الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد يكتب: نجيب محفوظ يكتب أحلام أبي تمام

الأستاذ الدكتور سيد محمد السيد يكتب: نجيب محفوظ يكتب أحلام أبي تمام

 

 

في بيته يؤتي الحكم، عندما قرأت كتاب “في بيتي” للأستاذ العقّاد وفيه مقارنته بين الشعر والقصة حاولت تفسير موقفه المنحاز للشعر، وكيف يحمل البيت الشعري الواحد معرفة جمالية لا تقل عن رواية صفحاتها بالمئات إذا توافر في البيت -–بالطبع – العمق في استقصاء التجربة والانتقال بها من الخصوصية الفردية والمرجعية الاجتماعية إلى تمثيل جوهر الإنسان، والجدة التصويرية التي تضع المدركات في تكوين متخيل يستخلص ما فيها من ملامح دقيقة تظهر فيها حركة الوعي نفسه وهو يتفاعل مع وسائله الذاتية ومادته التأميلية، والكثافة الصياغية التي تنساب في نص آخر يظل ساريا في أفق المتلقي منتجا سردية مصاحبة للبيت الشعري.

تذكرت قول أبي تمام “ثم انقضت تلك السنون وأهلها.. فكأنها وكأنهم أحلام” وانتقلت منه إلى نص نجيب محفوظ السردي “أحلام فترة النقاهة” كانت كلمة “أحلام” هي المعبر الذي ينقل نص أبي تمام في الأفق التاريخي ليقابل نص أديبنا العالمي، كلمة “أحلام” هي الفضاء اللغوي المشترك الذي يجمع أبا تمام شاعر الأفكار ونجيب محفوظ فيلسوف القصة والرواية، إن صوت أبي تمام له أستاذية في مدرسة الإبداع الفكري الفلسفي النزعة، هذه المدرسة التي امتدت في الشعر العربي من خلال إبداع المتنبي وابي العلاء المعري، وقد شرح أبو العلاء ديوان أبي تمام وأطلق عليه عنوان “ذكرى حبيب” ليكون علامة جمالية دالة على الصلة الروحية بين التلميذ والأستاذ، فهل تتجاوز أستاذية أبي تمام الشعر لتصبح رؤية ملهمة لنظرية أدبية؟ وكل نظرية أدبية تستند إلى مرجعية معرفية لها جذور فلسفية، والأدب هو الحقل الشاسع الخصب الذي يمنح الفلاسفة مساحة التأمل والحوار وتمثيل المجردات المعرفية وتحليلها أيضا.

من منطقة معرفية مشتركة بين محفوظ وأبي تمام حاولت أن أفهم رؤية العقّاد في فلسفة الإبداع، وكانت كلمة “أحلام” عند الاثنين نقطة التقاء كما هو واضح، كلمة “أحلام” التي جمعت الناس وعصورهم في خبر واحد عند أبي تمام، ذاك الخبر الذي تتنازعه أداة التشبيه المتكررة، والتشبيه قياس معرفي جمالي يقارب بين حقيقتين عن طريق التخيّل، الحقيقة خبر يحمل معلومة، والخيال أفق حافل بالمعارف المحتملة التي تحتشد في الذاكرة واللاوعي، كلمة “أحلام” خبر “كأن” المتكررة، إن الأحلام متكررة في البنية العميقة للجملة من حيث البناء النحوي المعياري والدلالي المفاهيمي، أحلامنا متحركة بين السنين والناس، بين تيار الزمن الممتد والتمثيل الإنساني لقصة الحضارة، أحلام خبر، والقصة خبر، والرواية مجموعة أخبار، والمحتوى السردي خبري بطابعه، إن بيت أبي تمام يمنح مبدع القصة مادة لا حصر لها. الناس هي الشخصيات، والسنون هي الزمان المتصل بالمكان دائما، إن مئات القصص تهبط من البيت فيستقبلها الوعي السردي راويا منها مساحات خصبة تنمو فيها الأشجار الباسقة التي تزدهر أوراقها بالأخبار المتخيّلة التي تحاكي التاريخ والواقع والمحتمل من تجاربنا المتكررة والمتجددة.

بيت الشعر يحمل الحقيقة ويفتح لها أفقا ليليا على الخيال، على الحلم، أبو تمام في تجربته المعرفية يلتقط التاريخ، ويضعه في صورة حلم، والحلم بوتقة الفنون، الشعر والسرد أيضا، امرؤ القيس يرى الليل مثل موج البحر يرخي سدوله، السدول ثابتة حاجزة مانعة، ولكن سدول الشعر مثل موج البحر متحركة هادرة مشحونة بعالم خفي، بالأحلام التي كان يخشاها هاملت بعد النوم، إن السنين والناس لا تختفي من الحياة تماما لأن جملة أبي تمام تضع التجارب الماضية في مصاف الأحلام، ولا يمكن للحلم أن يستنفد محتواه في لحظة، إنه يتكرر بالصورة نفسها أو بشكل آخر، الشخصيات التي نراها في الحلم تعود، ربما تكرر أفعالها، ربما تمارس أفعالا جديدة، الحلم قارئ للحاضر من خلال الماضي، وأحيانا ينبه حدسنا للمستقبل.

ومثلما كان الشاعر القديم يعيش لحظة معرفية في حلم يقظة يحقق ما لم يتحقق في حلم النوم، كانت شهرازد تحكي لشهريار ما لا يراه في الأحلام، أي أن الشعر نوع من الحلم والسرد كذلك مع اختلاف بينهما، فالشعر بغنائيته أقرب إلى الروح الفردية، إنه يستخلص من الإنسان صوته العميق المشحون بمعاناته وتوجهاته وأمنياته، والسرد (بصيغته الثنائية شهرزاد وشهريار) أقرب إلى الروح الاجتماعية.

أدرك أبوتمام حقيقة جمالية مهمة وهي أن التجربة الواقعية تنتهي لكنها تظل في الذاكرة واللاوعي فيولد منها الحلم الذي يقرأ ما لم نفهمه بالمنطق، هنا يلتقي الحلم بالفن، فما يقوم به الفنان هو سعي لقراءة التاريخ أيا كانت التجارب التي تمثّله من قيام الحضارات وانهيارها إلى اللحظات اليومية القصيرة بمتعتها وشقائها، وكل نص إبداعي هو قارئ ذكي للأوقات المنقضية والناس العابرة.

هذه نظرية ننسبها إلى أبي تمام، نظرية “كأنها وكأنهم أحلام” ويمكن أن نحددها في عبارة نظرية الفن حلم التاريخ، هذه النظرية يحققها محفوظ لأبي تمام، ومجموعة “أحلام فترة النقاهة” هي تطبيق للنظرية التمامية أو للبيت الشعري، في نصوص الأحلام ينطلق محفوظ من أسر المنطق الذي يفرض على الشكل الإبداعي قوانينه الجمالية المؤسسة للاتفاق غير المعلن بين المرسل وسياق التلقي، أي بين المؤلف والقراء، ويدخل في دائرة القارئ – بالطبع – النقاد الذين يحكمون على العمل طبقا لمعايير مستخلصة من خبرات القراءة الجادة الرصينة بما فيها من إعمال للعقل المدعّم بالذوق المدرّب.

كتب نجيب محفوظ أحلامه القصصية بعد حياة مانحة لمادة رائعة من الأحلام، لقد عاش الرحلة وأراد أن يعيشها بطريقة أخرى، طريقة الحلم، أن يراها كلها، أن يستحضرها من خلف ليل كموج البحر ثم يستقطر ماء هذا الموج في نصوص عابرة بين اليقظة التي عاشها طويلا والنوم الآتي في الأفق، كانت الأحلام مساحة لمعايشة رفاق العمر قبل السفر إليهم في عالم الخلود، إنها الكتابة المتأخرة بمصطلح إدوارد سعيد، حينما يتجاوز المبدع قيود الأشكال المعيارية ويحلق في أجواء الفن مطلقا لنفسه الحرية في التشكّل على النحو الذي يتمناه خارج الأطر، عاش نجيب محفوظ بحدسه في مجموعة “أحلام فترة النقاهة” منطقة التقاء عالم الواقع الذي يكاد يغادره بكل ما شاهده فيه من مشاكل ونقص، والعالم الذي يسير إليه باستيعابه لكل من عاش معه ومضى، إنه يكاد يشفى من مرض الحياة، يكاد يتعافى من قيود الجسد والمادة، وهي تجربة يستطيع أن يتخلّص فيها من قيود الكتابة القصصية التي أمضى عمره في حفرها وتطويرها.

وطوال رحلة الحياة التقى نجيب محفوظ بأصحاب أفكار متعددة أصبح بإمكانه أن يتحدث معهم في الحلم ويحمل لهم رسائل تلقي الضوء على رؤيتهم وموقف اللحظة الحضارية الراهنة منها، لقد افتقد السياق بعض المقوّمات الثقافية ومنها التفكير العلمي ونشر أدبيات العلوم واحترام الفنون الجادة ونقل ثقافة الآخرين بدرجة من العمق والتحليل، في الحلم السادس والثمانين يقابل نجيب محفوظ صديقه الراحل حسين فوزي أحد رموز العلم والفن معا والمتمكن من الثقافة الغربية ولديه القدرة على تحليل نماذجها الفنية، هنا تبدو الأحلام مثل رسالة الغفران التي كتبها أبو العلاء تلميذ أبي تمام، لكن أديبنا ليس في حاجة إلى وسيط يرسله في الرحلة لأنه على أعتابها بالفعل، فليكن الحلم أفقا ممتدا يصل الماضي بالمستقبل، يقول نجيب محفوظ: “كلّفت بحمل رسالة إلى المرحوم الدكتور حسين فوزي فقلت له إن معي عرضا لإعادته في الخدمة مع زيادة ملموسة في الراتب وتخصيص حجرة فاخرة لمقامه، ضحك الدكتور وقال إنه لا يهمه الراتب ولا الحجرة ولكن يهمه احترام فكره وكرامته، ورجعت وفي يقيني أن مهمتي قد فشلت.” الرمز في الحلم يحوّل المكانة الفكرية إلى راتب وحجرة، والرسالة من العقل الحضاري الذي أمضى نجيب محفوظ حياته كي يكون ممثلا له، وها هو ذا يقوم بدوره حتى الرحلة الأخيرة، لكن الأفكار لا تغرس بقرار إنما هناك سياق ثقافي شامل لابد أن تجد نفسها فيه، ومن الصعب أن تنمو الثقافة التي يمثّلها حسين فوزي في سياق يفتقد الجمع بين العلوم والفنون، ولا يجيد التعامل مع المنجز الفني العالمي بدقة مستوعبة لتقنياته، لذلك فرسالة محفوظ لن تنجح في إحياء نموذج حسين فوزي الثقافي الرمزي بالطبع، وهذا نقد من محفوظ لسياقنا المعرفي حين كتب “أحلام فترة النقاهة” في مطلع القرن الحادي والعشرين، وقد تختلف مع انحياز حسين فوزي بدرجة ما للفنون الغربية لكن تعدد التوجهات مطلوب في سياق التفاعل الحضاري الذي لا يكتفي بتقليد القشور واللهث وراء الاستهلاك إنما يضع في اعتباره شمولية المعرفة وتنوّع مصادرها، ومن خلال نموذج ثقافي آخر يستطيع نجيب محفوظ في هذا الأفق البرزخي أن يحدثنا عن العالم كما عاشه وكما يحلم به، يستطيع أن يضع أمامنا ما تحلم به حضارتنا من مثالية تجمع الشرق والغرب في سياق متكامل، هذا الحلم يمثّل نموذجه الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ محفوظ في الفلسفة، وأحد أعلام جيل الآباء الذي تعلم منه نجيب وصحبه وشاركه، وقد كتب نجيب محفوظ بجوار أستاذه مصطفى عبد الرازق في مجلة المعرفة المصرية مطلع الثلاثينيّات من القرن العشرين ولم يكن محفوظ قد بلغ العشرين من عمره بعد،  يقول نجيب محفوظ في الحلم رقم ثمانين ومائة: “رأيت أستاذي الشيخ مصطفى عبد الرازق – وهو شيخ الأزهر – وهو يهم بدخول الإدارة، فسارعت إليه ومددت له يدي بالسلام، فصحبني معه، ورأيت في الداخل حديقة كبيرة جميلة، فقال إنه هو الذي أمر بغرسها، نصفها ورد بلدي، والنصف الآخر ورد إفرنجي، وهو يرجو أن يولد من الاثنين وردة جديدة كاملة في شكلها، طيبة في شذاها.” نموذج مصطفى عبد الرازق يمكن أن يكون مدخلا لنسق ثقافي يلتقي فيه الشرق والغرب، إنه عالم بحث محفوظ عنه كثيرا مستلهما بنية الرواية الغربية وغارسا فيها شجرته الشرقية. لقد وصل نجيب محفوظ في هذه الأحلام لصيغة تحقق نظرية أبي تمام في كون الفن حلم التاريخ، وأعاد للقراءة نظرية العقّاد في العلاقة بين الشعر والقصة متجاوزا سؤال الأفضلية الذي يأخذ الفكر إلى ساحة التصادم إلى سؤال الإبداع الذي يلتمس في الأشكال الفنية كافة شعرية الحلم.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: