دانة حبر

دانة حبر

بقلم: محمد عيسى

 

حين تميد بي الأرض من تحت قدميَّ، وتتجاذبني المشاعر وتعتريني الهموم والأحزان وأَظَلُّ أُسَفَّدُ بين هجير القلق ورمضاء الحياة.

أركب البحر وأعبُر القفر، فامتطي صهوة جوادي راكضًا، واعتلي ظهر سفينتي فتظلُّ تمخر عُباب البحر وتقطع المسافات وتجري بي في موج كالجبال؛ حينها أُلقِي على مرافئ الأندلس رحْلي، اتلَمَّسُ منها العِبرة، وأفيض فيها العَبرة، وأجدُ لنفسي جذوة من سلوى، أو قبس من إيمان.

وأبيتُ ليلي ونهاري بين (النفح) و(الإحاطة) واتجوّل رَدَهات طليطة، واتنسّم عبير غرناطة.

وأظلُّ هكذا؛ استظلّ تحت أفنان الشجر، وأُمتِّع ناظري برؤية الجميلات العذارى، ثم أُيمِّمُ وجهي شطر مسجد قرطبة مصلّيًا ومبتهلا، واتنقّلُ بين أروقة الحمراء، وأَرْوِي غُلتي من شعر ابن زيدون والحسناء ولّادة، وإنِّي ذكرتكِ بالزهراء مشتاقا.

ثم أُعرِّجُ على قصور إشبيلية حيثُ المعتمد بن عبّاد وزوجه اعتماد، وما إِنْ ولَجْتُ قصورها حتّى داعبني نسيم مياه النوافير بغنج ودلال، وعزفت على شرفي  أجمل سيمفونية عربية خالدة تبكي وتندبُ هاتيكم الأطلال، وأسلمتُ نفسي للنَّوم لتغطَّ في سُباتٍ عميق.

واستيقظت فَزِعًا على صرخات أبي عبدالله الأحمر، الذي أضناه الألم، وغاض جبينه في بِركةٍ دامية، يرسل الزفرات العميقة والدموع السخينة، يشعُّ الحزن من محياه، أو قل إن شئت يشع الذل من محياه جرَّاء التخاذل والتفريط والزيغ والمداهنة، ومع ذلك لا أرى الرجل تعمَّد عين الخيانة ولا قصد ضياع الأمانة؛ وقد وصف نفسَه بنفسِه فقال: (وما أُبريء نفسي إن النّفس لأمّارة بالسوء، على إنِّي لا أنكر عيوبي، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي، فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو بُجري وعُجري وسقطاتي وغلطاتي).

وإنّي لفي غاية العجب، كيف ساغت نفسه الحياة بعد أن بدت له غرناطة كفتاة افتضت بكارتها من سِفاح، وهى تزهو وتزدهي راقصة ولكنْ مِن شدة الألم.

أيكفي حينها الجهش بالبكاء، وتنفُّس الصَّعداء، وهطل الدموع الغِزَار؟؟!!!

وهل الأمم تُبنى بذلك أو تنصر؟!!!

كيف طابت له نفسه للحياة بعد أن رشقته أُمُّه بسهم نافذ، وطعنة نجلاء في الخاصرة، إنها وكما يقال في تعبيرنا المعاصر (قذف جبهة) تكاد السماوات منها تتفطّر وتنشقُّ الأرض، وتخِرُّ الجبال هدّا: (أجل!! فلتبك كالنساء، ملكا لم تستطع أن تُدافع عنه كالرجال).

والله إنّ كِياني ليرتجف من هول هذه الكلمة، وكان الأحرى به أن يُرَدّى من جبل شاهق أو تخطّفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (ويا أرض انشقي وابلعيني).

وخرج مِن ضئضئ أبي عبدالله هذا نسلٌ فسلٌ ديدنهم الخنوع ودأبهم المذلة، يخشون النّاس والله أحقّ أن يخشوه، يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل. وهنا تنهد الصغير اسما وصفة ونفث من صدره بركانا كاد أن يحرق غرناطة ألما وحسرة قبل أن تُسجَّر علي أيدي إيزابلا وفرديناند، وشهق شهقة سماها مؤرخو الغرب (زفرة العربي الأخيرة)، وليتها كانت، وليتها تكون، فما زال العُرب يطلق بعدُ الزفرات تلو الزفرات.

فانطفأت تلك الأنوار الساطعة، وأُسدِل السِّتار على كل تلك المشاهد الرائعة، وخَبَت قبسات النور التي كانت ملء السمع والبصر، وغاصت حضارة قرون ظُلُمات بحر لُجِّيٍّ عميق.

ولكن روح الفروسية المسلمة لم تُخمد بعد، وراية العروبة لم تزل عالية خفّاقة، وشعلة الإيمان لم يخبو أُوارها، ففي تلك الآونة العصيبة والأيام الحُبْلى بالعجب العُجاب.

برز فارس؛ رفيع المنبت، وافر العزم، قوي الشَّكيمة، ما زال يُذكي روح الحماسة في النفوس، ويرسّخ معانى الجهاد في الصدور، وقال قولته الصادحة الصادعة : (أما أنا، فخير لي قبر تحت أنقاض غرناطة في المكان الذي أموتُ دفاعًا عنه؛ مِن أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين).

وقال أيضًا: (إنه لم يبق سوى الأرض التي نقف عليها، فإذا فقدناها فقدنا الاسم والوطن).

وظلَّ موسى بن أبي الغسّان ثابت الجأش، راسخ الفؤاد، عصيّ الدمع، يلهب صدور قومه بكلماته، ويقودهم بصولاته، وعندما رأى فيض المآقي، وبلوغ الروح التراقي مِن الذين ظنُّوا أن الأمم تُنصر بالدموع، أو أنَّ النصر حليف الكسالى والخُدَّج والمُطبّعين؛ انهمر كالسيل قائلًا:

(دعوا يا موالينا البكاء والنحيب للنساء والأولاد فنحن رجال ولنا قلوب، لا لأجل ذرف الدموع بل لأجل سفك الدماء، وإني لأرى عزائم هذه الأمة قد ارتخت وقطعوا أملهم من نجاة هذا المُلك، فوالله لقد بقي علينا أشرف الخُطَّتين وهى الموت، فلنمت إذًا في سبيل استقلالنا والانتقام من عدوِّنا فأُمُّنا الأرض تتلقى أبناءها في أحشائها غير مقيدين بسلاسل العبودية).

ولكن ذهبت أقواله أدراج الرِّياح، فهو يخاطب قومًا نضب الأمل في نفوسهم، وخبت فيهم نوازع الحميّة، ونضبت منابع النخوة، وغاصت معالم المرؤة، ووصلوا لمرحلة من الذُّل لا تنجع معها كلمات الأبطال وعزائم الرّجال.

فأعرض عنهم وقال: (أما أنا فوالله دون أن أشهد ذلك، وإن الموت الأحمر أهون ما أتوقع).

وارتدى لأمة الحرب، وسلَّ سيف الهدى، واقتحم الوغى غير هيَّاب ولا فرّار، وأثخن في الكافر والمعتدي، إلى خرَّ عن صهوة جواده وتلقفته ملائكة الرحمن وفَدًا إلى الرحمن في عليين.

وما زال أحفاد موسى الغساني يضربون أسمى آيات الفِداءِ فِداءً لتراب وطنهم والذَّبُّ عن حياضه، وإعلاءً لكلمة دينهم والموت في سبيله، وإنه لجهاد نصر أو استشهاد.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: