيْنَ تَهْلِيلِ الـقَوْمِ وتَحْمِيدِهِم.
أَمّا أَنَا؛ فَقَدْ ثُبْتُ مِنْ سَفَرٍ لا وَعْثَاءَ فِيهِ ولا نَصَبَ، وَرَجَعْتُ مِنْ حَضْرَةِ الـخَيَالِ إِلَى عَالَمِ الـمَعْقُولِ والـمَحْسُوس، وَقَدْ تَزَوَّدْتُ فِي رِحْلَتِي هَذهِ خَيرَ زَاد.
رَحِمَ اللهُ “جَامِعَ العُلُومِ”؛ فَقَدْ أَخْلَصَنَا بِخَالِصَةٍ غَالِيَةٍ هِيَ دُرَّةٌ يُسْتَعْذَبُ لِأَجْلِها السَّبْحُ والـمَغَاصُ، ومَنَحَنَا زُبْدَةَ السِّقَاءِ مِنْ غَيرِ كَدٍّ. وصَدَقَ القَائِلُ:
أَخُــو الــــعِــلْــمِ حَــيٌّ خَــالِــدٌ بَــــعْـدَ مَــوْتِــــهِ وأَوْصَـــالُــهُ تَــحْــتَ الـــتُّــرَابِ رَمِـــيـــمُ
وَذُو الــجَّـهْلِ مَــيْـتٌ وَهْـوَ يَــمْــشِي عَـلَى الـثَّـرى يُــعَــدُّ مِـــنَ الأَحْـــيَـــاءِ وَهْــوَ عَـــدِيـــمُ

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: