من عبق الماضي – الحلقة الرابعة

من عبق الماضي – الحلقة الرابعة

بقلم: دكتور وجيه يعقوب السيد

(أخي يعقوب: النجم الذي خبا سريعا)

 

تطاردني ذكريات الأحبة في معظم الأوقات وتأبى أن تفارقني، خاصة ذكرى هذا الحبيب القابع في سويداء القلب لا يريد أن يبرحه؛ أخي وتوءم روحي وواسطة عقد إخوتي (يعقوب) عليه رحمة الله، وُلد قبلي بعامين اثنين فقط لكن حياته الحافلة بالمغامرات أكسبته خبرة رجل كبير ناضج لا يعبأ بالحياة ولا بقوانينها الصارمة، فاختط لنفسه طريقا لا يشبه سائر الطرق وفلسفة لا يؤمن به سواه، على أنه كان مستعدا لتحمل تبعات ذلك مهما كلفه الأمر؛ هذه الحياة قبضتي وملك يميني أعيشها كما أشاء أيها البشر، لكم عليَّ ألا أتدخل في شؤونكم، وعليكم أن تكفوا عن التدخل في حياتي وتناقضاتي المزعومة من وجهة نظركم، هل أبدو لكم شخصا غريب الأطوار يُغنّي للحياة بأعلى صوته في الصباح، حتى إذا ناح الثكالى في المساء راح في نوبة بكاء وحنين تتفتت لها الأكباد والقلوب؟ لا تتعجبوا، ربما تعرفون السر بعد فراقي، ربما تكتشفون ما اكتشفته أنا مبكرا دون عناء ودون صخب وادعاء! إيه يا يعقوب، كم مضى على فراقك ورحيلك؟ أكاد أقول: إنه يوم أو بعض يوم لا أربعة عقود، لأن صورتك ما زالت شاخصة أمامنا لا تغيب، وحبك دفينا في قلوبنا، وسيرتك القصيرة والمثيرة تنشط كلما أوجعتنا الحياة وآلمتنا، وما أكثر ما توجعنا وتؤلمنا الحياة! كانت حياته حافلة ومليئة بالأحداث والمغامرات ومفعمة بالطموح والأمل والأحلام التي لا حدود لها، رغم أنها لم تمتد لأكثر من عشرين عاما تقريبا، كان يعقوب الأقرب إلى قلبي بحكم السن، والاشتراك في الكثير من الأفكار والآراء والأحلام والطباع.

كنا نبدأ يومنا في كثير من الأوقات بما يشبه المصارعة الحرة، ولا ننتهي من وصلات الضرب المتبادلة إلا بعد تدخل الوالدة عليها رحمة الله، وتهديدها بالعقاب إن لم نتوقف، وفي منتصف اليوم نتشارك في حمل الوعاء سويا مُجبَرَيْن حيث حنفية المياه العمومية بأرض الباز التي لا يقصدها سوى السيدات في الغالب، وربما تكرر هذا الأمر في اليوم الواحد أكثر من عشر مرات حتى تمتلئ الأواني الفارغة عن آخرها بالمياه، كان ذلك قبل أن تدخل المياه إلى البيوت، أما في آخر اليوم فنتعطر ويتأبط كل واحد فينا يد الآخر كصديقين حميمين لا يفترقان، أين الضرب وأين أثر المياه والضجيج والشجار الذي كان يحدث عند الحنفية العمومية يا يعقوب؟ لقد حلت محله ضحكات مجلجلة وضجيج وصخب وتوثب في كل شارع من شوارع هذه القرية الساحرة، كان يعقوب مشروع شاعر ومبدع، وكان صاحب صوت جميل جدا، يقلد المطربين وقراء القرآن بإتقان وإجادة، يسألني: من تحب أن تسمع؟ عبد الحليم أم عبد الوهاب، أم الشيخ عبد الباسط، أم النقشبندي؟ محظوظ أنا بك يا يعقوب، أمتلك إذاعة كاملة مؤشرها بيدي، وقلبا لا يعرف سوى الحب والتسامح والعطاء بلا حدود، التحق يعقوب بالتعليم الفني الصناعي ليتخرج بسرعة رغم حصوله على مجموع يؤله للالتحاق بالثانوية العامة، ليساعد الوالد رحمه الله في مسؤوليته الكبيرة ويكوِّن مستقبله كما كان يخطط، وعمل في إحدى شركات القطاع العام مع أبي قبل أن يلتحق بالجيش لأداء الخدمة العسكرية، كان مقر هذه الشركة في محافظة البحيرة، ومن هناك كانت تأتيني رسائله المطولة عبر البريد وكنت أنتظرها بلهفة وترقب، كان يسهب فيها ويتحدث في كل شيء وعن كل شيء، يحدثني عن أحلامه وطموحاته، ورغبته في أن يصبح فنانا مشهورا، ثم يختم رسالته بأبيات من الشعر وببعض الألغاز اللغوية، ويُذكِّرني بوعده لي في كل رسالة: سوف أشتري لك كل الكتب التي تريدها، سيكون عندك مكتبة تجد فيها كل ما تحب، وسوف، وسوف، لم يكن قد تبقى له بالخدمة العسكرية سوى أشهر قليلة، ليخرج بعدها إلى الحياة ليزاول نشاطه، ويسعى إلى تحقيق أحلامه، لكن الله عز وجل اختاره ليكون شهيدا بإذن الله تعالى، كان شابا جميلا نقيا صافيا برا بوالديه وبأهله، محبوبا من الجميع، أسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته.

(لا يقع إلا الشاطر!)

كنت خارجا للتو من أحد المحلات التي تبيع التمور في منطقة الشويخ بدولة الكويت بعد يوم عمل شاق، وعند توجهي للسيارة وجدته يقترب مني ويشير إلي وكأنه كان ينتظر لحظة خروجي ليسألني عن أمر مهم هكذا توقعت، وحين اقتربتُ منه تحدث إلي بلكنة عربية أعجمية خمنت بعدها أنه قد يكون من جنسية أوروبية فقد كانت ملامحه تدل على ذلك، وسألني عن أقرب طريق يصل من خلاله إلى دوار شيراتون، فوصفت له الطريق الذي أعرفه وأوصيته أن يستعين بهاتفه في تحديد وجهته حتى لا يضل الطريق، لأني لا أثق في وصفي تماما.

لم يتوقف الحوار بيننا عند هذا الحد، فقد نزل هذا الرجل الأنيق من سيارته ليشكرني، وراح يتبادل معي الحديث في أمور شتى؛ راح يحدثني عن برشلونة وريال مدريد ومحمد صلاح، واستفزني بحديثه عن برشلونة وعشقه الجنوني لميسي، فقلت لنفسي: سأغيظه أنا أيضا بحديثي عن رونالدو الفنان ومهاراته وسرعته، وظل ينتقل بي من موضوع إلى آخر ومن قصة لقصة، حتى شعرت وكأننا نسير في دهاليز شوارع خان الخليلي بقاهرة المعز، لا تعرف لها بداية من نهاية، يا له من شخص مؤنس بالفعل ويجيد الحكي والقص؛ يحدثك عن مصر أم الدنيا بكل محبة فتنصت له في إعجاب، ويشيد بالشعب المصري وشهامته وخفة دمه فتنتفخ أوداجك وتشعر بالفخر والزهو، وهذه إحدى نقاط ضعفي وضعف معظم المصريين، شعرت تجاهه بالامتنان وإمعانا مني في إيصال هذا المعنى له كنت أشكره بعد كل جملة يشيد فيها ببلد المحبوب، ورغم حرارة الجو وحاجتي للعودة إلى البيت لكي أرتاح بعد عناء يوم طويل وشاق، فقد تحاملتُ على نفسي وانتظرته حتى ينتهي من حديثه، لم أكن أريد أن أبدو كما لو كنت شخصا فظا غليظا، في مقابل صاحب هذا الذوق الرفيع والأدب الجم.

وعندما هممت بالانصراف أَخرج هذا الغريب من سيارته كيسا أنيقا للغاية، به عدد من العبوات من أفضل أنواع العطور كما أخبرني، وكانت مغلفة بصورة أنيقة للغاية، وبلكنة عربية ماكرة هذه المرة قال لي: أنت شخص ودود، ويبدو أنك إنسان طيب ومحب للعطور، قلت له: طبعا ومن لا يحب العطور؟ ظننت أنه يريد أن يعطيني خلاصة تجربته في كيفية اختيار العطور الجيدة، أو كيف أميز العطور الأصلية من العطور المغشوشة، لكنه فاجأني بأنه كان في مهمة لعدة أيام، من أجل الترويج لهذه الماركات العالمية من العطور لصالح إحدى الشركات الإسبانية، وأنه سيسافر بعد قليل، ويريد التخلص من هذه العطور وبيعها بثمنها الأصلي دون ربح لأنه لا يستطيع أن يحملها في الطائرة، ولأنني رجل طيب وجنتلمان كما وصفني، فقد قرر أن يبيعني إياها بمبلغ زهيد، قلت لنفسي: وما ذنبي في هذه الورطة؟

حاولت الاعتذار له بكل السبل، وأخبرته بأنني لا أحمل معي ما يكفي من أموال، لكنه كان قد أحكم التخطيط، فأشار علي بدخول السوق التجاري المجاور لمحل التمور، حيث توجد به ماكينة لسحب النقود، ولم يترك لي خيارا واحدا بعد أن نجح في تشتيت تفكيري بهذه الطريقة، وبعد أن كسب تعاطفي بعد أن أخبرني بأنه لن يُسمَح له بحمل هذه العطور على متن الطائرة، فدخلت إلى السوق وسحبت مائة دينار من ماكينة صرف النقود ودفعتها له ثمنا لهذه العطور، التي لا أعرف لها ملة ولا لونا ولا رائحة، فتناولها الرجل الإسباني مني وركب سيارته وانطلق سريعا وعلى محياه ابتسامة عريضة، ثم اختفى في الزحام وكأنه فص ملح وذاب، لم أنتظر العودة إلى البيت لأجرب تلك العطور فقد دب الشك في قلبي بمجرد اختفاء هذا الشبح، فرحت أفتحها واحدة تلو الأخرى، لأجد كل زجاجة أسوأ من أختها: مزيج من الماء المخلوط بأبخرة العطور وليس ببقايا العطور، حاولت استيعاب الصدمة وامتصاصها ورحت أسترجع كل الأمثال الشعبية التي أحفظها من مثل: ما يقع إلا الشاطر، وتعيش وتاخد غيرها، ولكل جواد كبوة، وما أن وصلت إلى البيت حتى انفجرت بالضحك، وسط دهشة أولادي واستغرابهم من تصرف هذا الوالد الوقور الذي يضحك بلا سبب ولا يستطيع السيطرة على حالة الضحك الهستيرية، فلما قصصت عليهم ما حدث لم يتمالكوا أنفسهم هم أيضا من الضحك، وظلوا لأكثر من شهر يتندرون علي، وكلما حاولت إسداء نصيحة لأحدهم في موقف من المواقف كتم ضحكة خبيثة في نفسه، وكأنه يقول: ألم يكن من الأجدر بك أن تنصح نفسك قبل أن تنصحنا!

(المحطة الأولى والأهم في حياتي)

عندما التحقت بكلية الألسن لم أكن أدري أن بها قسما للغة العربية، وربما يوجد من لم يسمع بوجود قسم للغة العربية بكلية الألسن حتى الآن، وحين تحدثهم عن قسم يدرس اللغة العربية بكلية الألسن قد يُبدون استغرابهم ودهشتهم، ولا أعرف السبب في ذلك، ربما لعزوف الطلاب عن دراسة اللغة العربية، أو بسبب تقصير الإعلام أو تقصيرنا نحن في التعريف بالقسم والدعاية له، وأنا أعد قسم اللغة العربية بكلية الألسن قسما فريدا ومميزا لسببين؛ الأول: أنه يجمع بين مناهج المدرستين الكبيرتين الآداب ودار العلوم؛ فالذين أسسوا قسم اللغة العربية هم من أبناء دار العلوم من أمثال الدكتور عبد السميع محمد أحمد والدكتور محمد عبد الرحمن شعيب والدكتور محمد عبد الحميد سالم وغيرهم، ومن أبناء كليات الآداب من أمثال الدكتور عوني عبد الرؤوف والدكتور عبد الله خورشيد والدكتور إبراهيم بسيوني، لذلك فإن طالب الألسن يجمع بين النزعة المحافظة والتجديد، وأنا هنا بالطبع لا أقول بتفوق مدرسة على أخرى ولا أفاضل بين كلية وأخرى، ولكني مؤمن بأن لكل مؤسسة علمية شخصيتها وأسلوبها الخاص بها، أما السبب الآخر، فيرجع إلى طبيعة طالب الألسن المتفوق الذي حصل على درجات مرتفعة أهلته للالتحاق بكلية عريقة ذات تاريخ ومكانة مرموقة، وهو ما يجعل طالب الألسن مختلفا ومميزا ومهيأ لتلقي العلم بصورة جيدة، كما أن طبيعة كلية الألسن وانفتاحها على الثقافات والآداب الغربية ينعكس على أساتذة القسم وطلابه، واختيارهم للنصوص والموضوعات الأدبية التي تتسم بالحداثة والجدة والانفتاح على الثقافات المختلفة.

(سيادتك مسلم والا مسيحي؟)

لم يكن اسمي يسبب لي أية مشكلة قبل الانتقال للدراسة والعيش في القاهرة؛ وكان أول من التفت إلى غرابة الاسم وما قد يتسبب فيه من لبس هو أستاذي المرحوم الدكتور محمد عبد الرحمن شعيب؛ ففي أول محاضرة لي في الجامعة وكانت في مكتبه حين كان عميدا لكلية الألسن، راح الدكتور شعيب يسأل كل طالب عن اسمه وبلده وسبب التحاقه بقسم اللغة العربية كما جرى العرف في أول محاضرة، ولم يستغرق سؤاله لزملائي سوى وقت يسير، فلما جاء الدور علي أطال السؤال وأطلت الجواب، وتعجبت من إصراره على معرفة سبب التحاقي بالقسم، وعدم اكتفائه بإجابتي التي كانت مماثلة لإجابة زملائي تقريبا، فلما أحس أنني لم أفهم ما يرمي إليه سؤاله بادرني قائلا: أنت تبع أي أبراشية؟ فلما أبديت دهشتي وعدم معرفتي بهذه اللفظة تعجب وسألني: ألست مسيحيا؟ فأجبته بالنفي، فابتسم واعتذر لي، ثم حكى لنا عن بعض الطلاب المسيحيين الذين التحقوا بقسم اللغة العربية لأسباب مختلفة، وختم حديثه بقوله: على أي حال، اسمك هذا سيسبب لك مشاكل، وظل رحمة الله عليه لفترة غير قصيرة بعد تعييني معيدا وإشرافه علي في الماجستير والدكتوراه يمازحني كلما التقيته ويذكرني بهذا الموقف.

عزمت على تغيير هذا الاسم تلافيا لهذا الحرج وهذا اللبس، وفي أول زيارة لي للقرية حاولت إقناع والدي رحمة الله عليه بذلك، وقصصت عليه ما حدث معي، لكن هيهات أن أظفر بمثل هذا المطلب، فقد كان الوالد رحمة الله عليه يملك أسلوبا قويا وجميلا في الإقناع، قال لي في هدوء: كلها أربع سنوات وتعود إلى بلدك سالما غانما باسمك الذي تحمله والذي عرفك الناس به، واسمك اسم جميل فلا تشغل بالك بهذا الأمر، وهكذا عدلت عن فكرة تغيير اسمي، خاصة بعد أن سألت عن إجراءات تغيير الاسم، ووجدت أنها تحتاج إلى وقت وجهد طويل لا طاقة لي به.

بعد أسابيع من حديث أستاذي رحمه الله زارنا زميل مسيحي في المدينة الجامعية بالعباسية، وكان طالبا في قسم اللغة الروسية، جاء ليزور صديقا له من الصعيد، وبدافع المزاح قال له بعض الزملاء: معنا طالب مسيحي في قسم اللغة العربية اسمه وجيه يعقوب وكنت غائبا في ذلك اليوم، فلما رجعت إلى المدينة أخبروني بما فعلوه، وأقسموا بالله أن أكمل معهم المزحة غدا، فقد وعدهم الصديق أن يأتي خصيصا لزيارتي وتفقد أحوالي، وبالفعل جاء في اليوم التالي وتعرف إلي وطلب مني أن أصحبه إلى منزله في الدمرداش لأعرف بيته وأسرته، وفي الطريق راح يطرح علي أسئلة، فهمت منها أنه يريد اختباري والتأكد إذا كنت مسيحيا أم لا، فاختصرت الطريق عليه وأخبرته أن هؤلاء الشياطين – سامحهم الله – هم الذين ورطوني في هذه المزحة، وأنني شاب قروي مسلم، وأن اسم يعقوب هذا شائع لدينا، وهو نبي من أنبياء الله على كل حال، وصارت بيننا صداقة، واستمر الحوار بيني وبينه ولم تنقطع علاقتنا، ورحنا نتبادل الأسئلة حول الإسلام والمسيحية، بصورة تعكس رغبة كل منا في معرفة الآخر.

وذات يوم عندما كنت خارجا من المدينة الجامعية رأيت زميلا من ذوي الاحتياجات الخاصة متجها إلى الكلية فأردت أن أساعده في عبور الطريق، فلما سألني عن اسمي وأخبرته أبطأ في المشي وتظاهر بأنه سينتظر صديقا له ورفض مساعدتي، وتعجبت من تصرفه هذا لكن فيما بعد قابلته في المسجد وذكَّرته بما حدث فانفجر ضاحكا وقال: ظننتك مسيحيا، وأفهمته حينها أننا جميعا هنا أصدقاء وإخوة أيا كانت ديانتنا والبيئة التي أتينا منها، وبعد التخرج عملت لفترة في جريدة المسلمون وكنت أوقع باسمي ثلاثيا: وجيه يعقوب السيد ومع ذلك ظل البعض يطرح علي هذا السؤال العجيب الذي أصبحت أتوقعه.

أذكر أن ابن خالتي المرحوم ناصر حراز كان يقضي الخدمة العسكرية بالقاهرة وكنا نجلس على مقهى بالعباسية، وأبدى رغبته في دخول الكنيسة ومشاهدتها من الداخل وحضور درس أو موعظة للبابا شنودة، وتعجبت من طلبه لكني وافقته ودخلت معه مع الداخلين، وكان الشيخ ناصر صاحب دعابة ومزاح جميل، قال لي ونحن نستعد للدخول: أنا جي أسلِّمك هنا وأمشي واسمك لن يشك فيه أحد، وكان البابا شنودة يشرح في تلك الليلة آية من الكتاب المقدس: أنتم ملح هذه الأرض، وظل يصول ويجول ويتحدث بلغة بليغة ودعابة محببة، أتذكر وهو يقول: أنتم طبعا عارفين أهمية الملح في الطعام، بدونه يكون الطعم ماسخ، وقال وهو يشرح بعض الألفاظ القبطية: كلمة الإيه معناها البقرة؛ يعني لو حد قالك: يا ابن الإيه فاعرف إنه بيشتمك، وخرجنا بعد انتهاء الموعظة نهيم على وجوهنا في شوارع العباسية دون أن نتوقف عن الضحك!

(وين تروح يا صعلوك بين الملوك!)

في فترة من فترات حياتي كنت شغوفا بمتابعة إعلانات الصحف المصرية؛ إما بحثا عن فرصة عمل مناسبة، أو من أجل العثور على شقة صغيرة تناسب إمكاناتي المحدودة، وقد واجهتني العديد من المواقف الطريفة التي لا أنساها وأنا أخطو أولى خطواتي في هذا الطريق الطويل جدا والشاق جدا؛ فذات يوم وقعت عيني على إعلان لا تنطبق شروطه علي تماما؛ يطلب مشرفا على سلسلة مطبوعات لدار نشر عالمية كبرى، يتمتع بخبرة كبيرة في التأليف والنشر والعمل الأكاديمي ولديه استعداد للسفر وغير ذلك من الأمور، كان ذلك بعد تخرجي بعام أو عامين، وبالطبع لم تكن هناك خبرة ولا تأليف ولا يحزنون، ربما فقط كان الشيء الوحيد الذي ينطبق علي هو أن (لدي استعدادا للسفر)، بل شغف شديد للانتقال والحركة والانعتاق، المهم أنني أمسكت بالقلم الذي لم يخذلني وقتها قط، وكتبت رسالة تتضمن سيرتي الذاتية الخالية من أي شيء مهم أو غير مهم، سوى أنني شاب طموح لا يملك أي خبرة، لكنه يسعى لامتلاكها ومستعد لبذل أقصى ما يستطيع لكي ينجح، وكتبت كلاما إنشائيا بديعا ينتمي إلى حفريات الماضي، كانت رسالة بليغة للغاية كتبتها وأنا على يقين أن مصيرها أن تُستبعَد وتُهمَل تماما، لكنني كنت كمن يستشرف المستقبل ويحاول أن يدرب نفسه على ما يمكن أن يكون، فماذا عسى أن أخسر؟ لكن العجيب في الأمر، أنه لم يمض سوى يوم أو يومين حتى اتصلتْ بي سيدة وقورة تطلب مقابلتي بشأن هذه الوظيفة، وعرفت خلال المقابلة أنها سكرتيرة أو مسؤولة في تلك الشركة الكبيرة التي نشرت الإعلان، قالت لي: رغم حداثة سنك وقلة خبرتك كما ذكرت في رسالتك، لكن رسالتك كانت من الرسائل التي لفتت الأنظار في الشركة، وبناء عليه قررنا مقابلتك والاستماع إليك وإلى أفكارك، ودار حوار ودي ومشجع للغاية بيني وبينها، وتطارحنا الأفكار والتصورات، وعرضتُ عليها أفكاري لتطوير دار النشر، ولا أنكر أنه كانت لدي أفكار غير تقليدية وحب فطري وغريزي للنشر، ثم انصرفتُ على وعد منها بالتواصل معي بعد فحص كافة الطلبات، كنت أعرف أن الفرصة ضعيفة للغاية أو منعدمة، لكنني كنت شغوفا بخوض هذه التجربة على أية حال، وبعد أيام اتصلتْ بي تلك السيدة لتشكرني وتتمنى لي النجاح والتوفيق، وأخبرتني أن الشركة قد اختارت أحد الأساتذة المخضرمين، ورأت أن ظروفه هي الأنسب للإشراف على السلسلة الأدبية التي تعتزم الدار إصدارها، كانت فرحتي كبيرة جدا بالتجربة، ولم يقلل من تلك الفرحة أبدا عدم اختياري للوظيفة، فقد كنت متأكدا من استحالة هذا الاختيار، ومرت الأيام وعلمتُ بمحض الصدفة أن الذي اختير للإشراف على تلك السلسلة هو أستاذ الأساتذة طيب الذكر العالم الكبير الدكتور محمود علي مكي رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته، كدتُ أستلقي على الأرض من شدة الضحك، ورحت أتذكر عباراتي المنمقة وسطوري المليئة بالتحدي، التي حاولت من خلالها تعويض ما لا يخفى من قصور وقلة خبرة، لأجد نفسي في منافسة مرة واحدة مع هذا العلم الكبير، وما تذكرت هذا الموقف إلا وقلت لنفسي: (وين تروح يا صعلوك بين الملوك!)

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: