سَأَلَتْني

سَأَلَتْني

الناقد عبد الله جمعة

 

هناكَ مجلة تعلنُ عَنْ استعدادها لنشر الأعمال الأدبية ، ألا تحب أن تراسلهم لتنشر فيها أعمالك و دراساتك ؟ فحرام ألا تنشر مثل هذه المقالات العلمية ليراها أكبر عدد من الجمهور .

قلتُ مبتسمًا : يا ابنتي ! رحلتي مع عالم الأدب و الكتابة – عبر أربعين سنةً – علمتني أن الناشرين – أيًا كانت هويتهم – أصحاب مصالح ؛ فمنهم من لا يتبنى إلا الفاتنات ينشر لهنَّ ، أو يفتح باب النشر لمن تربطه بهم مصالح و منافع ، فلا أحد منهم يسعى لنشر مكتوب لوجه الفن .

قالت : هم يعلنون ذلك !

قلت : لا أحد منهم يعلن أنه يفتح أبواب النشر لذوات الحسن و الدلال ليفضح نفسه .

* ذات يوم كان لي صديق إعلامي ذي وسامة و جمال ، كان يعمل في إعداد البرامج التلفازية ، و كان يقرض الشعر ، كتبت عنه قراءة تحليلية و ناقشتها في إحدى الأمسيات الشعرية ففوجئتُ به يدعوني للاستضافة عدة مرات في أحد برامج التلفاز التي يُعِدُّ لها  . و ربما كان ينتظر أن أكرس حياتي له وحده لا أكتب إلا في شعره هو ، فقررت أن أن أمتنع عن الكتابة له ، فتوقف عن دعوتي ، ثم انتقل من عالم الإعداد إلى منصات تقديم البرامج ، فأصبحت وسامته و ظهوره على الشاشة مصدرًا للرزق ؛ إذ أقبلت عليه الحسناوات من كل حدب و صوب من غير ذوات الموهبة الأدبية و لكن يبدو أنه قد اشترط ألا يستقبل إلا ذوات الموهبة الجسدية و من يومها لم تستضف شاشته رجلاً محترما أو دميمة موهوبة و يا لَحظه يعيش الآن كل ألوان التمتع بين الحسناوات .

* و ذات يوم استدعاني أحد قصور الثقافة طالبًا مني أن أعد محاضرة تحت عنوان “دور الإعلام في إثراء الحركة الأدبية” و كان القصر يستضيف أحد رجالات الإعلام المرموقين يجلس إلى جواري على المنصة ، فقدمتُ محاضرة مختصرها أن “الجهاز الإعلامي لا يعتمد إلا المهارات الجسدية النسائية” و أفردت في المحاضرة أمثلة و دعوت الشعراء الحقيقيين إلى عدم الاعتماد على الإعلام ، فالشاعر الحقيقي هو وحده أعظم وسيلة إعلام ، و إن لم يأتِ الإعلام لاهثًا وراء الشاعر و الأديب فلا يضيعنَّ وقته مع إعلاميين مسطحين لا يقدرون قيمة الفن الأدبي الحقيقي ، ثم قلت متهكمًا “على ذوات الحسن أن يبدين زينتهن عند كل شاشة فالإعلام يفتح أحضانه لهن …

وجدت الإعلامي الكبير بجواري يمتعض امتعاضًا شديدًا و يتلون وجهه و كانت الأمسية يحضرها كثيرون من رجال الإعلام … ثم سمعت بعد ذلك أنه اجتمع بزملائه الإعلاميين و أقسموا على إغلاق كل المنابر الإعلامية بوجهي .

* و ذات يوم ثالث قامت إحدى دور النشر بطباعة كتاب لي ، و يبدو أن صاحبها كان على علاقة وطيدة بإحدى القنوات الفضائية ذائعة الصيت ، فأعطى رقم هاتفي لمقدمة أحد البرامج الثقافية ، اتصلت بي و طلبت استضافتي حلقة كاملة مدة ساعة كاملة و اشترطت أن يكون نصفها حديث عن الكتاب و النصف الثاني حديث و مديح في دار النشر و ذكر محاسنها في خدمة الأدباء كنوع من أنواع الترويج ، فقلت لها : أعتذر عن الحضور ؛ لأنني إن أتيتُ فلن أتحدث إلا عن الشعراء الذين تناولتُهم في الكتاب ولن أتحدث عن نفسي أو دار النشر و هذا لن يروق لك و لصاحب دار النشر لذلك فلن أحضر فقاطعني صاحب دار النشر و اعتبرني من يومها عدوًّا .

* و يوم رابع هاتفني مسؤول كبير في إحدى الجرائد ذائعة الصيت ، و طلب مني مقالاً نقديًّا لينشره في صدر الصفحة الأدبية ، فأرسلت له مقالا تحليليا لنص لإحدى الشاعرات العربيات فنشره بعرض الصفحة الأدبية و جعل له مساحة غير مسبوقة ، و في الأسبوع التالي أرسل لي نصًّا مهترئًا له ، لا يمت للأدب بصلة و طلب مني أن أكتب عنه دراسة تحليلية ينشرها بذات المساحة في ذات الصفحة ، فاعتذرت له لأن ما كتبه لا يستحق أن يكون شعرًا ، من يومها لم أرَ وجهه و لم يطلب مني أن أرسل له أي مقال .

و غير هذا كثير كثير … لذا فقد قررت أن أكتب ما أريد أن أكتب لا وصاية علي و قد جعلت من صفحتي منذ اثنتي عشرة سنة نافذة إعلامية تجذب القراء بأفضل من اثنتي عشرة قناة فضائية لا يتابع برامجها الثقافية أحد و المستضاف يناشد الجمهور حتى يتابعوه و يرجو الناس أن تراه بل أفضل من اثنتي عشرة جريدة أو مجلة تلقى على الأرصفة و لا يقرؤها أحد ، ثم هي أفضل من اثني عشر صديقًا وسيمًا لا يحب استضافة إلا المؤهلات الجسدية النسائية أنا لست أملكها  و لا أظن أنه يجوز لي – في سن شيخوختي هذا –  أن أرتدي رداءً نسائيًّا مثيرًا ليستضيفني .

مثلي لا طاقة له باللهث وراء جهلاء يطلقون لعابهم مصاحبًا لسانهم المتدلي خلف حسناء أو يقايضون من أجل أن يقبلوا النشر .

أغناني الله و أصبح لي جمهور متابعين أغلبهم من ذوي الحيث الأدبي و الفكري تتمناهم كل القنوات الفضائية و الجرائد و المجلات .

مثلي لا يسعى لأحد إنما يُسعَىٰ له .

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: