عينٌ عَلى الجِرَارِ – الحلقة الأولى

مجموعة من المقالات النقدية بين يدي كتاب السيرة الذاتية ( جرة عسل ) - للأديب الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد الله

بقلم: الدكتور هشام المنياوي

 

توطئة :

عندما فرغ عميد الأدب العربي من إملاء ( أيامه ) كان قد أسس لفن رواية السيرة الذاتية في العصر الحديث ، فعمد إلى السرد المتتابع في تسلسل زمني ،في قالب روائي  أحال عمله حكيا يوثق حياته توثيقا تاريخيا ، ,عامدا التخفي عن القارئ بالبعد عن ضمير المتكلم ،فكانت (الأيامُ )

بيد أن الروائي الكبير يحيى حقي حين شرع يرصد سيرته الذاتية لم يستهوه هذا النمط المتسلسل ، فأخذت تتقاذفه ذكرياته،  فيسجلها بلا ترتيب زمني، أو خيط درامي ، بل بعفوية، وشي بها عنوانها( خليها على الله ) فلم يكن من رابط يجمل فصولها السردية سوى رابط صاحبها فحسب

وفي ( أوراق العمر سنوات التكوين ) قرر المفكر الكبير د لويس عوض  توثيق الأحداث المتعلقة به ، وبشخصيات كثيرة ، توثيقا دقيقا ، بكثير من الصراحة ، الصادمة أحيانا، والفاضحة حينا؛ ، فانزعج البعض من طرح أدبي كشف المستور ، وتكلم عن المسكوت ، ما حدا بالدكتور رمسيس عوض أن يعلن غضبه من كتابه- وبخاصة فى الجزء الخاص بـسنوات التكوين -،فرفض إعادة طبع الكتاب !!

أما ناقدنا الكبير الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد الله فقد أراد التفرد عن سابقيه -ممن ذكر وغيرهم – عندما تغياها إبداعا أدبيا يهدف إلى المتعة الفنية بالمقام الأول؛ يقول أديبنا  (… فقد دأبت بعض تلك المقالات القصيرة على أن تأخذ الشكل القصصي ، فاستقبلت على أنها “قصص” عند البعض ، و ” اعترافات ” عند بعض آخر ، فطُرِحتْ أسئلة، لا أجد فائدة مضافة في الإجابة عليها ، فالمهم في الكتابة هو المتعة …)

ويِؤكد أديبنا الكبير على غايته  تلك ، فيقول في جرة  (ما يقال وما لا):

فكرت … أن أجتزئ مواقف ومشاهد من الحياة الخاصة في صور مشهدية وأحداث حقيقية

( بمعنى أنها جرت بالفعل ) تترادف في تسلسل سببي ،أو زمني أو عن طريق التداعي .. ولعله تراءى لي أن السيرة الذاتية ليس أمامها إلا أن تكون إبداعا فنيا في شكل غير مسبوق ، أو تكون اعترافات صريحة ، لا تتحرج ولا تتجمل وإنما هي الحقيقة كما جرت ) .

وقد اختار أديبنا الطريق الأولى فعمد إلى الشكل القصصي  – وهو صاحب تجربة ثرية سابقة فيه ، حيث  صدرت له المجموعة القصصية (فيل أبيض وحيد ) عام 2004- مدفوعا بالنصيحة (المحفوظية ) ، ومتسلحا بملكته الأدبية ، ومكانته النقدية ،وهو الشكل الأرقى في تأليف السيرة الذاتية ، حيث تتسع مساحة الإبداع ، ويسمح للمخيلة أن تلعب لعبتها الفنية ، وهو بهذا النمط مسبوق ب ميخائيل نعيمة في ترجمته الذاتية التي أسماها ( سيمون) وتوفيق الحكيم في (زهرة العمر ) و(سجن العمر ) ، والشدياق في ( الساق على الساق ).. وغيرهم ، لقد لاذ أديبنا بسرد يحقق المتعة الفنية التي تغياها ؛ فلاغرو أن يسكن العسلُ العنوانَ فكانت ( جرةُ عسل ).

وهي تفردت بقالب أدبي يجمع بين فني المقال والقصة القصيرة ، ما يصح أن نطلق عليه ( المقال  القصصي ) ، وهذا النمط ما أسماه د يحيي إبراهيم  عبد الدايم بـ ( الأسلوب التفسيري التصويري ) فيقول :

( هو أسلوب يجمع بين طريقة المقالة التفسيرية التحليلية .. وبين طريقة الرواية الفنية القائمة على التصوير للمواقف ،والتجارب ،والأماكن، والمشاهد، والشخصيات الحقيقية تصويرا يعتمد على عناصر الفن الروائي .) (1)

فجرته أخذت من المقال العنوان ،والاستهلال، و الفكرة ،والخاتمة ، على حين اقترضت من القصة الحدث، والحوار، والشخوص ،والعقدة، ولحظة التنوير، في بناء سردي آسر ، فكل جرة تطرح فكرة قد تكون ( جلال الموت – سرعة البديهة ” اللماضة ” – الجرأة في الحق ” الحتة الزايدة ” – الجراية- الألم – وغيرها ) يتناغم معها العنوان ، ويوطئ لها حسن الاستهلال ، ويشَيّد صرحَها بناءٌ سرديٌ ، يجسِّد مواقف من حياته تخدم الفكرة التي يرسِّخُها في ذهن المتلقي خروجٌ بديعٌ ، لذا فكل جرة منفصلة بشكل كبير عن سابقتها، بحيث يمكن استلالُها، والتعاطي معها ،وارتشاف ضربها ، بمعزل عن سلفها وخلفها .

ففي جرة ( صفية الأوستن )  نحن أمام قصة قصيرة مكتملة الأركان ؛ بدءا من عنوان جاذب غامض ، ومرورا بسبك فني رفيع ، فيه فخامة الفصحى ، وسحر العامية التي لا يحسن غيرها في موضعها ( الأوستن – الأبلاوات – الصايعة – قطة- عفاريت )، ثم صور فنية تتدفق لترسم بالكلمات أبهى اللوحات ؛ فهذا شَعر هائج كـ ( شعاع الشمس ) ،وتلك لوحة فنية لوجه ذي نمش يزينه ، في سياق حدث يتنامى في تناسب السبب بالمسبب ، وشخوص ثلاثة : السارد ، صفية الأوستن ، وصديقها ذلك الرجل الأنيق وزمان ومكان ينشران الجزم بصدق الأحداث ، وعقدة تجلت بظهور ذلك الشاب الأنيق ، وقد هرب منها القاص بالعودة إلى( قطته المستنسخة ) فعاد بالزمن معها إلى زمن الكتابة في تقنية فنية لا نراها إلا في الأعمال القصصية بارعة الإتقان والإمتاع.

وقد حاولت الولوج إلى أعماق تلك الجرار ، لسبر أغوارها، واستخراج مكنون جواهرها، للوقوف على جوانب الإبداع والتفرد لدى أديبنا الكبير،  متوخيا المنهج (النصي البنيوي) الذي ينطلق من النص الأدبي ويعود إليه ، دون أن ينغلق فيه ، فمناهج النقد الأخرى كالمنهج النفسي أو الاجتماعي أو التكويني ، حاضرة حين يستدعيها النص، لكن دون أن تقحم فيه

تاركا في نهاية التحليل للمتلقي مهمة إصدار حكم قيمي على النص ، إن شاء .

وقادم السطور يحمل آيات الإبداع ، وأمارات التفرد في ( جرة العسل ) لعلها تزيل عن الهدية ورق غلافها فتبرزها جلية للعيان !!

1- براعة العنوان

تعد العنونة المفتاح السحري لنص موصد ، وعتبته تقع على رأس النص مباشرة لتُغرِي به ، وتُزيلَ عتماته ،إذ إن العنوان شديد الصلة بالنص على مستوى تحليل صورته الدلالية بالتفاصيل الداخلية المتعلقة بالفضاء القصصي أو الحكائي ،” فالمهم في العنوان هو سؤال الكيفية أي كيف يمكننا قراءته كنص قابل للتحليل والتأويل ، فهو – كما يراه (لوري هويك ): مجموعة من العلاقات اللسانية من كلمات وجمل وحتى نصوص تظهر على رأس النص لتدل عليه ، وتعينه ، وتشير لمحتواه الكلي ، وتجذب الجمهور المستهدف “(2).

وإذا كان العنوان يمثل النظرة الأولى للنص الأدبي ، فما أجمل أن يتمخض عنها حب من أول نظرة ، فَيُقْبل المتلقى على التهام النص، بعد وصلة إغراء من العنوان ،غرابة ،أو تشويقا، أو تلغيزا ، وقد أدرك أديبنا قيمة العنوان في النص الأدبي فأولاه عناية ملحوظة ، وصب عليه براعة مشهودة ، وله فيه فلسفة : فتارة يعمد إلى ( الغرابة ) ،وكل غريب جاذب ، مثل جرة ( صفية الأوستن )؛ عندما تولدت الغرابة من إضافة ( صفية ) وهو اسم أنثوي – وكل أنثوي جاذب – إلى ( الأوستن )وهي ماركة سيارة عند أهل الدراية ، ولفظ أجنبي غريب عن الأسماع عند سواهم ، فلا يعدم أديبنا في الحالين النهم لقراءة النص استجلاء لغموضه .

وقد يعمد إلى الإيجاز ، وهو عنوان البلاغة وآية الفصاحة ؛ ف ( راجية ) عنوان جاذب لإيجازه ، وغموض التكهنات حول مدلوله : أهو اسم أنثى ؟ أم وصف ؟ وتلكما علامتا استفهام يتعين على النص الأدبي تنحية إحداهما ليتولى تقريرالأخرى .

وبالحس المقالي ربما يعمد أديبنا الكبير لاستعارة عنوان إحدى الأعمال الأدبية المعروفة ، يمهد به لاستهلال بقيمة ثقافية تثري وجدان المتلقي ، وتغذي عقله كما فعل في عنوان ( هكذا الدنيا تسير ) وهي مسرحية لـ ( وليم كونجريف )، وحين عنون بـ ( تكلم حتى أراك ) ،وهو مبدأ فلسفي معروف ،اتخذ من العنوان مدخلا للحديث عن رواية إحسان عبد القدوس الشائقة (لا أكذب ولكني أتجمل).

وفي جرة ( شغلني حبك عنك ) ولج أديبنا لقلب المتلقي بعنوان يسكنه الحب، لتقديم وجبة تقافية دسمة عن الشاعر الفارسي عبد الرحمن الجامي ، والعبارة له ، وهي التي اقتنص معناها إسماعيل الحبروك وألف لعبد الحليم حافظ رائعته ( مشغول ) وحولها إلى ( أنا مشغول عنك بيك)، وعلى ذكر الأغنية ،تبدو عبارة الحبروك تفضل عبارة الجامي ( شغلني حبك عنك ) من وحي نظرية النظم عند( إمام البلاغيين) فالتعبير بالجملة الاسمية ( أنا مشغول عنك بيك ) فيه دلالة على الثبوت والتحقيق وكأنه محب ثابت على تلك الحالة ومستمر بلا انقطاع ، أما التعبير بالفعل الماضي في ( شغلني حبك عنك ) فلا يدل على أكثر من الحدوث في الماضي ، الانقطاع عن المستقبل ؛ فحسنت عبارة الحبروك لذلك!!(3).

والعنوان – فوق كونه مشوقا ، جاذبا ، طريفا –هوالخيط الذي يجمع ما تناثر من حبات السرد ، لينظمها عقدا فريدا ، فهو غالبا ما يشي بالقيمة التي يتغياها أديبنا من سرده ، فيستغرق موضوع الجرة بشكل كامل كما في ( سير وصور ) حيث تعرضت الجرة لمنهج بعض السابقين في رصد سيرهم الذاتية وهم ( طه حسين – يحيى حقى – لويس عوض ) ،ومنهج أديبنا الذي يماثل لقطات الصور الفوتوغرافية ، وقد يلجأ إلى الحذف تشويقا ،وجذبا للانتباه ؛ مثل جرة ( الذي رأى .. ) أو للعلم به نحو ( ما يقال وما لا ..)  أو للغموض، وربما للتضحية باللفظ العامي  نحو ( ..زايدة ) حين حذف ( حتة )، وهو في مواضع أخرى لم يغفل سلاسة اللغة العامية وقدرتها على مد جسور من التواصل مع المتلقى حتى ارتآها أجدر على الإحاطة بمضمون جرته ؛  بما تجمعه والمتلقى من وحدة اللسان ، وذلك كما في جرة ( لا يا شيخ ) وجرة ( خربتها يا سي مجدي) .

وباستدعاء المنهج التكويني في جرة ( هكذا تسير الدنيا ) نرى أديبنا الكبير قد عدل عن عنوان ( مهزلة كابوسية ) إلى( هكذا الدنيا تسير ) عند حديثه عن بدايات عمله في جامعة الفيوم وما صادفه من عثرات وعقبات ، معللا لهذا العدول بقوله: :

(عدلت عن هذا العنوان المستهين ، والمقبض بدرجة ما ؛ لأن الأمور تطورت في غير هذا الاتجاه الكابوسي … من المعاشرة الطيبة لأهل تلك المدينة طلابا وغير طلاب ، بحيث اختلفت النهايات إلى الصورة العكسية تقريبا).

جميل أن يسجل الأديب الانطباع اللحظي للحدث السردي، إذ سافرت نفسه عبر آلة الزمن وسكنت الحدث، فتشرب وجدانه مشاعر تلك اللحظة الآنية ، لكن الأجمل هو المصير إلى الانطباع النهائي العام ، فهو الأصدق ، فالانطباعات أحكام ، و إذا عددنا السير الذاتية تأريخا – وهي كذلك – فلتكن انطباعاتنا أحكاما للتاريخ !!.

مشتهيات في العنونة :

رغم جودة وبراعة العنوان عند أديبنا الكبير في مجمل جراره ، إلا أن المرء قد يبدي بعض المشتهيات تجاهها، وهو ليس حكما قيميا عليها ، إنما الأمر يخضع للذائقة الأدبية، التي تتسع

لكل الآراء :

– عنون أديبنا لإحدى جراره بـ ( الثلاث ورقات : البراءة ، واللماضة ، القيمة ) وقد اشتهيت لو قًصُرَ فانتهى عند الورقات ، وربما اشتهاه غيري على صورته ، وفي الأمر متسع

– وفي عنوان ( البذرة شجرة كامنة .. شجرة كاملة ) لم ينجح الجناس في تجميل العنوان           – لدي- ؛ لطوله ، وخبريته ،و تكرير الشجرة؛ فاشتهيت غيره .

– وفي عنوان ( إخفاقات موجعة أحيانا ) لم أستسغ ( الحين ) ؛ فالإخفاقات موجعة في كل حين ، ولعل أديبنا أراد الحين ظرفا للإخفاق ؛ لذا يحسن لو تصدر الحينُ العنوانَ ( أحيانا إخفاقات موجعة ) ولو ترك الحينُ العنوان ورحلَ ، ما حزنا لفقده !!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: