من عبق الماضي – سيرة ذاتية (الحلقة الثانية)

من عبق الماضي - سيرة ذاتية (الحلقة الثانية)

بقلم: الأستاذ الدكتور  وجيه يعقوب السيد

لم أكن أتوقع هذا التفاعل الكبير مع ما نُشِر من سيرتي المتواضعة بمجلة الديوان الجديد؛ فقد اتصل بي عدد غير قليل من أصدقاء الطفولة بالقرية ليُعبِّروا لي عن سعادتهم بما كتبت، وليشجعوني على استكمال هذه السلسلة التي تُلقي الضوء لا على تاريخ شخص بعينه، وإنما على ذاكرة قرية تمتلك تاريخا مشرفا يستحق الفخر ونضالا عتيدا خاضته العديد من الأسر ضد الظروف الاجتماعية الجائرة الناشئة عن ثنائية القرية والمدينة والأغنياء والفقراء في كل زمان ومكان، كما تواصل معي بعض زملائي وأساتذتي مُبدِين إعجابهم بما كتبت، ولم يفتهم أن يُقدِّموا لي ملاحظاتهم المهمة حول الأسلوب والطريقة التي اتبعتها في سرد الذكريات وغيرها من التفاصيل، ولعل أهم ما تلقيته في هذا الصدد مكالمة مطولة من أستاذي الدكتور أحمد إبراهيم الهواري – شفاه الله – عَبَّرَ لي خلالها عن سعادته بما كتبته، وتحدَّث معي عن بعض المفاتيح الضرورية التي عليَّ أن أتبعها إذا ما أردتُ تقديم سيرة ذاتية صادقة وشاملة ومؤثرة، وسوف آخذها بعين الاعتبار بإذن الله تعالى عندما أُقدِّم هذه السيرة للنشر في صورتها النهائية.

وعلى الرغم من هذه الحفاوة وهذه السعادة، فإن حالة من الإحباط والحزن سيطرت عليَّ حتى أنني عقدت العزم على التوقف عن الكتابة في هذا الموضوع ولو إلى حين؛ وذلك عقب حديث عابر مع شخص كان له رأي مختلف ومغاير تماما لرأي الآخرين، ولم يكن حزني وإحباطي بطبيعة الحال بسبب رأيه السلبي فيما كتبت فهذا حق للقارئ لا يُنَازع فيه، ولكن بسبب سوء الفهم والمغالطات والرغبة في المصادرة على الرأي بدون دراسة أو دراية كافية؛ فالكاتب الذي يُقْدِم على كتابة سيرته الذاتية لا يفعل ذلك بالضرورة من أجل الشهرة كما فهم هذا الشخص، أو لأنه فلتة زمانه الذي حقَّق ما لم يحققه الآخرون أو بتعبير المتنبي: آت بما لم تستطعه الأوائل! فالسيرة الذاتية الصادقة لا تنطوي ولا يصح أن تنطوي على تزكية النفس بقدر ما تنطوي على الاعتراف الصادق ورغبة صاحبها في البوح ومشاركة الآخرين تجربة عادية بكل ما فيها من أخطاء وعيوب وبكل ما فيها من إظهار لنعم الله وفضله على عبده الضعيف، ولا شك أن التوقف عن متابعة هذه السلسلة طيلة هذه الأشهر واختلاف طرق التلقي والاستقبال لدى القراء، ألهمني – وأنا أسترجع تلك الذكريات من جديد – أن أغير بعض الشيء في طريقة تناول الأحداث والذكريات، لتكون على شكل لوحات منفصلة وومضات ومشاهد مكثفة ولا تخضع للتسلسل الزمني، وقد تركت الذاكرة تمخر بي في خضم الأحداث والذكريات لتختار ما ترتاح إليه النفس وتأنس به الروح، وأن يكون السارد هو مجرد شاهد وراو للأحداث دون تدخل أو فرض لرؤيته أو وجهة نظره.

والدي الحبيب

والدي الحبيب الذي عرفه أهل قريتي جميعا بطيبة قلبه وسعة صدره وحبه للناس جميعا، عاش بسيطا زاهدا متواضعا، لم يخاصم أحدا ولم يبغ على أحد ولم يؤذ جارا قط، وكان رحمه الله يؤثرنا على نفسه في كل شيء، ومات بيننا راضيا مطمئنا طامعا في رحمة رب غفور وسعتْ رحمته كل شيء، حضر جنازته خلق كثير ليترحموا عليه، لكن أكثر ما لفت نظري كان حضور عدد غير قليل من الأطفال، كان كلما قابلهم في الشارع داعبهم وهشَّ لهم وأجرى حوارا طويلا معهم كأنه يتحدث إلى رجال من نفس عمره، وحين كان يعاتبه أحدنا على هذا التبسط مع الأطفال كانت دموعه تسيل من عينيه ولا يستطيع إخفاءها ويقول: لو جربتم معنى اليتم لعلمتم لماذا أفعل ذلك، وقد جربناه بعدك أيها الأب الطيب رغم أنك رحلت ونحن رجال ولدينا أشغال وأعمال، ولكني أشهد الله أن فراقك لم يعوضه شيء، وحبك لم يحل مكانه حب، وإذا كان الكلام يهدئ الحنين ويطفئ لوعة الفراق فإن الحديث عنك يا أبي يزيدنا إليك حنينا وشوقا، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتغمدك بواسع رحمته، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته وتحت ظل عرشه.

أستاذي الدكتور محمد عبد الحميد سالم:

بدأتْ معرفتي بأستاذي الدكتور محمد عبد الحميد سالم مع بداية مشواري العلمي وتعييني معيدا بكلية الألسن ونعم البداية كانت، فقد كان رحمه الله تعالى نعم الأستاذ ونعم العالم ونعم الأب ونعم القدوة، كان رجلا بسيطا متواضعا هينا لينا جمَّ الأدب، لا تفارق الابتسامةُ وجهَه أبدا، يلقاك رغم همومه ومشاغله بالبِشر والترحاب، ظل رحمه الله في رئاسة القسم عشر سنوات تقريبا فكان مكتبه لا يُغلَق في وجه طالب أو باحث أو موظف أو عامل، فلا تشعر أبدا أنك تجلس مع مسؤول أو صاحب منصب، وكان رحمه الله رئيسا للجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين لأكثر من دورة، فكان همه وشغله الشاغل سرعة البت في أعمال الباحثين وعدم التعنت معهم، وكانت له عبارة لا أنساها ما حييت قال لي: يا وجيه يوجد عدل ويوجد فضل، والله يعاملنا بفضله وكرمه لا بعدله، وحينما اقتربت منه أكثر وأكثر رأيت نموذجا إنسانيا فريدا قلَّ أن تجد له مثيلا، فلم يكن رحمه الله يقف في وجه أحد ولا يعطل مصلحة لأحد، وكان يبادرك دائما بالسؤال عندما يراك عن أبحاثك وحياتك الأسرية وأبنائك، داعيا لك في نهاية كل لقاء بالخير ودوام البركة، على المستوى الشخصي فقدتُ برحيله والدا وأستاذا وصديقا عزيزا وغاليا، لم تنقطع صلتي به يوما رغم السفر وبُعد الأماكن، وكنت أستشيره في أدق المسائل فلا أجد منه سوى النصيحة المخلصة الصادقة وبألطف أسلوب وأفضل الطرق، ربما لا تكفي هذه الكلمات القصيرة لرثاء هذا الرجل النبيل الذي لم أقابل أحدا في مثل نبله، ولا لوصفه بالصورة التي يستحقها، ولكنْ عزاؤنا أنه قَدِم بعد رحلة كفاح وعمل دؤوب على رب رحيم غفور ودود يقبل اليسير ويتجاوز عن الكثير.

الأستاذ الدكتور عبد الله خورشيد البري

لم يكن المرحوم الدكتور عبد الله خورشيد البري أستاذا جامعيا عاديا، بل كان مؤسسة تعليمية وتربوية متكاملة، ترى فيه صورة العالم والمفكر والإنسان الذي يندر أن تجد تلك الصفات مجتمعة في رجل واحد، كنا في قسم اللغة العربية بكلية الألسن نتباهى بالتقدير الذي حصلنا عليه في مادتيه اللتين يدرسهما لنا؛ المقال والدراسات الإسلامية، لأننا نعلم كيف يدرس وكيف يقيم طلابه تقييما حقيقيا يعبر عن مستواهم، كانت لمحاضراته نكهة خاصة يجتمع فيها حواريوه ومحبوه طلاب الدراسات العليا – وكان صاحب النصيب الأوفر في الإشراف على طلبة الماجستير والدكتوراه وجميهم الآن من صفوة الأساتذة والزملاء الأفاضل – معنا نحن الطلاب، فكنت ترى مناخا تعليميا ونقاشات علمية عميقة ودافئة، ولم يكن الجانب العلمي وحده هو ما يميز المرحوم الدكتور خورشيد وإنما الجانب الإنساني والخلق الكريم والتواضع الشديد، كان رحمة الله عليه لا يخاطب العامل البسيط الذي يصنع له قهوته كل صباح باسمه مجردا بل يناديه قائلا: يا عم حسين. في إحدى المحاضرات كنت أتحدث إلى أستاذي المرحوم الدكتور رجاء جبر – وهو واحد من كبار النقاد والعلماء الأجلاء الذين لم يأخذوا نصيبهم من الشهرة – وكنا مختلفين حول نطق كلمة وطريقة ضبطها فقلتُ له: يا أستاذي لقد سمعت الدكتور خورشيد ينطقها بهذه الطريقة وضبطها هكذا، فقال: طالما أن الدكتور خورشيد نطق الكلمة على هذا النحو فنطقه هو الأصح، أتذكر وأنا في الفرقة الثالثة تعرضت لحادث سير قبيل امتحانات نهاية العام، واضطررت للسفر إلى القرية لمتابعة العلاج وغبت عن الجامعة شهرا كاملا، ولم تكن هناك هواتف ولا وسيلة اتصال ميسرة كما هو الوضع الآن، فإذا بخطاب رقيق يصلني من الدكتور خورشيد كتبه بخطه الجميل يرجو لي فيه الشفاء ويطمئنني على الاختبارات، وكانت لفتة منه رائعة خففت من حدة آلامي ومخاوفي كثيرا، وقد ظللت محتفظا بهذا الخطاب الذي أرسله لي لسنوات طوال إلى أن فقد للأسف الشديد عندما غادرت سكني القديم، لكني ما زلت أذكر كلماته الرقيقة ودعواته لي بالشفاء التي تعبر عن شخصية هذا الرجل النبيل، وأدعو الله له دوما بالرحمة والمغفرة وأن يجعل ما قدمه للعلم ولطلابه في ميزان حسناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

مع عمرو موسى

على غير توقع مني تلقيت اتصالا من مدير مكتب وزير الخارجية الأشهر في تاريخ الديبلوماسية المصرية السيد عمرو موسى وكان ذلك تحديدا عام 1997م، وطلب مني مدير المكتب الوقور المستشار وجيه حنفي الحضور إلى مقر الوزارة في ساعة معينة وإحضار نسخة من كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين حيث كنت كتبت مقالة قصيرة عن الكتاب في جريدة أخبار الأدب وعرف من خلالها امتلاكي لنسخة مصورة، ولم يكن الكتاب متوفرا في ذلك الوقت خاصة وأن النسخة التي كانت لدي كانت مصورة عن النسخة الأصلية، وبطبيعة الحال لم يكن من اللياقة أن أسأله عن سبب حاجته لهذا الكتاب ولا أن أطلب منه أن يرسل أحدا من موظفيه لأخذها خاصة وأنه قد عرض علي ذلك، وإنما وجدتها فرصة لرؤية هذه المؤسسة وهذا المبنى من الداخل ولو لدقائق معدودات، والحق لقد كان سيادة المستشار أكثر كرما فقد منحني أكثر من نصف ساعة للحديث وراح يناقشني في مسائل كثيرة رغم أنه قام بتصوير الكتاب في ثوان معدودات لكنه أخبرني أن السيد عمرو موسى طلب منه أن أبقى حتى يرجع من لقاء كان يجمعه بالرئيس مبارك حتى يقدم لي الشكر بنفسه على ما تكبدته من متاعب، وكان عمرو موسى في ذلك الوقت بالنسبة لكثير من المصريين رمزا وطنيا حقيقيا بما كان يمثله من لباقة وقدرة على إفحام العدو والحديث الصريح الذي لا مواربة فيه، وقد غنى له أحد المطربين الشعبيين أغنية شهيرة كانت سببا فيما قيل لإبعاده عن هذا المنصب الحساس.

كان الحوار بيني وبين مدير مكتب الوزير وديا وصريحا للغاية، حتى أنني اندهشت لموافقة رأيه ورأي من حضر اللقاء لرأي الشارع فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وكانت مفاجأة حقيقية بالنسبة لي بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث حين وجدتهم يسترجعون آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم ويخبرونني أن كثيرا من الساسة الإسرائيليين الذين يلتقونهم يؤكدون لهم أنهم يؤمنون بما جاء في هذه الآيات وهذه الأحاديث، وتعجبت من ذلك وقلت في نفسي: لماذا لا يُظهِر هؤلاء الديبلوماسيون هذا الوجه الذي لا يعرفه الناس عنهم؟ ولماذا لا تكون لغتهم واضحة وقاطعة في مثل هذه القضايا التي لا تحتمل التورية ولا الكتمان وربما كان هذا في صالحهم؟ لكنني بررت ذلك قائلا: ربما يرجع السبب في ذلك إلى بعض الاعتبارات السياسية والتوازنات الدولية التي لا تخفى على أحد، وبعد نصف ساعة تقريبا حضر السيد عمرو موسى وأدخلني مكتبه وصافحني بحرارة وشكرني على حضوري وإحضار الكتاب، وأخبرني أنه قرأه منذ مدة عندما كان طالبا بالجامعة لكنه يريد أن يعيد قراءته لسبب مهم، وأنه كان في اجتماع مع الرئيس مبارك، وحرص على تقديم الشكر بنفسه لي فأظهرت امتناني له ثم انصرفت، وقد علمت بعد ذلك من أحد الأصدقاء أن الأستاذ عمرو موسى كان مكلفا من قبل الرئيس مبارك بكتابة تقرير مفصل عن قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد؛ حيث استنكر عدد من المثقفين محاكمته والتفريق بينه وبين زوجته، واحتجوا بأن ما كتبه نصر أبو زيد لا يختلف عما كتبه طه حسين، ومع ذلك لم يدن القضاء طه حسين ولم ينكل به كما فعل مع نصر أبو زيد، المهم عدت إلى المنزل بعد أن أديت مهمتي وكنت سعيدا حقا، وحين سألتني زوجتي: لماذا لم تلتقط صورة مع السيد عمرو موسى؟ أجبتها وأنا أضحك وأشير إلى حذائي المتهالك من كثرة المشي في شوارع القاهرة: صدقيني حتى حذائي المتهالك هذا لم أفكر أن أغيره عند المقابلة رغم علمي بها قبل أيام من اللقاء، كما أنني لست من الحريصين على التقاط الصور لأسباب لا أعرفها.

مع الدكتور حسين مجيب المصري   

لي مع الدكتور حسين مجيب المصري يرحمه الله الكثير من المواقف المؤثرة، فقد كنت دائم التردد عليه بعد أن التقيته قدرا في مجمع اللغة العربية عام 1990م في أثناء لقائي بالمرحوم الدكتور محمد الطيب النجار عضو المجمع وعضو مجمع البحوث الإسلامية ورئيس جامعة الأزهر الأسبق لإجراء مقابلة صحفية معه لجريدة المسلمون التي عملت بها لفترة غير قصيرة، ومنذ ذلك الوقت قطعت على نفسي عهدا ألا أترك هذا الرجل أو هذا الكنز بمعنى أدق، حتى أتعلم من خبراته وتجاربه وشخصيته الفريدة، وأشهد لقد كان من خيرة الأساتذة علما ونبلا وخلقا، رأيت عشرات الباحثين في الأدب العربي والفارسي والتركي من جنسيات شتى، وهم يغشون منزله في الليل والنهار، ينهلون من علمه، وكان رغم كبر سنه لا يبخل عليهم بوقته ولا بجهده وأحيانا بماله رغم ما كان يعانيه بسبب ما تعرضت له ممتلكاته من تأميم في عهد عبد الناصر، وقد شكا لي رحمه الله تعالى من عقوق أكثرهم، فبمجرد أن تنتهي حاجة الباحث إليه ينصرف عنه ولا يتصل به لمجرد الاطمئنان عليه، قلت له وقتها: لعلهم لا يريدون أن يتذكروا فضلك عليهم فقرروا الهروب منك يا أستاذي! ورغم ما عاناه في أخريات حياته من كف للبصر ووهن شديد في الحركة فقد كان دائم القراءة والتأليف حتى أنه ذكر لي أنه ألف نحو ثمانين كتابا في الأدب الإسلامي المقارن منها: رمضان في الأدب العربي والفارسي والتركي، وجحا في الأدب العربي والفارسي والتركي، ومولانا ألطاف حالي ومنظومته في الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترجمها شعرا، هذا إلى جانب إجادته وإتقانه لأكثر من ثماني لغات وحصوله على العديد من الأوسمة وشهادات التقدير معظمها خارج مصر وليس داخلها للأسف الشديد، وصدق شوقي حين قال:

أحرام على بلابله الدوح ** حلال للطير من كل جنس!

رحم الله العالم الجليل الدكتور حسين مجيب المصري رائد الدراسات الإسلامية المقارنة وغفر له وتجاوز عن سيئاته وأسكنه فسيح جناته.

مع الشيخ محمد متولي الشعراوي والدكتور عبد الصبور شاهين

من وقت لآخر نسمع ونقرأ تطاولا على الشيخ محمد متولي الشعراوي وهو تطاول يخرج عن حدود النقد المقبول وأدب الخلاف الذي ينادي به كل العقلاء، أذكر أن المستشار محمد سعيد العشماوي كان من أكثر المناوئين والمعادين للشيخ الشعراوي، وقد كتب العديد من المقالات في مجلة روز اليوسف وغيرها يسخر فيها من الشيخ رحمه الله ويتطاول عليه بصورة سيئة للغاية، واصفا تفسيره للقرآن الكريم بأنه تفسير تليفزيوني، وأن حركاته مفتعلة ومبالغ فيها وهو يلجأ إلى ذلك ليغطي على ضعف حجته ومنطقه، ووصف لغته بأنها لغة متدنية وركيكة ومبتذلة وتناسب البسطاء من الناس وغير ذلك من الأحكام المغلوطة والمتجاوزة وغير المنصفة، ولم يكتف العشماوي بنقد الشيخ بل تجاوز ذلك للطعن في القرآن الكريم وتبني آراء شاذة لم تحظ بإجماع العلماء، وقمت بالرد على الرجل بما فتح الله علي به وقتذاك وكنت خريجا حديثا لم أتسلم عملي في الجامعة بعد، وكتبت مقالة مطولة وقمت بنشرها في مجلة العالم الإسلامي بمكة المكرمة وفي عدة صحف مصرية وخليجية، وعندما التقيت الدكتور عبد الصبور شاهين رحمه الله الذي كنت أحرص على زيارته بمكتبه بدار العلوم أطلعته على المقال الذي كتبته وأحببت أن أعرف رأيه فيه وأنتفع بتوجيهاته ونصحه، وبعد أن انتهى من قراءته قال لي وهو يبتسم ابتسامة ذات دلالة: مقالك جيد ولكنك شخص مؤدب للغاية، وهؤلاء لا ينفع معهم مثل هذا الأدب، ولا أخفيكم سرا أن كلام الدكتور عبد الصبور شاهين وقتها لم يغير من قناعاتي ولم يدفعني لتغيير طريقتي في الكتابة والرد بهدوء على المخالفين، وفضلت الاستمرار في الكتابة وتقديم سلسلة من المقالات والتحقيقات الصحفية في جريدة (المسلمون) وغيرها من الصحف بنفس الأسلوب، وأعترف أن الدكتور شاهين كان ثاقب الرؤية بعيد النظر حين قال ما قال، لأن الحملة على أعلامنا وعلى ثوابتنا وعلى ديننا أكبر بكثير من مجرد الرد عليها بمجموعة مقالات هنا وهناك، وأغلب ظني أن هؤلاء الكتاب لا يجتهدون فرادى ولا يكتبون ما يكتبون في أجواء علمية نزيهة، فيكون الرد عليهم بمثل الطريقة التي يكتب بها أمثالي، ولكنهم – جميعا إلا من رحم ربي – أذرع لأجهزة مخابراتية وتبشيرية، تقدمهم واحدا تلو الآخر وفق خطة مدروسة لإشغال الناس وإلهائهم وإضاعة مجهودهم في تتبع هذا الكاتب أو ذاك، بينما هذه الأجهزة تحقق أهدافها وتثبت أركانها وتمضي في سيطرتها، لا أقول بالطبع: توقفوا عن الكتابة والتعبير عن آرائكم والرد على هؤلاء، ولكن يجب أن ننتبه جميعا إلى أن الهجوم سيستمر وسيزداد سعار هؤلاء كلما زادت المكافآت والإغراءات التي يحصلون عليها، ومن ثم يجب أن تكون هناك خطة شاملة لمواجهة هذه الحملة المنظمة على القيم والثوابت والتقاليد الاجتماعية الراسخة، وألا نضيع وقتنا في تتبع كلام هؤلاء الساقطين الذي يخرج كله من سلة واحدة، وهو كلام ميت أصلا ويصعب ترويجه في مجتمعاتنا رغم ما بها من أمراض.

ما هكذا تورد الإبل يا مسيلمة!

من المواقف التي لا أنساها ما حييت، وكان لها تأثير كبير عليَّ جعلني لا أثق في أحد بسهولة ولا في كلمة منشورة إلا بعد تمحيص وتدقيق؛ فقد طلب مني أحد الصحفيين الذين أعرفهم إجراء مقابلة معي حول بعض القضايا الأدبية والفكرية لنشرها في جريدة سعودية بعد حصولي على الدكتوراه عام 1999 م، وقد حرصت على تسجيل إجاباتي عن أسئلته التي أرسل بها إلي على نحو مُرْضٍ بالنسبة لي وأعطيتها إياه مكتوبة بعد أن احتفظت بصورة عندي، وبعد مدة أخبرني هذا الشخص أن اللقاء قد نشر على مساحة كبيرة وأنه لقي استحسانا وقبولا وغير ذلك من الكلام الجميل والمعسول، فلما طلبت منه نسخة من الجريدة لأطلع عليها راح يتلكأ ويختلق أعذارا حتى ارتبت في  الأمر، وهو ما زادني إصرارا على الحصول على نسخة من الجريدة لأرى ماذا كتب وما الذي يخفيه عني، وبصعوبة حصلت على نسخة من الجريدة منه بعد أن أخفى تاريخ النشر ببعض الحيل المكشوفة والساذجة، فلما طالعت اللقاء وجدته مشوها ويتضمن أفكارا وآراء حول أشخاص وقضايا منسوبة إلي دون أن أقول كلمة واحدة منها، وكان أشد هذه الآراء إزعاجا بالنسبة لي ما ذكره على لساني عن ثلاثة من النقاد المعروفين وهم: جابر عصفور وعبد الله الغذامي وصلاح فضل، حيث وصفهم بأنهم أصنام الحداثة، وأنهم أحد أسباب نقل الكفر والإلحاد إلى أوطاننا عبر نافذة الأدب وغير ذلك من هذا الهراء، وعندها اتصلت بمكتب الجريدة بالقاهرة وأخبرتهم بالقصة اكتفوا بالاعتذار لي عما بدر منه، ورفضوا نشر ردي على هذا الشخص المدلس وهو دليل تواطؤ واتفاق معه ومع نهجه في التدليس والإثارة، وعندها اتصلت مباشرة بالدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل وشرحت لهما الأمر فتفهماه تماما، وطلب مني الدكتور جابر عصفور أن أنشر تكذيبا لما جاء في هذا اللقاء في جريدة العربي الناصرية، وبالفعل ذهبت إلى مقر الجريدة وقابلت الأستاذ وائل قنديل الذي كنت أعرفه من خلال عملي في جريدة المسلمون ومجلة باسم وأخبرته بالموضوع وطلبت منه أن ينشر ردي على هذا المدلس فقام مشكورا بنشر ما كتبته كاملا.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: