أفيقوا أيها السكارى إنه العملاق

أفيقوا أيها السكارى إنه العملاق

بقلم: الأديب حاتم سلامة

نقد ورد الشبهات التي أوردها مؤلف كتاب شوقي الآخر

الكتاب يتهم العقاد بالوصولي والمتسلق والفاشل الحاقد على الناجحين

العقاد كاتب وسياسي وفيلسوف ومؤرخ ومحلل وأديب وناقد وروائي و شاعر وزعيم

الكاتب برأ شوقي من كل تهمة ونفى عنه أي تقصير وكأنه فوق النقد والتقويم

منذ فترة أرسل إلي أستاذنا الكبير معالي الدكتور (بسيم عبد العظيم) كتابًا للناقد والشاعر “أحمد عنتر مصطفى”، سيتم مناقشته في صالونه العامر وكان تحت عنوان (شوقي الآخر) والحق أن الكتاب يستهويني، لأنه يتحدث عن هذا الماجد في تاريخ مصر الحديث، والرجل الأعجوبة في دنيا البيان، والظاهرة البارعة التي لن تتكرر في عالم الشعر، ولعل هذه كلمات تعلن شهادتي في أمير الشعراء، وحبي وتقديري وإجلالي له ولشعره.

وحينما بدأت أقرأ الكتاب، وجدت هذا المزج الكبير والمتسع في التعرض لشخص الأستاذ العقاد، بحكم كونه أشرس من واجه شوقي من النقاد، ولفتني أن الكاتب بدأ المقدمة عن العقاد وحبه له وتأثره به، وهو مما يوحي أنه سيتعرض له دفاعًا عن شوقي بالنقد المنصف والحديث الطيب والسيرة الموضوعية المحمودة، لكنني حينما قرأت وعاينت أدركت أن الكاتب وكأنه ذكر هذه المقدمة عن العقاد، حتى لا يتهمه أحد بأنه يُعاديه إذا تورط في غمزه، أو أنه يأخذ منه موقفا سلبيا، وأن غايته أن يوهم القارئ بأنه منصف لا يتجنى على العقاد انتصارا لشوقي.

والحق أنني حينما قرأت تبين لي العكس، إذ ظهر جليا أن الكاتب متعنت ضد الأستاذ العقاد، متجنيًا عليه، مؤولا لكثير من المواقف تأويلا غريبًا يمكن الرد عليه وإبطاله بيسر وسهولة.

سخرية الحاضرين

وأنا أعترف وإنصافًا للحق، أن الأستاذ العقاد وكما اشتهر عنه في معاركه، كان عنيفًا، يجنح كثيرًا إلى التعرض الشخصي لمن يعاركه، وقد يكون ذلك حال الكثيرين ممن عاصروه، لكن المحاولات التي ذكرها الكاتب ليظهر العقاد في مظهر العبثية الساخرة، كانت تحتاج إلى رد أو نقاش يرفض تأويل الكاتب المتعصب لشوقي.

لقد كانت الندوة في صالون الدكتور بسيم قائمة كلها على السخرية من الأستاذ العقاد وإظهاره بمظهر الإنسان الوصولي المتسلق والفاشل الحاقد على الناجحين والمخفق في مجاراة شيئا من نجاحاتهم، كنت أجلس مذهولا من عقول الحاضرين وهم يضحكون على المواقف العقادية التي استطاع المحاضر مؤلف الكتاب أن يصيغها لهم في صورة هزلية ساخرة، وكدت أقفز من الجنون أمام هذا العبث والهراء، لولا التزامي بآداب الحديث، ولما جاء دوري انتفضت قائلا: ويحكم يا قوم ماذا تفعلون ما هذا الخرف الذي أنتم فيه غارقون، وعمن تتحدثون وعلى من تضحكون؟

إنكم يا قوم تتحدثون وتسخرون من مفكر وأديب وناقد ومؤرخ وفيلسوف ورائد من أعظم رواد الفكر الذين عرفتهم مصر، إنكم يا قوم تسخرون من رجل يُطلق عليه الكاتب الجبار.. وبدأت بالتدريج أفند هذا الخلط الذي كتبه صاحب كتاب شوقي الآخر، وأرد أغاليطه لنعيد الاعتبار للأستاذ العقاد في هذه الجلسة التي خيمت عليها سحب السخف.

العقاد وشوقي

ففي البدء وبعد أكثر من (100) صفحة من الكتاب لا ينفك عن ذكر العقاد في كل موطن، حتى قلت في نفسي: إن هذا الكتاب كان الأجدر أن يسمى (شوقي والعقاد) وليس شوقي الآخر.

حتى في تلك الفصول التي كانت تتحدث عن شوقي الإنسان، ما كانت في غايتها إلا محاولات لإثبات عكس ما كان العقاد يتهمه به.. فكل الكتاب كما ظهر لي وكأنه رد على العقاد ومرتبط بمزاعم العقاد.

ومن عجبي في الكتاب أنه لا يوجد به أي نقد لشوقي أو اعتراض عليه في شيء، فهل هذا عمل موضوعي أو مقبول؟ أين نحن من قصائد شوقي فيمن خانوا الوطن بطرس غالي ومصطفى باشا فهمي الذي كانت تربطهم به علاقات قوية

لقد قال في بطرس:

قَبرَ الوَزيرِ تَحِيَّةَ وَسَلاما • الحِلمُ وَالمَعروفُ فيكَ أَقاما

وَمَحاسِنُ الأَخلاقِ فيكَ تَغَيَّبَت • عاماً وَسَوفَ تُغَيَّبُ الأَعواما

الكتاب كتب بروح المحب الذي يتغاضى عن أي هنات لمحبوبه، وإنما حتى أمام الهنات والسلبيات التي حدثت من شوقي أخذ يبررها ويجد له فيها العذر، وقد أراد أن يمحو اسم شوقي من سجل الهجاء، ليظل شاعر الرقة والإنسانية والسمو، وجاء أمام حادثة الهجاء المشهورة له في شخص الزعيم عرابي الذي صوب إليه نقده بـ 3 قصائد كبيرة، ليبرر الأمر ويرفع اللوم عن شوقي وينفي أنها ليست من قبيل الهجاء، وإنما هي من قبيل الموقف السياسي، ومن ثم لا تدخل باب الهجاء، والحق أنها فلسلفة غريبة وتبرير صبياني أهوج، وأنا أرى أنها ما دامت قيلت بالشعر، فقد صارت هجاء وأدبًا، ولو أن شوقي قد انتقد عرابي بالأقوال والجمل، لقلنا ذلك اختلاف سياسي، أما وقد نظم اختلافه بالشعر فهي الهجاء ولا مسمى آخر له، ويكون شوقي قد سجل اسمه في باب الهجاء والهجائين.

غرور شوقي

ويقول المؤلف بما يوحي ترفع شوقي عن الرد على العقاد والتعالي عليه تقزيما لحاله وشخصه: ” لقد كان لي تساؤل ملح كلما جرفني التفكير في هذه العلاقة الشائكة بين العقاد وأمير الشعراء.. كيف تحمل شوقي كل هذا التطاول والافتئات والتنديد؟ وأنى له هذا الجلد وتلك الأناة؛ وهو الرهيف الحس كما وصفه معاصروه؛ ليصبر على هذه الضربات الموجعة؟ لكني ومن خلال قراءات متعددة متأنية لشعر شوقي وجدته يخوض معركته تلك بهدوء وحنكة ويديرها بذكاء وروية.. كان يعرف أن شخصية العقاد – رحمه الله – ترتكز على (الأنا) محورا لوجوده الأدبي.. فما كان من شوقي – كلما سنحت الفرصة – إلا أن يستفزه؛ بذكاء؛ ويغمز ويلمز هذه (الأنا) بأن يسلبه إياها ودورها الشعري الذي تحلم به؛ بل يتعمد إلغاءها في مثل قوله :

وإني الغريد هذي البطا * ح تغذى جناها وسلالها

تری مصر كعبة أشعاره * وكل معلقة قالها”

والحقيقة أنني كنت أنتظر من الكاتب في هذه اللفتة بالتحديد أن يُفسرها بأنها طبيعة شوقي الدائمة في تعامله مع أي نقد، سواء من العقاد أو من غيره، فهكذا كان يفعل دائمًا فيمن ينقده وكان يرى النقد مكسب ورفعة، وهناك مواقف له شاهدة على ذلك خصوصا حينما نصح الموسيقار محمد عبد الوهاب في مطالع حياته وأراه كيف يتعامل مع النقد بأن جعله يقف على الجرائد التي انتقدته وقال له: انظر إنك حينما وقفت عليها رفعتك.

ثم يقول المؤلف في ص 52: (أما أهم ما نقف عنده من قصيدة شوقي حيث ضرب الأستاذ العقاد صفحًا عن هذه الأبيات التي تكذب وتدحض زعمه بغرور شوقي وأنانيته التي ألصقها بالشاعر وأسهب في الحديث عنها سلفًا)

وأنا أقول للكاتب: من قال بأن العقاد يزعم ذلك، وشوقي نفسه هو المتورط في هذا والذي قد أثبته وأدان به نفسه قبل أن يدينه العقاد، ألم تقل أنت فيما سبق: إن شوقي قابل نقد العقاد بثبات وحكمة وذكاء وفهم لطبيعة العقاد فكان يخاطب فيه علة الأنا ليثيره حينما قال:

وإني لغريد هذي البطا * ح تغذي جناها وسلسالها

ترى مصر كعبة أشعاره * وكل معلقة قالها؟

ان شوقي لا يقول ذلك إلا لنه كذلك، والعقاد إذن محق في اتهامه له بالغرور، وإلا فإن دفاعك في نفي تهمة الغرور عن شوقي وتحليلك بأنه كان بصيرًا بنفسية العقاد.. كلام كله خطأ في خطأ.

ثم كيف للكاتب أن يفسر لنا قول شوقي في رثائه لأمه حينما قال:

لو لم تظهري في العرب إلا  **  بأحمدَ كنتِ خيرَ الوالدات

أليس هذا أيضا نوع من أنواع الغرور ودليل عليه يؤيد نظرة العقاد، وهو بيت في الرثاء لم يكن لمكايدة العقاد أي مكان ووجود؟

إذن حينما يزعم العقاد مثل هذه التهم في شوقي فهو معذور، لأن شوقي نفسه قد أثبتها في ذاته والشاعر الحصيف من لا يفعل ذلك بل يجاهد لينفي عنه تهم النقاد ليكشف للناس خطأهم وحقدهم.

ثم ينشر الأستاذ “فتحي رضوان” مقالا له بالأهرام عام 1978م وذكر فيه لقاءه بشوقي وأنه قال له مرة: “أنا أحسن من مطران وحافظ ” أليس هذا ما يثبت النرجسية والأنا؟ التي وصفه بها العقاد؟

لقاء الكرمة

وإن تعجب فعجبك الكبير من التفسير الظالم لأول لقاء بين العقاد وشوقي، وكيف حكم فيه على العقاد بأحكام لا يقبلها منطق أول عقل.

فحينما عمل العقاد في أول عهده بالصحافة في جريدة المؤيد، ثم شك في بعض تصرفاتها واضطر أن يذهب إلى شوقي بصفته رئيس الديوان وشاعر الملك والرجل الموكل بالصحافة، وطلب مقابلته وأعلمه أنه يسكن في المطرية حتى يصل الرد على مسكنه لا إلى الجريدة، حتى جاءه الرد وتحدد الموعد للقاء شوقي بك.. هنا يقول الكاتب: إن العقاد كان ملكيًا أكثر من الملك فقد وصف الجريدة بأنها لسان حال الأمير وهو ينفس على شوقي في كل كتاباته بمكانته من القصر ورعاية الأمير له.

والأستاذ الكاتب عجيب في أمره، فالعقاد في ذلك الوقت لم يكن بالكاتب الجبار أو الأديب العملاق، فقد كان ما زال في طور البدء 28 سنة، والكاتب قد أخذ عليه أنه أراد أن يطعن في الظهر للجريدة وإدارتها، ولم يُرد المواجهة وهو الأمر الذي لم يرتح له شوقي، ووجدها الكاتب فرصة ليصور العقاد بالغادر والماكر ويلصقه بالخبثاء المتآمرين.

لقد كان العقاد في مطلع شبابه وكان جديدا على القاهرة، ولم يكن له أي مصدر رزق ومنفذا يعمل به، وأريد أن أسأله ما المدة التي عمل بها العقاد في هذه الجريدة، وهل كان حينما عمل بها، متمردًا على حالها وولائها للملك، أم أنه كان من المنافقين المداهنين الذين يسبحون بحمد السلطة التي تعبر عنها الجريدة؟!

وهو مالم يكن بالطبع إذ ثار عليها وتركها لأنها ل توائم طبيعته التي ترفض النفاق.

ثم يقول الكاتب ناقلا قول العقاد وهو يصف اللقاء بينه وبين شوقي في كرمة ابن هانئ: “صدمني أول منظر رأيته في الحجرة؛ وهو منظر خريطة النيل؛ فوقها صورة عباس الثاني فوقها الآية الكريمة: أليس لي ملك مصر؛ وهذه الأنهار تجري من تحتي… قلت في نفسي: أعوذ بالله ألم يجد شاعر الأمير مثلا لأميره أكرم من مثل فرعون؟ ألا يخشى على أميره عاقبة هذه القولة الفرعونية التي من أجلها أخذه الله نكال الآخرة والأولى..؟!

يقول المؤلف تعليقا على الموقف: “هنا نتوقف ثانية لتتساءل: هل العقاد كان ملكيا أكثر من الملك آنذاك؟ هل بلغ حرصه على المصير الخديوي مدى يفوق حرص شوقي فتشاءم من القولة الفرعونية؟ لعله حين أراد أن يشير إلى فساد ذوق شوقي فأساء إلى نفسه وموقفه؛ ولو أخذ على شوقي توظيفه للآية الكريمة “أليس لى ملك مصر” فوق صورة الخديوي زاعمًا وصارحًا – على سبيل المثال – أن مصر لا يملكها إلا شعبها وأبناؤها، لكان ذلك أليق بالأستاذ العملاق، إن حرصه الشديد على الاستدلال هنا على فساد ذوق شوقي جرفه بعيدًا عن حسه الوطني إزاء مصر التي لا تُوَرَّثُ إلا لشعبها.”

وهنا أقول للأستاذ المؤلف: كان يمكن للعقاد فعلا أن يكون مخطئا لو أنه استدل بما ذهب إليه على فساد ذوق شوقي، لو كان الأمر يتعلق بمسؤول من المسؤولين أو وزير من الوزراء أو رجل له تأثير في السياسة المصرية، لكن شوقي قبل أن يكون واحدًا من هؤلاء هو مجرد شاعر للقصر، فليس للعقاد إلا أن ينتقد الذوق الشعري بخطأ التوظيف، لا أن نقول غاب عنه حسه الوطني في محاولة غير دقيقة في تخطئة العقاد، بل إني أقول: ان أي تبرير أو محاولة لتوجيه النقد لهذه الصورة بغير ما نقده به العقاد، لهو محاولة غير صائبة، فقد نقده العقاد بما وجب به النقد في هذا الموطن ولا يجوز غيره.

العقاد إنسانية وشجاعة

وهنا يفوت الكاتب أن يسجل شجاعة الأستاذ العقاد، وأنه لا يهاب ولا يتملق أحدًا مهما كان منصبه، فقد ذكر عنه قوله في وصف اللقاء: “دخلت المنزل منقبضاً عن صاحبه فلم أر فيه إلا ما يوسوس بانقباض.. أقبل شوقي وأنا أحدث نفسي بهذا الهاجس؛ وأنظر إلى الصورة فقال لي بعد أن عرفني: ما

قولك في هذه الصورة؟ فصرحت له بما دار في خلدي.. قامتعض ودار الحديث بعد ذلك في شيء كثير من التحفظ والوجوم .. وأنا أعتقد أنني حادثت رجل الحاشية ولم أحادث الشاعر الأديب”

كيف غاب مثل هذا الموقف عن الأستاذ الكاتب وهو الذي ورط نفسه في كثير من التحليل والتكهنات شرقا وغربا ولم يذكر هنا شجاعة الأستاذ العقاد وقوة نفسه ونظرته لشوقي الذي بدى صغيرًا أمامه رغم سمو مكانته.

وهذا لا شك عندي لأن الكاتب عازم ألا يبقي أي مكرمة للأستاذ العقاد، حتى يظهر معشوقه بمظهر الذي لا يصغر أمام أحد.

ولله در الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، وأين شاعرنا ومؤلفنا عنتر منه، حينما أدرك قيمة الرجلين فقال في مذكراته: ” تعرض العقاد بعد موته لحملات ضارية فرأيت أن أخصه بكتاب للدفاع عنه كما دافعت من قبل عن شوقي وعندي أن البارودي وشوقي والعقاد جزء لا يتجزأ من مجد مصر الأدبي الحديث، ولذلك دافعت عنهم حتى أجلو شخصياتهم للجيل المعاصر وأشرح لهم كيف هيأوا لمصر مكانة أدبية ممتازة”

هكذا يكون التقييم من الكبار، أما ما فعله الشاعر الموقر في كتابه وكأنه يعيش في حقبة المعارك الأدبية، وظل أسيرًا لها ولم يخرج عنها، وجعل من نفسه طرفا منها مع أنها انتهت منذ أزمان، ومات حتى تلامذتهم الذين كان يتشيعون لهم، فلا أعلم ما سر هذا الهوى الذي يريده الشاعر من أن يعيش هذه الحقبة ويهاجم أناسا عظماء كانت لهم بصماتهم القوية ويلصق بهم هذه الشبهات الواهية، ويجد من يهلل معه ساخرا مسفهًا مستهترا بفيلسوف مصر العملاق.

أجزم بأن الأستاذ أحمد عنتر كان في حاجة كبيرة قبل أن يكتب كتابه هذا أن يتعرف كذلك على العقاد الآخر، لاشك أن كثيرًا من المزايا والمكارم كانت ستبرد بها قريحته وحنقه على العقاد الذي كان في حياته وطبيعته كإنسان على أرقى ما يكون لطفا ورقة وسموا.

ولينظر الكاتب مرة أخرى إلى ما نقله أحق الناس بالحديث عن شوقي وهو الدكتور شوقي ضيف رحمه الله في مذكراته: “بأن الدولة في عهد الثورة رصدت جائزة للآداب عام 1955 وتألفت اللجنة من الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد، ورشح لها الدكتور شوقي ضيف عن كتابه في شوقي شاعر العصر الحديث، وكان عجبه الشديد لأن من أعضاء اللجنة طه حسين والعقاد وقد تعرض لنقدهما الشديد لشوقي وكيف رد عليهما وفنده وإيضاح تجنيه وطعنه المجحف، وحمد الدكتور شوقي صنيع الدكتور طه والعقاد في موقفهما منه ومن كتابه مع أنه يعارضهما ويرفض نقدهما، وهو ما يدلل بوضوح حسب تعبيره وقوله: “على مدى ما كان يتحلى به كل منهما من نزاهة في الحكم على ما يقرأ وعدم التأثر فيه بأي شيء حتى لو كان متصلا ببعض آرائه، بل حتى لو ناقض هذه الآراء وأثبت بطلانها وهو موقف لا شك نبيل”

هكذا أيها الشاعر عنتر لابد أن تقرأ وتفهم وتتعلم كيف هي العلاقات بين الأدباء العظام، وكيف تكون طريقة التناول بين العباقرة، لأنك أشعرتني أن هناك ثأر وجئت أنت بعد مئات السنين لتقوم به وتؤديه وتنتصر له، أشعر أن ما تثيره حول العلاقة بين العقاد وشوقي يداخلها خصومة كخصومة النساء التي ليس للعقل فيها مقام ليدرك كثير من طبيعتها، ويتعامل معها بما يليق بها من مكانة وإجلال.

وإني لأتعجب من موقفك وطريقتك أشد العجب حينما يحاول العقاد أن يمنح شوقي بعض التقدير وتفوقه على مدرسته فإذا بك تنبري لتقول: (ولم يكن شوقي بحاجة إلى صك اعتراف من العقاد، ولكن للأقدار مداراتها وأنه بعد رحيل شوقي ورغم كبر العقاد وعناده خفف من غلوائه ضد شوقي)

إن تناول الكاتب لإطراءات العقاد لشوقي لم تكن مقبولة لديه، ولا مأخوذة على حسن النية والاعتراف بالحق والصواب وبدلا من أن يمدح فيه هذه الخصلة وهذه الفروسية عابها وكأنه استقلها ويريد أن يقول له: إطراءك لشوقي غير مقبول.!

وحاول حتى أن يتصيد له السقطات في اعتذاراته وإطراءاته ومدحاته لأمير الشعراء حينما ذكر العقاد قصة لقائه بشوقي وحديثهما عن المرض والموت والمعنى مسروق من المتنبي.

العقاد فيلسوف لا شاعر

* ساق الكاتب كلاما مهما للناقد عرفان شهيد وهو يحاول أن يتلمس العذر لشوقي معولا على

1- الأسباب السياسية

2- عودة شوقي من المنفى

ولكن الكاتب لم يسلم بهذا إذا طرح رؤية جديدة واقتراحا مغايرا حينما قال: لقد مات شوقي وترك الساحة للعقاد أكثر من 30 سنة، فماذا فعل العقاد؟ لماذا لم يبرز كما كان شوقي؟ وهنا هلل الحاضرون كعادتهم للشاعر عنتر، وضحكوا ساخرين بكل سخف وجهل.

والحق أن الكاتب ومن ضحك معه، قد نسي أمرًا مهما جدا وهو أن العقاد لا يُساوى بشوقي، لأني شوقي مجرد شاعر، أما العقاد فهو كاتب وسياسي وفيلسوف ومؤرخ ومحلل وأديب وناقد وروائي وفوق ذلك شاعر وزعيم، ولو أنه أخلص للشعر وحده ففي اعتقادي أن يكون له شأن أكبر، لكن الرجل ككاتب كبير له مسؤوليات أخرى، ويمكن القول كذلك: أن بموت شوقي هبط الكيان الشعري الذي يغري العقاد بعض الشيء في النقد والكتابة، فنحن لم نسمع أنه قسى على أحد بعد شوقي قسوته على شوقي.. لقد كان شوقي يملأ الدنيا بشعره المبدع.

الكتاب يغط بتحامل عنيف على الأستاذ العقاد ووصفه بصفات قاسية، فقد قال مثلا:  (وعلينا الآن أن نتعقب بعض عواصف العقاد الفاشلة في اقتلاع جذور الشجرة التي تزداد رسوخا أمام مهاتراته)

الكاتب حمل الأمر أكثر من طاقته، فهي معارك أدبية كل يدلي فيها بدلوه، ولا يحاول ولا يقدر أن يقتل صاحبها، فلا العقاد اقتلع الرافعي، ولا الرافعي اقتلع العقاد، ولا الرافعي اقتلع طه حسين، فالإبداع باق لم يتضرر بالنقد.

وأحب هنا أن أستذكر ما قاله الأستاذ (عامر العقاد) ويحكي بما يبرئ ساحة العقاد من استقصاد شوقي بالتحديد في مرمى هذا الهجوم النقدي وهو لاشك يمثل وجهة نظر معتبرة يجب استيعابها في هذا السياق: ” واصل العقاد حملته على شوقي الشاعر في سنة (1920)م حينما أصدر هو وصديقه المازني الديوان في النقد والأدب ، ولم يكن شوقي مقصودا بالحملة لذاته كما يظن البعض وإنما سوء حظ شوقي في أن المناسبة هي التي قيضته لتلقي ضربات المجددين، ومن ثم لتقرير الحقائق الجديدة.

وهنا كثيرون أخذوا على العقاد شدة لهجته حينما نقد شوقي، وفاتهم أن تلك اللهجة كانت أنسب اللهجات لمخاطبة رجل كشوقي يشاركه في هذه المسؤولية الذوق الأدبي الذي كان سائدا في الجول الأدبي آنذاك”

أشياء كثير كان للكاتب عنتر أن يعيها قبل أن يدخل ميدانا أراه لم يقومه حق تقويمه، وحظه السيء أنه تعرض فيه للعقاد، ولو كان شخصا آخر لما دعانا الأمر للحديث، لكن الجهالة الفاضحة بقيمة ومكانة العقاد هي التي جعلتنا نخرج عن صمتنا لنُفيق هؤلاء السكارى.!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: