كتاب الديوان للعقاد والمازني: قراءة في نقد النقد (1)

كتاب الديوان للعقاد والمازني: قراءة في نقد النقد (1)

أ.د/صبري فوزي أبوحسين

مر على كتاب الديوان مائة عام وما زال معطاء، ومعلما، في قاعات الدرس العلمي المتنوعة، وفي منتديات الثقافة الكثيرة، وفي كتابات كبار الباحثين والباحثات، وكثيرا ما كنت أقرأ عن كتاب الديوان هذا! أو أسمع به، أو أطالعه مطالعة جزئية عجلى، إلى أن أتيح لي أن أقرأه وأقرأ فيه مع طلابي بالفرقة الثانية من تمهيدي الماجستير بكلية الدراسات العليا لهذا العام الجامعي، ومن عجيب القدر أن تكون هذه القراءة يوم وفاة عملاقنا العقاد! قرأناه سويا قراءات متنوعة؛ قراءة تعرف، وقراءة وصف، وقراءة تحليل، وقراءة نقد، فخرجت بجملة أسئلة عن هذا الكتاب الذي وجدته شائكا وشائقا، منها:

-ما سبب تسمية هذا الكتاب بهذا العنوان؟

– ما السياق العام الذي ألف فيه هذا الكتاب؟

– ما الدافع على تأليفه؟

– ما مكانة الكتاب في خط سير النقد الأدبي العربي في العصر الحديث؟

– ما الجديد في هذا الكتاب؟

– ما المآخذ على هذا الكتاب؟

– كيف يستثمر الفكر النقدي الموجود في هذا الكتاب؟

– كيف تلقى الأدباء والنقاد والمثقفون هذا الكتاب؟

والحق أن هذه إشكاليات كبرى يثيرها هذا الكتاب ومؤلفاه، وأن الإجابة عن هذه الأسئلة، وأن تقديم الحلول لهذه الإشكاليات تحتاج جهدا كبيرا، لا يفي به قالب المقالة، بل ينبغي أن يصب هذا الجهد في بحث علمي دقيق في منهجه، وعميق في رؤيته، ومنداح في مصادره ومراجعه.

وأكتفي في هذا المقال بجملة الرؤى الآتية حوله:

 

عتبة العنوان:

عنوان الكتاب الذي ارتضاه مؤلفاه هو (الديوان في الأدب والنقد)، كما يتضح من غلافه في طبعاته الكثيرة، وهو عنوان طريف ومثير، وهو جملة اسمية مكونة من مبتدأ (الديوان) وخبر شبه جملة، (في الأدب والنقد)، فلفظة (الديوان) خاصة بالكتاب الذي يجمع بين دفتيه الشعر،  على النحو الذي نراه عند الشعراء عامة، وعند العقاد الذي سمى مجموعة شعرية له بعنوان(ديوان من الدواوين) وقد صدرت سنة ١٩٥٨م، والذي قال في مقدمته:” اسم هذه المجموعة يدل على موضوعها؛ لأنها ديوان مقتبس من دواوين الناظم، وهي: يقظة الصباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير، وما يلي من شعر نظم بعد صدور هذا الديوان الأخير”.

وهنا في هذا الكتاب تأتي هذه اللفظة لتدل على كتاب خاص بالأدب والنقد عامة! ولم يشر المؤلفان في مقدمة الكتاب ولا في مباحثه إلى سبب هذا العنوان، ومن ثم كان لابد من السؤال عن سبب التسمية، لكأني بالمؤلفين أرادا أن يجذبا القراء بهذه المفارقة وهذا الانزياح، فقد رجعا باللفظة إلى معناها اللغوي، وهذا ما أكده لي سعادة أ.د كمال لاشين، محقق الكتاب في مهاتفة طيبة بناءة وعميقة؛ فالدِّيوانُ  في معاجم الفصحى لفظة معربة مستعملة منذ بدايات القرن الأول الهجري، وتدور حول دلالات: ديوانُ العطاء، ديوان الخراج، ديوان الجُنودِ، و السِّجِلُّ تُكْتَبُ فيهِ أَسْماءُ الجُنودِ وَأَماكِنُ وُجودِهِمْ، وأهل العطاء َما يَتَقاضَوْنَهُ مِنْ مَعاشٍ، والديوان الكتبة، أو مكان الكَتَبة وموظَّفي الدَّولة ديوان الموظَّفين، ويطلق كذلك على كل كتاب، وأطلقه رواة الشعر الأول على الكتاب الذي يجمع فيه الشعر، ويقال في كتب الإنشاء والتعبير: ديوان الإنشاء، لا سيما في أخريات العصر العباسي، وما يتبعه من دول وإمارات! وفي التعبير الإعلامي المحدث قولهم: الدِّيوانُ الْمَلَكِيُّ، وهو: إِدارَةٌ تابِعَةٌ لِسُلْطَةِ الْمَلِكِ يَشْتَغِلُ فيها مُوَظَّفونَ سامونَ يُرَتِّبونَ أَعْمالَهُ وَشُؤُونَهُ وَقَضايا الدَّوْلَةِ….فلفظة (الديوان) تجمع في دلالتها بين كونها كتابا وكونها مبنى، ولعل المؤلفين هذا الكتاب(الديوان في الأدب والنقد) قصدا إلى ذلك قصدا؛ فهما يهدفان إلى أن هذا الكتاب يمثل المصدر المكتوب الفخم الأصيل الجامع لمذهبهما الجديد الذي دعيا إليه في هذا الكتاب، في أجناس الأدب قاطبة، وقضايا النقد وإشكالياته!

كما لعلهما قصدا إلى أن يكون هذه الكتاب كالمبنى الجامع لمدرستهما جمعا فكريا وجمعا بشريا، أو جمعا عقليا وجمعا حسيا، ودليل ذلك أنهما ذكرا في المقدمة أنه سيكون في عشرة أجزاء… ولعلهما قصدا التعريض بالديوان الأكبر والأشهر والأسير حينئذ، ديوان أمير الشعراء أحمد شوقي، كأني بهما يقولان: حقيقة هذا الديوان في هذا الكتاب! وتلك الرؤية من ثمار محاورتي مع أستاذنا إبراهيم راشد حول هذا الكتاب وتسميته!

ولعل مما يؤيد هذه الرؤية قول العقاد في المقالة الأولى(شوقي في الميزان) بضمير الجماعة:” كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتًا كما نمر بغيرها من الضجات في البلد، لا استضخامًا لشهرته ولا لمنعة في أدبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من أتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات. ولكن تعففًا عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح، ويضن عليها من قولة الحق ضن الشحيح، وتطوى دفائن أسرارها ودسائسها طي الضريح، ونحن من ذلك الفريق من الناس الذين إذا ازدروا شيئًا لسبب يقنعهم، لم يبالوا أن يطبق الملأ الأعلى والملأ الأسفل على تبجيله والتنويه به، فلا يعنينا من شوقي وضجته أن يكون لهما في كل يوم زفة، وعلى كل باب وقفة. وقد كان يكون هذا شأننا معه اليوم وغدًا، لولا أن الحرص المقيت أو الوجل على شهرته المصطنعة تصرف به تصرفًا يستثير الحاسة الأخلاقية من كل إنسان، وذهب به مذهبًا تعافه النفس….”!

وشبه الجملة في عنوان ذلكم الكتاب (في الأدب والنقد) يشير إلى المجالين الفكريين الذي يدور فيهما المؤلفان، فهو كتاب يضم بين دفتيه مقالات في نقد الأدب شعرا ونثرا، ونقد النقد ذاته!

عتبة المقدمة

عندما نقرأ مقدمة المؤلفين للكتاب نجد أنها جاءت في صفحتين دارتا حول الدوافع على تأليفهما هذا الكتاب! وتمثلت في الآتي:

-العمل على نهضة الأدب ومحاربة الأدعياء والمأجورين، يقولان:

تجددت دواعٍ للكتابة في أصوله وفنونه، أخصها الأمل في تقدمه؛ لالتفات الأذهان إلى شتى الموضوعات ومتنوع المباحث، والحذر عليه من الانتكاس لاجتراء الأدعياء والفضوليين عليه، وتسلل الأقلام المغموزة والمآرب المتهمة إلى حظيرته. وكتابنا هذا مقصود به مجاراة ذلك الأمل وتوقي تلك العلل.

-التعريف بمدرسة الديوان، يقولان: وهو كتاب يتم في عشرة أجزاء. موضوعه الأدب عامة، ووجهته  الإبانة عن المذهب الجديد في الشعر والنقد والكتابة، وقد سمع الناس كثيرًا عن هذا المذهب في بضع السنوات الأخيرة ورأوا بعض آثاره، وتهيأت الأذهان الفتية المتهذبة لفهمه والتسليم بالعيوب التي تؤخذ على شعراء الجيل الماضي وكتَّابه ومن سبقهم من المقلدين.

-الفصل التاريخي والفني بين المدرسة التقليدية من أدباء الجيل الماضي(جيل القرن التاسع عشر) والمدرسة الجديدة(وليدة مطلع القرن العشرين)، يقولان:

وأوجز ما نصف به عملنا — إن أفلحنا فيه — إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي: إنساني؛ لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان خالصًا من تقليد الصناعة المشوهة؛ ولأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة، ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة، ومصري؛ لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية، وعربي؛ لأن لغته العربية، فهو بهذه المثابة أتم نهضة أدبية ظهرت في لغة العرب منذ وجدت، إذ لم يكن أدبنا الموروث في أهم مظاهره إلا عربيًّا بحتًا يدير بصره إلى عصر الجاهلية.

-تحطيم أصنام التقليد ورسم الطريق المستقيم للتجديد، يقولان: مضى التاريخ بسرعة لا تتبدل، وقضى أن تحطم كل عقيدة أصنامًا عبدت قبلها، وربما كان نقد ما ليس صحيحًا أوجب وأيسر من وضع قسطاس الصحيح، وتعريفه في جميع حالاته، فلهذا اخترنا أن نقدم تحطيم الأصنام الباقية على تفصيل المبادئ الحديثة، ووقفنا الأجزاء الأولى على هذا الغرض، وسنردفها بنماذج للأدب الراجح من كل لغة، وقواعد تكون كالمسبار وكالميزان لأقدارها….

وبتدبر هذه النصوص من المقدمة يتضح لنا أن الكتاب ثوري تمردي، وليس إصلاحيا، وهو- كما يرى الدكتور كمال لاشين – نتاج السياق السياسي الخاص بثورة ١٩١٩م التي كانت تهدف إلى هدم النظام القائم، وبناء نظام جديد، وأن هذا الكتاب في نهجه مثل كتب أخرى مثيرة مثل كتاب في الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق! فهذا الكتاب من توابع زلزال ثورة ١٩١٩م! في العقول المصرية الشابة عصرئذ!

ولم يظهر من كتاب(الديوان في الأدب و النقد) إلا جزءان، طبع أولهما في يناير وثانيهما في فبراير سنة ١٩٢١م، وأُعيد طبعهما بعد شهرين، ثم طبعا طبعات كثيرة فيما بعد!

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: