الأستاذ الدكتور محمد أحمد الدالي: عِقدان من الصداقة والمحبة 

 

بقلم: الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد – أستاذ النقد الأدبي الحديث بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس

إلْفُ هذا الهَواءِ أوْقَعَ في الأنْـ ** ـفُسِ أنّ الحِمامَ مُرُّ المَذاقِ
والأسَى قبلَ فُرْقَةِ الرّوحِ عجزٌ ** والأسَى لا يكونُ بَعدَ الفِراقِ
لله در أبي الطيب المتنبي؛ حقا إن حبَّ الإنسان الفطريَّ للحياة، وإلفَه هذا الهواءَ الرقيق العذب، واعتيادَه على هذا النعيم، كثيرا ما يحمله على الخوف والجبن والجزع عند وقوع المصائب والابتلاءات، وربما تجده رافضا وغير راض عن هذه الصدمات، وليس من السهولة أن يتقبل رحيل الأحبة، رغم أن ذلك هو قدر الإنسان على مر العصور؛ فما خُلقنا إلا للموت والرحيل ومكابدة الآلام والأحزان، وقد اقتضت حكمة الله حين خلق البشر أن يفارقوا ما يحبون مهما طال مكثه في هذه الحياة، حتى يتطلعوا إلى تلك الحياة الأبدية والسرمدية في الدار الآخرة، فلماذا إذًا ندهش ونذهل عندما نُرزأ بفقد الأحبة ورحيل الأصدقاء ومفارقة ما نحب؟ إنه الضعف والانكسار والعجز أمام الأقدار!
اعتدتُ كل صباح أن أتلقى رسائله اليومية التي تُشعرني بالأنس والبهجة، وتؤكد لي أن الحياة لا تزال بخيرٍ بوجود الأصدقاء والأحبة – لا خلتْ حياتُنا منهم أبدا -، ولرسائل الأصدقاء وقع كبير جدا على نفسي، خاصة حين تكون هذه الرسائل خالصة لوجه الصداقة وليس وراءها أي غرض؛ باقةُ ورد تصلك منهم صباحا تُذكّرك بأنهم بجوارك يشاركونك لحظات الشروق والغروب ويعلنون لك أن مكانك محفوظ في قلوبهم، تلاوةٌ مميزة تُحلِّق معها وتسمو روحك عالية وتهيم عشقا في كلام الله المعجز، خاصة حين تشدو به أصوات كبار القراء الذين لا تُخطئ أذنُ هذا الصديق المدربة انتقاءها بمهارة وذوق، كتابٌ جديد أو ندوة علمية تقام هنا أو هناك تُعلن عن استمرارية الحياة وحيويتها وتجددها، وقدرةِ الإنسان الهائلة على مقاومة العدم ووضع بذور شجرة في صحراء هذه الحياة القاحلة، خبرٌ جديد مُبهج يتعلق بقرب صدور كتاب أو دراسة لهذا الصديق تطير طربا له، وتود لو أنك كنت بجواره في تلك اللحظة لتشاركه الفرحة بنجاحه، ولتؤكد له على عظيم محبتك وإخلاصك ووفائك لعهد الصداقة الذي جمع بينكما طوال هذا الوقت، هكذا هم الأصدقاء بالنسبة لي، وهذا هو أثرهم الذي لا يدركه ولا يُقدِّره حق قدره إلا من عاين بعين قلبه تأثير الصداقة الهائل والمدهش في النفس والروح. وهل كان هذا الشاعر يبالغ وهو يصف مكانة أصدقائه عنده في هذه الأبيات؟ كلا، لقد وصف مشاعره ومشاعر خلق كثير بمنتهى الصدق والموضوعية.
أنتم سروري وأنتم مشتكى حَزَني ** وأنتمُ في سواد الليل سُمَّاري
أنتم وإن بعدت عنا منازلكم ** نوازل بين أسراري وتذكاري
فإن تكلمتُ لم ألفظ بغيركمُ ** وإن سكتُّ فأنتم عقد إضماري
الله جاركمُ مما أحاذره ** فيكمْ، وحبي لكمْ من هجركم جاري
هكذا كانت علاقتي بالأستاذ الكبير والصديق العزيز الأستاذ الدكتور محمد أحمد الدالي رحمة الله عليه مذ عرفته وحتى فارق دنيانا مُخَلِّفا لنا غصة وأحزانا كبيرة وفراغا حقيقيا؛ فعلى مثله تُذرَف الدموع وتأسى القلوب، فقد كان وجوده على قيد الحياة مبعثا للبهجة والسرور، وبرحيله ورحيل الأحبة تباعا ترحل أبعاضنا وتموت أجزاء منا، وصدق حكيم المعرة إذ يقول:
أَيُّها الدُنيا لَحاكِ اللَهُ ** مِــــــــن رَبَّـــــــــــــــــــــةِ دَلِّ
ما تَسَلّى خَلَدي عَنــــ ** ـــــكِ وَإِن ظَنَّ التَسَلّي
إِنَّما أَبقَيتِ مِنّــــــــــــــي ** لِلأَخِـــــــــــــــــــــلّاءِ أَقَلّي
أَمسِ أَودَيتِ بِبَعضي ** وَغَداً يَذهَبُ كُلّــــــــــي
عرفت الأستاذ الدكتور محمد أحمد الدالي منذ أكثر من عشرين عاما في جامعة الكويت، ومنذ التقينا وتعارفنا تقاربت قلوبنا وربطت بين أرواحنا محبة كبيرة واحترام وتقدير متبادل؛ مبعثه حب العلم والعلماء والإخلاص في أداء رسالته تجاه الطلاب؛ فقد كان الفقيد نموذجا يُحتذى في العطاء والعمل الصادق والمخلص، حتى في أصعب الظروف وأحلك الأوقات؛ فعندما داهمه المرض واعترته بعض العوارض الصحية، كان رحمه الله يحرص كل الحرص على حضور محاضراته في وقتها دون تأخير، يناقش طلابه ويمنحهم من وقته وعلمه الغزير ورؤيته الثاقبة ويتابعهم في صبر ودأب، وكان يفتح باب مكتبه دوما لاستقبال طلاب العلم والدراسات العليا، خاصة إذا لمس فيهم الجدية والرغبة في التعلم والمعرفة، وأن لديهم ما يسألون عنه مما أشكل عليهم من المسائل المعقدة والغامضة، وأنهم لا يريدون إضاعة الوقت في القيل والقال، والتحدث في أمور سطحية ليس وراءها طائل؛ كاستجداء لدرجات لا يستحقونها، أو طلب شفاعة في غير محلها، أو غير ذلك من الأمور التي يعرفها المشتغلون بالتعليم، عندها لا ينشرح صدره للحديث ولا يُقبل باهتمام على محدثه، ضنا بوقته الثمين الذي كان يقضيه دوما إما في البحث والقراءة، أو مجالسة الزملاء في القسم، أو حضور الاجتماعات المهمة والضرورية، ولأنني كنت من العارفين بقدره وبرسوخ قدمه في العلم، خاصة في ميدان اللغة والنحو والمدونات التراثية، فقد كنت حريصا أشد الحرص على اقتناص بعض الدقائق بين المحاضرات أو في الساعة المكتبية، للجلوس إليه والإفادة من علمه الغزير؛ فهو في نظري واحد من أهم المحققين والدراسين للتراث وتحقيق المخطوطات باعتراف أساطين هذه الصنعة، ولا يمكن أن أنسى فضله في إرشادي إلى أمات الكتب في اللغة والنحو والسيرة النبوية وغيرها مما كنت أحتاجه في أبحاثي ودراساتي.
إن منزلة الدالي في فن تحقيق النصوص التراثية لا يرقى إليها شك؛ فقد كان الراحل الكريم محل تقدير وثناء كبيرين من أهل هذه الصنعة الكبار، الذين تعلَّم على أيديهم ونهل من علمهم؛ من أمثال الشيخ محمود شاكر والدكتور شاكر الفحام والأستاذ أحمد راتب النفاخ وغيرهم من أكابر هذه الصنعة، ويكفي لمعرفة منزلته ومكانته بين أرباب هذه الصناعة، أن تقرأ ما كتبه عنه أستاذه الكبير علامّة الشام الدكتور شاكر الفحام في مقدمة كتاب “سفر السعادة وسفير الإفادة” للسخاوي، وهو أول كتاب يقوم الدكتور محمد الدالي رحمة الله عليه بتحقيقه، حيث يقول الفحام: لقد انتُدب الشابُّ محمَّد الدالي، وهو المكتهلُ في شَبيبته جِدًّا ورصانة، وانصرافًا إلى العلم، وحبًّا لآثار السلف، لتحقيق هذا الأثر الغالي من آثار السَّخاوي، فشمَّر عن ساعد الجِدِّ، وأخذ نفسَه أخذًا غيرَ رفيق بقواعد تحقيق المخطوطات، غيرَ مُتناسٍ الأصولَ التي خلَّفها لنا الأجدادُ في الضبط والإتقان والأمانة في نقل النصوص، خشيةَ أن يعبثَ بها عابث، وهيَّأ لعمله كلَّ الأسباب التي تدنو به إلى النجاح، وسهِرَ ونَصِبَ لتذليل العقبات، وطاف وحوَّم ليَرِدَ الماءَ صفوًا لا كدَر فيه.
واعتمد السيد الدالي في تحقيقه أربع نسخ من الكتاب: واحدة منها بخط المؤلف، وثلاث تحمل إجازته، واستعان بموارد المؤلف في الكتاب، وأحسن التخريج، واستأنس في عمله بمصادر التراث يستشيرها ويئل إليها، ولقد سعدتُ وأنا أقرأ ما صنع، وأتابع خطواته الموفقة، إنه يتبين قبل أن يُقدِم، ويتثبت قبل أن يقطع، ثم يمضي في طريقه مروياً متأنياً، على هدى من أمره. «يمشي رويداً ويكون أولا»، «جذع البصيرة قارح الإقدام».
لم أفاجأ بما ألقي إلي من عمله المتقن، فقد علمتُ علمه وسبرت غوره، وشِمْت الخير في مخايله، ولقد جلا عن نفسه حين حقق كتاب “أدب الكاتب” لابن قتيبة، ومضى على إثره في تحقيق كتاب “الكامل” للمبرد، وإني لأرجو له وآمل أن يتابع مسيرته في إحياء آثار السلف، وأن يقتفي خطاهم في التدقيق والحرص على سلامة النصوص، وأن يقتدي بهداهم في تحرجهم من إقحام أنفسهم في أعمال الآخرين، وفي ابتعادهم عن التزيد، وتوقفهم حيث يحسن التوقف، وإشارتهم حيث تطيب الإشارة، وأن يظل ماضياً على غلوائه، متدرعاً بتواضع العلماء، سالكاً النمط الأوسط، لا يزدهيه غرور، ولا يبطره عُجْب، بل يزداد علماً وتواضعاً، «هلك من ادعى، وردي من اقتحم، اليمين والشمال مَضَلَّة، والوسطى الجادة»، «ومن تواضع لله رفعه». (الدكتور شاكر الفحام: مقدمة كتاب سفر السعادة وسفير الإفادة للسخاوي، دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، 1995م، ص 9)
وحسبك بشهادة الفحام من شهادة في حق الراحل الكريم ومنهجه الرصين والدقيق في تحقيق المخطوط، وهي شهادة حق من معلم ومشرف وأستاذ خبُر ما عند تلميذه خلال سنوات إشرافه عليه، ومن خلال متابعته لمسيرته وما قدمه في هذا المجال بعد أن خطا خطواته المباركة في هذا الطريق الشاق وحده، ومن أراد أن يعرف المزيد عن حياة الدالي العلمية وأهم ما قدمه للمكتبة العربية فليقرأ تلك المقالة الضافية التي كتبها أحد تلاميذه والمقربين منه؛ فهي تبرز مكانته بين المحققين، وأهم ما قام بتحقيقه للمكتبة العربية، ومنهجه في التحقيق، وغير ذلك من الصفات التي لم تفارقه قَطّ في أثناء عمله؛ فهو عالم، ثَبْت، متواضع، معطاء، لا يضن بعلمه ولا بنصيحته عن طلابه، طيب المعشر، سمح النفس، يحسن اختيار الكتب التي يقوم بنشرها وتحقيقها، ولا يدخر جهدا ولا مالا ولا وقتا في سبيل صدور عمله على أكمل صورة وأحسنها. (انظر: أيمن أحمد ذو الغنى: محمد أحمد الدالي وجامع العلوم، شبكة الألوكة، 22 / 3 / 29020م)
وعلى الرغم من معرفة الدالي لأهمية منجزه في تحقيق المخطوطات، وعلى الرغم من ثناء أساتذته وشيوخه على منهجه، فقد ظل الدالي كما رأيناه على دأبه ومثابرته وتواضعه وحرصه على خروج العمل من بين يديه في صورة أقرب للكمال، يقول رحمه في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب الكامل للمبرد: وقد لقيت الطبعة الأولى التي صدرت عام 1986 قبولاً حسناً، أثنى عليها جماعة من أهل العلم والفضل، ورضي عن عملي فيها أستاذاي الكريمان الفاضلان العلامة الأستاذ أحمد راتب النفاخ والعلامة الدكتور شاكر الفحام اللذان تولَّيَاني بالرعاية والتوجيه والتشجيع، وأستاذي الذي تتلمذت عليه في كتبه ولمَّا أحظ بلقائه فخر أهل العلم في مصر العلامة الشيخ محمود محمد شاكر، ولا يحيط شكري لهم بفضلهم وكرمهم، ولكني لا أملك لهم إلا الشكر والوفاء، شكر الله لهم وأثابهم وجزاهم خير الجزاء. (انظر: محمد أحمد الدالي: مقدمة كتاب الكامل للمبرد، مؤسسة الرسالة، مصر، الطبعة الثالثة، 1992م، ص 6)
وكل من عرف الدالي رحمه الله واقترب منه لا شك أنه يعلم عنه إتقانه الشديد ودقته المتناهية ومنهجه الرصين في تحقيق المخطوطات؛ فلم يكن أبدا من هذا النوع الذي يرضى بأن يكون للوقت سلطة عليه، ولم يكن ممن يتعجل النشر لأي سبب من الأسباب، حتى لا يشوب عمله عيب أو نقصان، وقد رأيت ذلك بنفسي وعاينته في أثناء تحقيقه لديوان الفرزدق؛ حيث كان شبه منقطع تماما لهذا التحقيق مدة تزيد على خمس سنوات، وما إخال تقديمه استقالته من العمل في جامعة الكويت ورجوعه إلى سورية، إلا من أجل التفرغ لإنجاز هذا العمل الذي كان في مقدمة أولوياته، وقد كنت أمازحه كلما رأيته عاكفا على هذا العمل المضني والشاق وأقول له: يا أستاذنا، لو أن الفرزدق حي يرزق لما استغرق كل هذا الوقت في تسويد هذه الأوراق! كنت أريد بذلك التخفيف عنه وتحيته على هذه المثابرة وهذا الجهد الجبار، فكان رحمه الله يبتسم ويقول: يا أبا محمد، شعر الفرزدق صعب جدا ويحتاج إلى بذل جهد كبير ومتواصل. ولست أدري إن كان الكتاب بعد كل هذا الجهد جاهزا للنشر أم لا؛ فقد لقي الدالي ربه قبل أن ينتهي من تحقيق الديوان!
إن الدكتور محمد الدالي – وبشهادة أساتذته وزملائه والمشتغلين بتحقيق المخطوطات – يعد من طبقة المحققين الكبار، الذين يعرفون جيدا طبيعة هذا العمل وأدواره المختلفة، وما يتطلبه من جهد، وإحاطة بالدراسات السابقة عن المخطوط المراد تحقيقه، وهو يعايش صاحب المخطوط ويصحبه خلال رحلة طويلة ومتأنية تمكنه من ترجيح نسبة المخطوط له، وأي النسخ أقرب إليه من خلال الموازنة بين الروايات المختلفة، إضافة إلى خبرته الواسعة بالتراث ودروبه المتشعبة.
وقد تخرج الدالي في جامعة عريقة هي جامعة دمشق، وحصل منها على ليسانس الآداب في اللغة العربية عام 1978م، وتتلمذ في الماجستير والدكتوراه على يد شيخين كبيرين وعلمين من أعلام الدراسات الأدبية وتحقيق المخطوطات في الشام؛ هما الدكتور شاكر الفحام والأستاذ أحمد راتب النفاخ، كما تتلمذ على كتابات الشيخ محمود شاكر وعبد السلام هارون وأحمد شاكر وغيرهم من كبار العلماء والمحققين، فكان موضوعه للماجستير عن تحقيق كتاب “سفر السعادة وسفير الإفادة” للسخاوي، وكانت دراسته للدكتوراه عن تحقيق كتاب “كشف المشكلات وإيضاح المعضلات” للباقولي، ثم توالت تحقيقاته ودراساته المهمة فقدم للمكتبة العربية عددا من الكتب المحققة منها؛ المجتبى لابن دريد، وجواب المسائل العشر لابن بري، وتفسير غريب ما في كتاب سيبويه لأبي حاتم السجستاني، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكان آخر ما حققه ديوان الفرزدق بشرح السكري، إضافة إلى عضويته بمجمع اللغة العربية بدمشق، وعمله في عدد من الجامعات العربية إلى جانب عمله في جامعة دمشق؛ فعمل بجامعة قطر، ثم بجامعة الكويت، قبل أن يعود إلى بلده التي كان يهيم بها حبا ليتوفى بها في الحادي والعشرين من نوفمبر عام 2021م بعد إصابته بفيروس كورونا.
لقد التقيتُ خلال مسيرتي العلمية والعملية عددا غير قليل ممن لا يقيمون لفن تحقيق التراث وزنا، وسمعتهم بنفسي وهم ينتقصون هذا الفن ويهونون من شأن من يقوم به، إذ يرون أن البحث العلمي الحقيقي الجدير بهذا الوصف هو في التأليف وحده، وهذه نظرة قاصرة للغاية وغير منصفة ولا موضوعية، ويصدر أصحابها في الغالب إما عن ازدراء لما قدمه الأسلاف، أو جهل به وبقيمته، أو احتقار لشأن من يعمل في هذا الحقل المهم، وربما يصدر أصحاب هذا الرأي عن تعصب وكبر لا يليقان بالباحث والمشتغل بمسائل العلم، وعلى الرغم من أنني لست من المشتغلين بالتحقيق، فإنني من المقدرين لأهمية التراث ودوره في حياتنا المعاصرة، ومن المقدرين جدا لمن يقوم بهذا العمل المضني، وقد رأيت بعيني ما يعانيه أرباب هذه الصنعة الحقيقيون من صعوبات جمة، حتى يخرج المخطوط في نهاية المطاف على هذا النحو، وما يبذلونه من مجهود كبير ومرهق لا يتناسب والعائد الزهيد الذي يعود عليهم من هذا العمل، ولولا حبهم هذا العمل وإيمانهم بما يصنعون لما استطاعوا الاستمرار فيه.
ولما كان أكثر اشتغال الراحل الكريم الدكتور محمد الدالي بتحقيق المخطوطات؛ رأيت من الواجب تسليط الضوء على هذا العلم وأهميته، من أجل إنصاف المشتغلين به وإزالة اللبس والتفرقة بين الرعيل الأول من المحققين الأثبات، وهؤلاء النساخين الذين لا يزيد عملهم في الغالب على نَسْخ المدونات القديمة دون جهد يُذكر؛ فمن المعروف أن هؤلاء النساخين الذين انتشروا في الأزمنة المتأخرة لا يهدفون إلا للربح للأسف الشديد، لذلك فإنهم لا يبذلون جهدا يذكر في الوصول إلى مخطوطات جديدة لم تر النور من قبل، ولا توجد لديهم خطة واضحة ولا منهج محدد يحكم عملهم، كما هو شأن أرباب هذه الصنعة الأكابر، ومن ثم تجد أكثر أعمالهم إعادةَ نشر لما سبق تحقيقه، ولا يُعنى هؤلاء بتقديم دراسة علمية نقدية للمخطوط والمؤلف وعصره، تتضمن مزايا الكتاب وعيوبه والجديد الذي تضمنه، وأنى لهم أن يقدموا مثل هذه الأشياء وهم مفلسون ويعيشون عالة على إنتاج غيرهم؟! لذلك ترى مؤلفات هذه الفئة من النساخين قليلة الجدوى يغلب عليها التكرار والعجلة والنقل والطابع التجاري، على العكس من دراسات الجيل الأول؛ جيل عبد السلام هارون والبجاوي والأبياري والحاجري وبنت الشاطئ والطناحي وأحمد شاكر ومحمود شاكر ومحمد الدالي ومحمد عبد الحميد سالم ومحمد أبو الفضل إبراهيم وغيرهم ممن أخلصوا لهذا الفن؛ فكانت أعمالهم وتحقيقاتهم إضافة حقيقية للعلم، وانتقل التراث على أيديهم من تلك الأقبية وهذه الفوضى والعشوائية ليصبح كائنا حيا، يملك القدرة على الحياة والتفاعل والاشتباك مع قضايا العصر الحيوية. (من أغرب ما رأيته في هذا الباب تحقيق مزعوم لكتابي: أساس البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني اللذين حققهما الشيخ محمود شاكر رحمه الله باقتدار، فلك أن تتخيل ما الذي يمكن أن يضيفه مثل هذا النوع من التحقيق لكتاب بذل فيه محققه الأصلي مجهودا خرافيا حتى أصبح ينسب إليه ويعرف عند الباحثين باسمه فيقولون: دلائل الإعجاز بتحقيق شاكر؟)
يقول الدكتور عبد المجيد دياب: إن تراث أي أمة هو رصيدها الباقي وذخيرتها الثابتة، وإن الأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، وفرق بين أمة لها موروث وأمة لا موروث لها، وأول ما يجب أن نتحقق منه ونملكه من هذا التراث هو لغته التي كُتب بها، والتي أثبتت وجودها واتسعت لحضارات مختلفة، فالنص – كما هو معروف – عمدة الدراسات الأدبية في أي مجال من ميادينها وشُعب تخصصها، فأي دراسة تعتمد أساسا على النصوص التي هي مادة الدرس تأريخا ونقدا ومقارنة، وليس من المتصور أن نؤرخ لعصر أو أديب دون أن نجمع نصوص تراثه ونحققها ونستقرئها، أو أن نشتغل بدراسة نقدية للأدب من غير استيعاب لنصوص موضوعها، وتتبع الظواهر الأسلوبية والخصائص الفنية بالفحص والاستقراء، ويرى دياب أنه إذا كان علماء التاريخ والحضارة يهتمون اهتماما بالغا بالآثار المادية، وتقوم دراساتهم على الأثار والمرويات، وأن علماء الرياضيات والطبيعيات لا يستغنون عن المنهج النقلي في تدوين نصوصهم وتوثيق نظرياتهم وعلومهم؛ فمن باب أولى أن يكون هذا الأمر من أولويات الباحث والمؤرخ والناقد الأدبي. (انظر: دكتور عبد المجيد دياب: تحقيق التراث العربي منهجه وتطوره، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، ص 9، بتصرف)
وتحقيق النص الأدبي نشأ وترعرع عند العرب؛ لا كما يزعم بعضهم أنه نشأ عند الغرب، وتحديدا في القرن الخامس عشر الميلادي عندما اهتم الغربيون بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية؛ فقد كان القوم كما يقول دياب عندما يطبعون كتابا لا يبحثون عن النسخ الأخرى لهذا الكتاب، ولا يصححون إلا أخطاءه البسيطة، وكنوا كلما تخالفت النسخ في موضع من المواضع اختاروا إحدى الروايات المختلفة وجعلوها أصل الكتاب وقيدوا سائر الروايات في الهوامش، فلم يكن لدى القوم منهج معلوم ولا قواعد متبعة في ذلك الحين، وكان أول من ألف في هذا الفن المستشرق الألماني برجشتراسر في محاضرات ألقاها على طلبة الماجستير بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1931م. (المرجع السابق: بتصرف)
رحم الله الأستاذ الدكتور محمد الدالي وغفر له وشفَّع فيه ما نزل به من مرض في أخريات أيامه، وما قدمه للمكتبة العربية من كتب ومخطوطات لا يستغني الباحث عنها، التزم فيها بمعايير التحقيق ومناهج التحقيق التي وضعها الآباء المؤسسون لهذا العلم المهم، وما قدمه لطلابه في الجامعات العربية المختلفة من علم ومعرفة اللهم آمين.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: