أنا وليلى التفسير الأحادي للنص

أنا وليلى التفسير الأحادي للنص

الأستاذ الدكتور أحمد فرحات

حسن المرواني، شاعر عراقي مقل، من مواليد الزعفرانية، أحد أحياء بغداد، نشأ نشأة فقيرة، التحق بكلية الآداب، جامعة بغداد، حصل على شهادته، وأعير إلى ليبيا ليعمل مدرس لغة عربية، عاد إلى بغداد، وأقام فيها، ليست لدي مصادر موثقة تفيد وفاته، أو بقاءه على قيد الحياة حتى الآن.

حسن المرواني اشتهر بشاعر القصيدة الواحدة، وهي قصيدة “أنا وليلى واشطبوا أسماءكم” التي غناها المطرب كاظم الساهر، ونالت القصيدة شهرة عريضة لما تحمله من تجربة واقعية، انتهت إلى تجربة فنية حازت إعجاب الجمهور.

وبالرجوع إلى القصيدة من مصدرها الأصلي فلم أعثر على ديوان شعري كتبت فيه القصيدة، وكان شأنها شأن قصيدة “هذه ليلتي” للشاعر جورج جرداق، حيث أملاها جورج عن طريق التليفون إلى صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب. وقامت السيدة أم كلثوم بغنائها ولم تكتب في ديوان مطبوع. وقصيدة ” أنا وليلى” أثير حولها لغط كثير، لدرجة أن الخلافات التي قامت بسببها لم تنته إلا في المحاكم، وكان مسرح المحاكمات مصر ( ).

على كل حال، فقصيدة “أنا وليلى” تعود إلى سنة 1971م، حيث كان الشاعر حسن المرواني طالبا بكلية الآداب جامعة بغداد،وكانت الجامعة تقيم  مهرجانا شعريا كل عام، يحضره لفيف من الشعراء والطلاب والمثقفين، وأمام هذا الحشد ألقى الطالب حسن المرواني قصيدته في قاعة الحصري بالكلية. وقدّم لها مقدمة ارتجالية بين النثر والشعر فقال:

يسألونني: ما دامت قد رحلت عن حياتك، فلمَ لمْ تبحث عن أخرى غيرها؟

فأجاب: أتدرين ماذا كنت أقول لهم؟

لا بأس أن أشنق مرتين

لا بأس أن أموت موتتين

ولكن..

بكل ما يجيده الأطفال من إصرار

أرفض أن أحب مرتين!!

ثم أشد قصيدته:  ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي ….

وبمجرد الانتهاء منها، التقطتها يد الجمهور، وطبعت على الفور  بالمطبعة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد إلقائها مباشرة.

وترجع تجربة الشاعر إلى قصة حب حقيقية، حيث نشأ الشاعر نشأة محافظة معتدلة، لم يكن ميسور الحال، وفي الزعفرانية لا يعترفون بالحب، ولا يوقرون المحبين. وعند دخوله الجامعة وقعت عيناه على فتاة أحلامه، فهام بها، وأحبها، وصارحها، لكنها رفضت لأنه فقير ..

كان من الممكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، لكنه عاد وطلب منها الزواج، فوافقت على مضض، ولكنها جاءت ذات يوم لتعلن خطبتها، وقد خطبت لطالب آخر في الجامعة، وقد أحبته، فوقع ذلك على الشاعر موقع الصاعقة، ولم يكد يصدق نفسه، فانفجرت موهبته الشعرية وكتب( ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي.. )

اختار الشاعر لقصيدته عنوان”أنا وليلى واشطبوا أسماءكم”، ولم تكن هي القصيدة الوحيدة، بل كانت له قصائد كثيرة، لكنها ضاعت لسبب أو لآخر، لكنه روى بنفسه قصيدة أخرى، حيث أتاه نبأ وفاة طالبة اسمها ليلى، فظنها ليلاه .. تقول القصيدة:

وَوَقَفْتُ مَقْرُوْرَ الشِّفَاهِ

حِيَالَ مَوْكِبِكِ الحَزِينْ

وَعَلَى الرَّصِيْفِ تَسَمَّرَتْ

قَدَمَايَ ، أَجْتَرُّ الأَنينْ

أَحْسَسْتُ أَنِّي ضِعْتُ في

جَمْعِ الحزَانَى المُطْرِقينْ

وَصَرَخْتُ يَا لَيْلَــى …. وَلَـ

ـكِنْ لَمْ تَكُوْنِي تَسْمَعِينْ

فَالنَّعْشُ أَطْبَقَ دِفَّتَيْـــ

ــيهِ ,أَنتِ متِّ فلا تعينْ

وَقَرَأْتُ لافتةً هُنَا

كَ يَقُولُ كَاتِبُهَا اللعينْ

طُلابُنَا يَنْعونَ رَا

حِلَةً بِعُمْرِ اليَاسَمِينْ

تُدْعَى  … وَذَابَتْ أَعْيُني

تُغَالِطُ الخَبَرَ اليقينْ

أَتموتُ أَيَّامِي وَيَذْوِي

الحُبُّ في طَيْفٍ دَفِينْ

أَيَضُمُّهَا قَبْرٌ وَيَفْــ

ــقدُ دِفْئهَا صَدْرِي الأمينْ

هَلْ تُوْرِقُ الآلامُ تُو

رِثُني أَسًى لا يستكينْ

ثُمَّ انْبَرَتْ ذِكْرَاكِ تَر

سمُ حُبَّنا عَبْرَ السِّنينْ

فَرَكَضْتُ مَلْهُوفَ الخُطَى

لِلْمِقْعَدِ الخَاوِي الحزينْ

وَإِذَا بِهِ خَالٍ يُطَا

لِعُني بِوَجْهِ الكاسفينْ

إلى أن يقول:

وَانْسَابَ في أُذني صَوْ

تٌ فَانْتَبَهتُ عَلَى الرنينْ

وَوَجَدْتُ أَنِّي كُنْتُ في

حُلْمٍ كَأَقْدَارِي ضنينْ

فَشَرَعْتُ أَرْكُضُ لاهثًا

عَلِّي أَرَاكِ ، فَتبتسمينْ

وَأَتَيْتُ هَذَا الصُّبحَ احْــ

ـملُ مَسْحَةَ المتعذبينْ

فَبَدَوْتِ لي وَكَمَا عَهِدْ

تُكِ دَائمًا لا تأبهينْ

يبقى أن نشير إلى ذلك المهرجان الشعري السنوي الذي كانت تنظمه كلية الآداب جامعة بغداد،فقد كان احتفالية كبيرة تقام كل عام، بقاعة ساطع الحصري التي شهدت أجمل الأصوات الشعرية وأعذبها من العراق، سواء من الشباب الذين يتلمسون طريق الشعر، أو من الكبار مثل الجواهري، والسياب، والبياتي، ونازك الملائكة، ويوسف الصائغ وغيرهم.. وكان الشاعر صائغ المهدي حريصا على حضور الاحتفالية، وكان آنذاك نائبا لرئيس الجمهورية العراقية.

ففي العام الدراسي 1968م. 1969م، وفي المهرجان الشعري نفسه، وفي قاعة الحصري نفسها،ألقى شاعر آخر مغمور اسمه عبد الإله الياسري قصيدة بعنوان “الضياع” جاء فيها( ):

مَلَّتْ مِنَ النَّغَمِ المحزُونِ نَايَاتي

وَأَتْعَبَتْ فَرَسَ الأَحْزَانِ آهَاتي

جَفَّتْ عَلَى شَفَتي الصَّفْراءِ أُغْنيةٌ

خَضْرَاءُ وَانْطَفَأَتْ دُنْيَا ابْتِسَامَاتي

أُلَمْلِمُ البَسْمَةَ الخَجْلَى مُكَابَرَةً

حَتَّى تَقَهْقَهَ في أُذْنَيَّ مرثَاتي

إلى أن يقول:

قَدْ أَتْعَبَتْنِي قِفَارُ اليَأْسِ وَاسْتَلَبَتْ

حُلْمَ الطَّرِيْقِ وَقَدْ طَالَتْ مَسَافَاتي

وَأَنْكَرَتْنِي يَا بَغْدَادُ جَاحدة

حَتَّى لِدَاتِ الصِّبا حتّى حبيباتي

وَإِنْ أَمُتْ وَيخبُّ الرَّملُ زَقْزَقِتي

وَتَطْمرُ الحُفْرَةُ السَّوْدَاءُ غَابَاتي

سَتَتْرُكُ اسْمِي للسَّمَاءِ أُغْنِيَتِي

وَلِلْحَزَانَى سَتَرْوِي دَوْرَ مَأْسَاتي

والقصيدتان(الضياع للياسري، وأنا وليلى للمرواني) متشابهتان وزنا وقافية وبعض الألفاظ، وليس بمستبعد أن يكون هناك تأثير ما حدث من حسن المرواني لقصيدة الياسري التي تسبق قصيدة المرواني بعامين.

لم يكن كاظم الساهر هو أول من غنى القصيدة، فقد غناها مطربون عراقيون آخرون؛ فأول من غناها مطرب تركماني من أهالي كركوك العراق سنة 1974م، اسمه أكرم دوزلو (جعفر) ، والطريف أنه كان لا يجيد التحدث بالعربية. ثم غناها المطرب رياض أحمد في شكل موال، ولكنها لم تلق نجاحا كبيرا إلا عندما غناها ولحنها كاظم الساهر.

***

التفسير الأحادي للنص يعني النظر إلى النص الأدبي باعتباره مولودا خارجا من رحم المؤلف، ولا علاقة لهذا المولود بالوالد(المؤلف)، ويكون النظر إلى هذا المولود بمقدار ما يؤثر في الآخرين، وليس مهما ألبتة النظر إلى الوالد نظرة سلطوية مهيمنة على النص، ولكن المهيمن الحقيقي هو المتلقي الذي يتلقى النص، ويحدث بينه وبين الآخرين تفاعل وتجاذب. ويستفاد من هذا التفسير الأحادي للنص الأدبي مغردا في سياقه بعيدا عن المؤلف ليصبح المتلقي هو المؤلف الثاني للنص. وقد أطلق رولان بارت Roland Barthes على هذه العملية مصطلح موت المؤلف، وهي مقولة لا تعني ظاهر معناها اللغوي، وهي لا تعني إلغاء المؤلف وحذفه من ذاكرة الثقافة. إنها تهدف إلى تحرير النص من سلطة الظرف المتمثل بالأب المهيمن: المؤلف ، إنها تفتح النص على القارئ بما أن القارئ هدف أولي للنص، وتزيح المؤلف ليحضر حفلة زفاف النص إلى قارئه ليبارك هذه العلاقة الجديدة، وينتظر الولادة الآتية فرحا لابنه( ).

وهذه الدعوى خبيثة الطوية؛ لأنها تدعو إلى إبادة المؤلف ولو لفترة وجيزة من الزمن، فإذا ما نظرنا إلى نص قرآني، أو حديث شريف، من هذا المنظور البارتي أو الغذامي، فإن لها أكبر الخطر في تحليله وإبراز معالمه الفنية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن رولان بارت Roland Barthes (1915-1985م) قد قضى فترة من حياته في تركيا ومصر ورومانيا، وهذا يعني أنه قد احتك مباشرة بثقافات وعادات وتقاليد ومعتقدات هذه البلدان فإن هذا يؤكد خبث الدعوى، وسوء النية من قِبَل بارت نفسه.  وهذا يدل على أن المناهج الغربية الحديثة لا تخلو من سوء نية، وهي في إطارها الحضاري والثقافي لا تخدم الثقافة العربية، ويجب الحيطة والحذر الشديد عند تناولها.

***

النص كله رصاصة قاتلة، نفثة شعرية، صرخة مدوية،انفجار مكلوم، ولحن محزون، شهقة أم ثكلى، وآهة حيرى، في كل بيت رعشة مشنوق، وخفقة مطلوق..

العنوان تجسيد للتجربة، وصدى لما عاناه الشاعر، مكون من كلمتين(أنا وليلى) إحداهما ضمير متكلم، والأخرى اسم ظاهر، الأولى كلمة تنتسب إلى التذكير، والأخرى إلى التأنيث، وسريعا تجلت المفارقة، بين الأنثى والذكر، وهما أصل الكون، ومركز ثقله،وإليهما يعود صراع الإنسان في الانجذاب نحو الآخر.

اقتصر تعبير الشاعر في القصيدة على تشكيل نمطي معروف مسبقا يتمثل في تحديد ملامح الصورة الشعرية، وكذلك تحديد وسائل تشكيلها، فراح يعقد ترابطا بين المعنوي والحسي، من جهة، وبين تجسيد المعنويات وتشخيصها،من جهة أخرى، ولذا جاءت صوره الجزئية كإشارات إلى تبني مذهب الشعراء الرومانتكيين مثل:موت الابتهالات –محراب العينين-رياح اليأس-جفاف الأزمنة-رفيف اللحن-تعتيق الحب-رشف الهم-رسو الحرمان…

فالعلاقة بين الكلمتين هي علاقة المضاف والمضاف إليه،تارة، مثل: محراب عينيك، رياح اليأس، وبين الفعل والفاعل تارة، مثل: جفت.. أزمنتي، ما رف لي لحن على وتر. وبين الفعل والمفعول به تارة أخرى، مثل: أعتق الحب، أعصره، أرشف الهم، تعصرين سنين، وهكذا…

فالعلاقة القائمة على الإضافة تنبني أساسا على التعريف أو التخصيص كما يقول علماء النحو في العربية، فعندما نضيف كلمة محراب إلى عينيّ المحبوبة فقد أفادت هذه الإضافة تعريفا وتخصيصا معا للعينين وهو أنهما طاهرتان ، بريئتان، سالمتان من أي عيب أو نقص، فهو راح يقيم علاقة الطهر والعفاف بينهما عند التقاء العينين، وقصر ذلك واختص به عينيها لما يشع منهما من طهر وعفاف.

وأحيانا تكون العلاقة بين الفعل والفاعل، والفاعل هو من يقوم بالفعل، في علم النحو، فعندما يقول: عامان ما رف لي لحن على وتر، ولا استفاقت على نور سماواتي؛ فإنما هو قد بنى الجملة على فعل رفيف اللحن على الوتر، واستعصاء إفاقة سماواته على نور، فالظلام حل خلال العامين، واللحن قد نضب فلا يكاد يسمع له صوت، وهو الشادي دائما، ولا سماواته ينبعث منها النور، فالصورة السوداودية الصامتة التي رسمها في البيت نابعة من تركيب الجملة، والسواد الصامت إشارة منه إلى القبر والموت.

وتكون العلاقة القائمة على الفعل والفاعل والمفعول من قبيل التشخيص والتجسيد، وهما صفتان بارزتان في الشعر الرومانتيكي حيث مال الشعراء الرومانتيكيون إلى تشخيص المعنويات وتجسيدها بغية بث الحياة والحركة في ركام الجسد الميت، فانظر معي إلى قوله أعتق الحب، وأعصره، لو تعصرين سنين العمر، فلا الحب يمكن أن يعتق، ولا سنوات العمر تعصر، ولكنه أراد الصورة كاملة من خلال التشخيص والتجسيد والتجسيم لجعل المعنويات والأشياء التي لا يمكن أن ترى بالعين ولا تلمس باليد أجساما لها حركات وأفعال الأحياء

وعلى الرغم من وسائل التشكيل الرومانتيكية البارزة في القصيدة فقد وقعت في نثرية ومباشرة نتيجة عفوية الأداء والرغبة في التعبير عن الذات تعبيرا واضحا مكشوفا، فقوله: لو كنت ذا ترف ما كنت رافضة حبي.. عسر الحال مأساتي.. أضعت في عرض الصحراء قافلتي.. أصيح والسيف مزروع .. والغدر حطم آمالي.. وأنت أيضا ألا تبت يداك.. آثرت قتلي.. فمثل هذه الكلمات فيها من النثرية والمباشرة والتعبير المستهلك ما فيها.  الألفاظ والتراكيب بسيطة، سهلة، ميسورة، لا غرابة فيها، وهي ألفاظ مجلوبة من معين واحد، هو معجم الحزن والحرقة والضياع والتشتت؛ فانظر معي إلى ألفاظه:ماتت/استسلمت/جفت/ماأثمرت/مارف/ولا استفاقت/الهم/مغبر/ممزق/آهاتي/…

والشاعر يعتمد في القصيدة على الفعل، بجميع أشكاله،وأزمنته، فالفعل الماضي هيمن على القصيدة؛ فورد ما يزيد عن ثلاثين مرة، والفعل المضارع عشرين مرة، بينما قل إلى حد كبير فعل الأمر، والاعتماد على الأفعال بهذه الصورة يزيد في حركية الأحداث وديناميكتها، ويعمل على الانتقال من صورة إلى أخرى. فحركية الأحداث وسرعتها وتواليها بشكل لافت عمل على مرونة القصيدة وسهولة تعلقها بالذهن. مما جعلها أقرب إلى الغناء من غيرها من القصائد التي تعتمد على ثبات الحركة، وسكونها.

إضافة إلى ألفاظ القصيدة التي منبعها واحد تقريبا، وهو معجم الشعر الرومانتيكي، الحزن والمرأة والألم والضياع، حتى الفراشة التي رأت النور ففرحت به ثم راحت فرحة به احترقت، وهذه الصورة الجزئية هي صورة مكررة عند ناجي في كثير من قصائده

وأنا منكِ فَراشٌ ذائبٌ

في لُجينٍ من رقيقِ الضوءِ ذابا

فَرِحٌ بالنُّورِ والنَّار معا

طارَ للقمةِ محموما وآبا

وتصوير الذات الشاعرة بالفراشة التي رأت النور فاحترقت -عند المرواني وناجي-هو تصوير يشير إلى التشيؤ للتعبير عن حالة الضياع التي يعيشها الفرد وسط عالم المادة الذي يحوله إلى شيء أو بضاعة أو سلعة خاضعة للتبادل وقيم السوق في المجتمعات الشمولية الرأسمالية، مما يجعله يفقد إنسانيته تدريجيا لصالح عالم المادة والأشياء

على أننا يجب أن نعترف أن الشعر الجيد هو ما يستطيع أن يصيب المتلقي بالدهشة والصدمة، فشعر المرواني بالحتم أصاب كل متلقيه بهاتين الصفتين الجميلتين، فوراء كل بيت من أبيات قصيدته تسمع شهقة تعلو الحلوق، تصيح الله الله! وهذه هي الدهشة والصدمة التي تصيب المتلقي، فالشعر الجيد نافذ إلى صدر متلقيه سواء من بيت واحد أو من قصيدة واحدة أو من عمل شعري كبير. وهذا الأمر هو ما رسخ بصدور الناس في القديم والحديث على السواء، فالشاعر الفذ هو من يستطيع الوصول إلى هذه الدرجة من الإدهاش والتوغل في أعماق النفس الإنسانية للوصول إلى نقطة الشعر في كل قلب إنسان حتى لو لم يكن شاعرا.

وأجمل الشعر ما وصل سريعا إلى قلب متلقيه، سواء كان عالما بفنون الشعر أو كان من غير النخبة، ومن عوام الناس.. وإلا فبالله .. كيف وصل صوت الشاعر إلى قلوب الناس في مصانعهم وفي حقولهم وفي الشارع العام وفي الطرقات وفي الأزقة .. إن في صدر كل منا قلب فنان لا يمس شغافه إلا من اقتدر على الوصول إليه من أقصر الطرق وأقربها إلى قلبه . فهذا الوجل النفسي، وشفافية المشاعر، وروعة الأسلوب، والنغمية المتولدة في الألفاظ والتراكيب وتلك العلاقات الجديدة التي أبدعها المرواني بين الألفاظ والتراكيب جعله يصل إلى قلوب الناس في الأقطار العربية الكبيرة وصول الماء إلى الأرض العطشى.

وما زاد في الدهشة والصدمة لدى المتلقي تلك الإشارات السياسية التي كان لها أثر كبير في حياة الشاعر والشعر فوقع ذلك السحر على نفسية المتلقي وقوعا حسنا، وتلقفه بارتياح ورضا. ومن هذه الإشارات الصادمة قوله: نفيت .. واستوطن الأغراب في بلدي.. وكان من أثر ذلك أنهم دمروا كل أشيائي الحبيبات.. وكذلك قوله: واغربتاه .. مضاع هاجرت مدني … أقول: إن مثل هذه الإشارات زادت من وقع الأثر النفسي لدى المتلقي، وبالتالي في فهم أولية الشعر ورسالته.

ولم يغفر للشاعر بكارة تجربته وعذوبتها، من الوقوع في النثرية والمباشرة كما قلت، وهذا جعله يأرز إلى لغة شفافة، وأسلوب خبري مهيمن على الأبيات، فلم ينوع بين الأساليب الإنشائية والخبرية، بل اكتفى بالأسلوب الخبري فحسب، ظنا منه أنه أنجع للتجربة إبراز تخومها الحزينة.

وقد جاءت الأبيات في بحر راقص وهو البسيط، والبسيط أقرب ما يكون إلى الرجز، لأن البسيط بحر رجزي بطبعه، لطيف في نظمه، بهيج في طربه، ولا يكاد وزن أصله الرجز من الجلبة مهما صفا.

والقافية فيها فخامة وذاتية، فالتاء المكسورة تشي بالفخامة والهيبة، وأحيانا تكون التاء المردوفة بياء المتكلم تشي بالذاتية والخصوصية،وبين الفخامة والذاتية تتنوع كلمات القافية، حاملة مضامين ثرة، حزينة، قلقة، تعبر عن روح الشاعر وعمق مأساته.

ويحسب لكاظم الساهر بعض التعديلات عن الأصل، فمن التعديلات التي طرأت على القصيدة المغناة استبدال كلمة نداءاتي بكلمة عباداتي في البيت الثاني:

جَفَّتْ عَلَى بَابِكِ الموْصُودِ أَزْمِنَتي

لَيْلَى، وَمَا أَثْمَرَتْ شَيئا عِبَادَاتي

وفي البيت القائل: خانتك عيناك .. كان أصله:

خانتك عيناك فاستسلمت ذا ورم             أم غرك الزبد الخداع.. مولاتي

وكذلك في البيت الأخير:

مَنْ لي بِحَذْفِ اسْمَكِ الشَّفَّافَ مِنْ لُغَتي

إِذًا سَتُمْسِي بلا لَيْلَى قَصِيْدَاتي

وتم حذف بيت كامل من الأصل بعد هذا البيت:

نُفِيْتُ ..وَاسْتَوَطَنَ الأَغْرَابُ في بَلَدِي

وَدَمَّرُوا كُلَّ أَشْيَائي الحَبِيْبَاتِ

تَوَغّلِي يَا رِيَاحَ الحقدِ في جَسَدِي

وَمَزِّقِي مَا تَبَقّى مِنْ حُشَاشَاتي

ويبدو أن كاظم الساهر غير متمكن من اللغة العربية فكان ينطق في الغناء كلمة البهرج بضم الباء وسكون الهاء وضم الراء، وهذا خطأ لغوي والصواب كما ضبطتُها في الكتابة(البَهْرَج) بفتح الباء وسكون الهاء وفتح الراء.  كما أرد الساهر أن يركز على سبب فشل قصة الحب بين الشاعر ومحبوبته أثناء الغناء فأضاف -بإلحاح-من عنده: لو كنتُ ذا ترف ما كنت رافضة    حبي ولكن عسر الحال .. فقر الحال.. ضعف الحال مأساتي. وليس هذا في الأصل!

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: