(المستشرق الإنجليزي رينولد. أ. نيكلسون وجهوده في دراسة الأدب العربي والدراسات الإسلامية) ( الحلقة الثانية )

(المستشرق الإنجليزي رينولد. أ. نيكلسون وجهوده في دراسة الأدب العربي والدراسات الإسلامية) ( الحلقة الثانية )

الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد

أستاذ النقد الأدبي الحديث ورئيس قسم اللغة العربية – كلية الألسن – جامعة عين شمس

 

يقول الأستاذ أبو العلا عفيفي في مقدمة ترجمته كتاب: في التصوف لنيكلسون: وأشهر رجال هذا الجيل من المستشرقين الذين خطوا بدراسة التصوف خطوات واسعة، ووضعوا الأسس الحقيقية التي تستطيع الأجيال المقبلة أن تبني عليها هما الأستاذان لويس ماسينيون ورينولد نيكلسون، فقد قصرا حياتهما على دراسته دراسة عميقة، وقد تجاوزا الحديث عن نشأة التصوف وأصله، إلى النظر في تصوف بعض كبار مشايخ الصوفية كالحلاج والغزالي وابن عربي وابن الفارض وجلال الدين الرومي، ودراسات نيكلسون بشكل خاص يمكن اعتبارها جزءا مهما من تاريخ التصوف الإسلامي أو مدخلا إليه؛ وقد انفرد نيكلسون من بين مستشرقي بلاده بالعناية بتلك الناحية الخاصة من تاريخ الإسلام بالتصوف خاصة؛ لأنه رأى فيه أخص مظاهر الحياة الروحية عند المسلمين وأبرزها، فكَرَّسَ حياته الطويلة وهي ما تزيد على خمسن عاما لدراسة مصادر التصوف العربية والفارسية والعوامل التي ساعدت على نشأته ونموه، ولكي يحقق ذلك كان عليه أولا أن يقوم بمهمة نشر المخطوطات المتعلقة بالتصوف وتحقيقها والتعليق عليها وترجمتها إلى الإنجليزية، مثل كتاب اللمع لأبي نصر السراج، وكشف المحجوب للهجويري، وتذكرة الأولياء لفريد الدين العطار، وترجمان الأشواق لابن عربي، وديوان جلال الدين الرومي وغير ذلك من المصادر المهمة، حيث كان يرى أن نشر مثل هذه الأعمال هي خطوة على الطريق تُمهِّد السبيل لوضع تاريخ التصوف العام، وتعد ترجمته ونشره لمثنوي من أهم الأعمال التي قام بها، وكانت ترجمته أقرب إلى لغة المتصوفة الذين هام بهم وشاطرهم أذواقهم ومواجيدهم وإن لم يعش في زواياهم ويسلك نفس مسالكهم كما يقول عفيفي. (انظر: مقدمة الأستاذ أبو العلا عفيفي مترجم كتاب: في التصوف الإسلامي وتاريخه، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1947م)

(كتاب: في التصوف الإسلامي وتاريخه)

يقع الكتاب في نحو مائتي صفحة فقط، وعلى الرغم من ذلك فإنه يعد من أهم المراجع التي تتناول نشأة التصوف وتاريخه وأهم مقولاته؛ إذ لم يتوقف دور المؤلف على جمع وحشد تعريفات التصوف المختلفة التي تزيد على المائة، وإنما حاول ترتيبها ترتيبا زمنيا يُمكِّنه من دراسة التطور التدريجي للفكر الصوفي ابتداء من القرن الثالث الهجري إلى أواخر القرن الرابع، ولم يعتمد نيكلسون على مجرد النقل كما هو شأن كثير من الباحثين، وإنما اعتمد في منهجه على الاستقصاء والتحليل والمقارنة وبذل الجهد في دراسة الفروق الدقيقة بين التعريفات المختلفة التي وردت عند مبرزي رجال التصوف.

ومن الآراء الجديرة بالإثبات هنا أن المؤلف على العكس من كثير من الباحثين في التصوف لا يرى تأثيرا للمسيحية أو لأي مصدر أجنبي في نشأة التصوف وإنما كان التصوف وليدا لحركة الإسلام ذاته، وأنه كان نتيجة لازمة لفكرة المسلمين وتصوراتهم عن الله، وإن كان فيما بعد قد تأثر بمصادر مختلفة؛ فقد ظهرت بذور التصوف الأول في نزعات الزهد القوية التي سادت في العالم الإسلامي في القرن الأول الهجري، وترجع العوامل الرئيسة في ظهور نزعة الزهد إلى عاملين هامين: الأول المبالغة في الشعور بالخطيئة والذنب، والثاني الرعب الذي استولى على قلوب المسلمين من عقاب الله وعذاب الآخرة، وسرعان ما تحول الزهد إلى التصوف؛ فإن الحسن البصري وهو أشهر ممثلي حركة الزهد، يعد في نظر الصوفية واحدا منهم؛ وهم محقون في ذلك لأن الحسن البصري كان ينزع إلى حياة روحية خالصة في عبادته غير قانع بمجرد الصور الشكلية في أدائها، وهو بعد ذلك يتتبع بدقة تعريفات أهل التصوف ويعرض أهم النظريات ليؤكد أنه من العبث وغير المجدي إرجاع هذه النشأة إلى أصل واحد أو مصدر واحد. (انظر: ر.أ. نيكلسون: في التصوف الإسلامي، ص 3)

ويناقش المؤلف عددا كبيرا من قضايا التصوف وأهم مقولاته التي صارت فيما بعد موضوعات أثيرة للدراسة لدى الباحثين العرب والغربيين، مثل: الحديث عن أصل التصوف، ومراحل تطوره، وأهم أعلامه، والفرق بين الزهد الإسلامي والزهد الصوفي، وتطور التصوف في العصور الوسطى، والعلاقة بينه وبين الرهبنة، كما يناقش باستفاضة قضية اشتقاق لفظ الصوفية ومعناه، وهدف التصوف الإسلامي، ويعرض لحياة عدد من مشاهير التصوف كالحلاج ومعروف الكرخي وابن الفارض والغزالي وجلال الدين الرومي، ونظريات المتصوفة في الحقيقة المحمدية، وأقوالهم في الحب الإلهي وحب النبي الكريم وغير ذلك من القضايا المهمة.

ومن الفصول المهمة التي كتبها نيكلسون الفصل الخاص بالشعر الصوفي وهو جدير بالقراءة لما يتضمنه من آراء جديدة، يحاول من خلالها تفسير تعلُّق الصوفية بالشعر الغزلي، ورمزية هذا الشعر، والفرق بين الشعر الغزلي غير الصوفي والشعر الغزلي الصوفي، وعنده أن الرمزية لم تكن مقصودة في شعر الغزل غير الصوفي، ولكن الصوفية كانوا يؤولون هذا النوع من الشعر تأويلا رمزيا خاصا، أما الشعر الصوفي فكان على العكس من ذلك، فإن المعاني التي قَصَدَ إليها الصوفيةُ كانت صوفية مهما كان الثوب المادي الذي كُسِيت به، وكثيرا ما يتشابه النوعان في الظاهر، إلى حد أننا إذا لم نقف بطريقة ما على غرض الشاعر، لا نستطيع التمييز بين قصيدتين إحداهما يتغنى صاحبُها بالحب الإنساني والأخرى بالحب الإلهي، فإذا قيل: لم ذهب الصوفية إلى هذا الحد في استعمال لغة الحب ورموز المحبين؟ كان الجواب أنهم لم يجدوا وسيلة أقوم ولا أقدر على التعبير عن مواجدهم وأحوالهم من الشعر. (انظر: ر.أ. نيكلسون: في التصوف الإسلامي، ص 90)

(تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام والعصر العباسي)

يُعَدُّ كتاب تاريخ العرب الأدبي بقِسْمَيْه للبروفيسور رينولد نيكلسون من الكتب المهمة، التي تُطلِعنا على منهج المؤلف ونظرته للأدب العربي القديم، ويقع الكتاب في نحو ثمانمائة صفحة وطُبِع في جزأين كبيرين: يشمل الجزء الأول الجاهلية وصدر الإسلام، وأما الثاني فيتناول العصر العباسي، وقد جاء القسم الخاص بالأدب الأموي ضئيلا للغاية؛ إذ إن المؤلف لا يؤمن بوجود أدب أموي من الأساس، فهو يَعُدُّه امتدادا للعصر الجاهلي وصدر الإسلام؛ إذ لم يطرأ تغيير يُذكر على شكل القصيدة الأموية، كما أن الأجناس الأدبية الأخرى لم تتطور ولم تنضج كثيرا من وجهة نظر المؤلف، ومن ثَمَّ نراه يُقلِّل من أهمية هذا العصر وشعرائه مقارنة بالأدب الجاهلي والعباسي، يقول نيكلسون في هذا المعنى:” لم يكن القرن الأول للإسلام ملائما للأدب، فقد تملَّك الفتحُ والتوسع، بادئ ذي بدء، ثم المنازعاتُ الداخلية قُوى الأمة، وعادت بعد ذلك الروحُ الوثنية القديمة تحت حكم الأمويين تؤكد ذاتها مرة أخرى، وعلى ذلك فإن أدب هذه الفترة يكاد لا يحتوي إلا على الشعر بصورة خاصة وهو لا يحمل إلا بعض علائم التأثير الإسلامي” (انظر: رينولد نيكلسون: تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، مطبعة المعارف، بغداد، 1969م، ص 351)

 

وهذا رأي غير دقيق وغير صحيح إلى حد بعيد؛ فللأدب الأموي شخصيته المستقلة والمختلفة عن العصر الجاهلي وصدر الإسلام بلا شك؛ فقد وَظَّفَ الشعراء الأدب لخدمة أهدافهم المختلفة: سياسية ودينية وحزبية، كما ارتقت فنون النثر كالخطابة والمواعظ والحِكم بصورة لافتة، لكن المؤلف – ولا أعرف السبب في ذلك – لم ينتبه إلى هذا التغير الكبير الذي طرأ على شكل القصيدة في العصر الأموي وسائر الأجناس الأدبية، تغيُّرا يؤكد على قدرة الشعراء على تطويع القصيدة للتعبير عن القضايا الفكرية المختلفة، ومواكبتهم للأحداث السياسية والاجتماعية والدينية، واستغلال الشعر للتعبير عن مستجدات العصر، وقد عالج هذه القضيةَ الشائكة عددٌ من النقاد العرب الكبار من أمثال طه حسين وشوقي ضيف وعبد القادر القط وغيرهم من النقاد والباحثين، وقد خالفوا نيكلسون فيما ذهب إليه.

وعلى الرغم من وجود بعض الهَنَات والخلل الواضح في منهج المؤلف؛ منها ما ذكرناه – على سبيل المثال – عن رأيه في العصر الأموي وغير ذلك من الآراء التي لا تستند إلى دليل علمي، ومنها أيضا: إيغال المؤلف وإكثاره من الحديث عن أشياء لا تمت للأدب ولا لتاريخ الأدب بصلة، حتى بدا الكتاب وكأنه كتاب في التاريخ العام لا في تاريخ الأدب، لكن على الرغم من ذلك فإننا لا يمكننا التقليل من أهمية هذا الكتاب وقيمته؛ فهو يتناول الأدب العربي بعين غربية محايدة قادرة على تحليل الظواهر الفنية والموضوعات السياسية والاجتماعية والدينية، ولا ننسى أن هذا الكتاب “قد كُتِب في الأصل للأوربيين ومن وجهة نظر أوربية، فمن الممتع أن نرى كيف يرى الأوربيون أدبنا في مختلف عصوره، وماذا يجب أن نفعل لتغيير وجهة النظر هذه حيثما وجدناها بعيدة عن الصواب” (انظر: الدكتور صفاء خلوصي: مقدمة كتاب: تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام، ص 7)

وربما كان اعتماد نيكلسون على هذا المنهج ومزجه بين التاريخ والأدب والثقافة والسياسة والحياة الاجتماعية له ما يُبرِّره لديه؛ فقد كان هدفُه الأساس تقديمَ تاريخ العرب الأدبي للطلاب الأوربيين في صورة مدرسية بسيطة؛ إذ يجهل أكثرُهم الإشارات والخلفيات التي ترد في الشعر مما يحول دون فهمه فهما صحيحا، يقول نيكلسون: “إن طلاب العربية الناشئين الذين وُضع هذا الكتاب لهم في الدرجة الأولى، يجدون في الغالب صعوبة في تَفَهُّم ما يقرؤون، لأنهم ليسوا على تماس مع الأفكار السياسية والثقافية والدينية المقدمة إليهم، إذ تكاد صفحات كل كتاب عربي تكون مفعمة بإشارات إلى أسماء وحوادث وحركات وأفكار لا يحتاج المسلمون إلى إيضاحها، ولكنها تُحيِّر القارئَ الغربي، إلا إذا كانت لديه معلومات عامة عن التاريخ العربي بأوسع معانيه” (انظر: نيكلسون: تاريخ العرب الأدبي، ص 9، المرجع السابق)

كذلك فإن مفهوم التاريخ الأدبي عند الأوربيين يتسع لكل نشاط كتابي ولا يقتصر على تناول الحياة الأدبية وسرد تراجم الشعراء وعرض أشعارهم فحسب، كما هو الشأن في التأريخ للأدب العربي حديثا.

وقد حذا الدكتور شوقي ضيف وكثير من مؤرخي الأدب العربي عندنا حذو نيكلسون، ولم ينتبهوا إلى الحكمة من اتباعه لهذا المنهج الذي يناسب القارئ الغربي أكثر مما يناسب القارئ العربي؛ فأسرفوا في الحديث عن الأمور الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، وابتعدوا كثيرا عن دراسة الأدب دراسة موضوعية وفنية تبرز خصائصه ومزاياه، وقد تأثَّر بهذا المنهج عدد كبير من الباحثين والدارسين، فشاب دراساتِهم التكرارُ والنقل والحشو، وما أحوجنا في دراسة تاريخ الأدب إلى التخلص من مثل هذه الزوائد، وتكريس الجهود لتسليط الضوء على الظاهرة الأدبية ذاتها، ومهما قيل في تأثير البيئة والأحداث الاجتماعية في الأدب، فإن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا نُحَوِّل الدرس الأدبي إلى درس في التاريخ وعلم الاجتماع.

ونظرا لطبيعة القارئ والمتلقي لهذا الكتاب كما أسلفنا؛ فقد غلب على طريقته ومنهجه الطابع الموسوعي والتبسيط غير المخل؛ حيث يتناول المؤلف عددا من القضايا المهمة التي تتعلق بالعصر الجاهلي وصدر الإسلام والدولة الأموية، وموضوعات الكتاب كثيرة ومتشعبة لكنها تندرج تحت عناوين رئيسة وأخرى فرعية؛ ففي المدخل يتحدث عن الساميين وانحدار العرب منهم، وعرب الشمال والجنوب والاختلافات اللغوية بينهم، وعلم الأنساب عند العرب والمسلمين، وأقدم النماذج للكتابة العربية، وأشعار الجاهلية، وتاريخ العرب الجاهليين وأساطيرهم، ومصادر الأخبار الجاهلية، وشعر الجاهليين وعاداتهم وأديانهم وأهم شعرائهم ورواة الشعر وما يُؤخذ عليهم وغير ذلك من القضايا التي تناولها مؤرخو الأدب العربي فيما بعد بالتفصيل ودارت حولها العديد من المعارك، ثم يتناول القرآن وأثره في الحياة الفكرية والروحية، كما يتناول حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتأثيره في المسلمين، وقد شاب حديثَه كثيرٌ من القصور وعدم الدقة في أحكامه على النبي ودعوته، وإن كان مترجم الكتاب الدكتور صفاء خلوصي يشير في مقدمة الكتاب إلى أن المؤلف صَحَّحَ كثيرا من تلك الآراء فيما بعد، ثم يُعَرِّج للحديث عن دولة الخلفاء الراشدين وحكم بني أمية وأهم شعرائها والفرق والحركات السياسية والدينية.

وفي دراسته عن العصر العباسي، لم يَخرج نيكلسون عن المنهج الذي اتَّبعه في دراسة العصر الجاهلي والأموي؛ فالكتاب كما ذكرنا ليس سوى قسم من دراسة مطولة عن تاريخ العرب الأدبي منذ بداياته وحتى سقوط بغداد على يد التتار، ويَجري فيه المؤلفُ على طريقة الأوربيين في دراسة التاريخ الأدبي حيث يمزجون بين التاريخ والأدب والسياسة والاجتماع، وفي هذا الكتاب يُبدي نيكلسون إعجابه الشديد بالأدب العباسي؛ الذي تنوعت أغراضه وتعددت مذاهبه الأدبية وتطورت أساليب التعبير فيه، على العكس من العصر الأموي. (انظر: دكتور صفاء خلوصي: مقدمة كتاب: تاريخ الأدب العباسي، تأليف: رينولد.أ. نيكلسون، المكتبة الأهلية، بغداد، 1967م، ص 3)

وقد تناول المؤلف في هذا الكتاب عددا كبيرا من القضايا التي تتعلق بالعصر العباسي؛ كالحديث عن إرهاصات الثورة العباسية، وأهم الفرق السياسية والدينية التي كان لها نفوذ وتأثير على الحياة الاجتماعية والسياسية كالشيعة والمعتزلة والخوارج وغيرها، وتراجم للخلفاء العباسيين والطابع الاستبدادي للحكم، وأهم مدن الخلافة الفاعلة والمؤثرة، وهو أقرب إلى التاريخ العام كسابقه، وإن كان لا يخلو من نظرات ثاقبة وتحليل دقيق لكثير من الأحداث الاجتماعية والسياسية والقضايا الأدبية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: