في بيـت جَــدِّي (سيرة ذاتية) الحلقة الثانية

في بيـت جَــدِّي (سيرة ذاتية) الحلقة الثانية

بقلم: المستشار بهاء المرّي

 

أدركتُ بعد الكِبر والتفكُر فيما كان من مَواقفه والرفق بنا والاهتمام الزائد أنَّ مَرد هذا الاهتمام لم يكن لأننا مُجرد أحفاده، أو لأن ابنته تَرمَلت، وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها، وإنما لأنه كان بتدينه وحِفظه كتاب الله الذي كان يَختمه كل ثلاثة أيام، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – يُدرك أنه يتعامَل مع “أيتام”، ويعلم جيدا ما مَعني “يتيم”، وكيف تكون معاملته، يُضافُ إلى هذا أنَّ هؤلاء في الوقت ذاته أحفاده.

ومن الطرائف التي أذكرها أنه بعد ظهور أجهزة التسجيل “الكاسيت” رُحنا نُسجِّل له بعض التلاوات؛ كان يقرأ الآية الكريمة ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾( ). صدق الله العظيم. فإذا بكلب ينبح مصادفة ويظهر صوته في التسجيل. وكلما استمعنا إليه تذكرنا مناسبة هذه الحكاية.

كان رقيق القلب موصولًا بالله، فقد استشعر وهو في الحجَ في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وفاة أخ لي مات رضيعًا، قال لجدتي التي كانت ترافقه في الحج إنه رأى في المنام أمي وهي تبكي، فلما عادا وأبصراها وهي في استقبالهما لا تحمله والحزن بادٍ عليها، ثم عَلِمَا بنبأ وفاته قصتَّ عليهم جدتي هذه القصة.

كان إدراكي لصُنع جدي معنا يَزداد كلما سَمِعتُ حكاياتٍ يشيبُ لها الولدان في مُعاملة اليتامَى لدى ذويهم أعمامًا أو أخوالًا أو أزواج أُمهات بعد مَوت آبائهم.

لستُ أدري لماذا في الأرياف مَن يموتُ والده لابُد أن يَشقَى، وأن عمّه أو خاله أو زوج أمِّهِ يُكلفه بالشاق من الأعمال؛ فيدفعه بغِلظة إلى أعمال الحقل التي لا تُناسب سِنّه ومن دون أجر، إذ يكتفي بإطعامه وسِقايته، بل مع هذا العمل الشاق لا يكون نصيبه في التعامل إلا النَّهر والضرب المُبرِّح في أحيان كثيرة، وكأن “يتيم” يُساوي عندهم اللفظ “سُخرة”، بل كان اقتناع بعضهم أنْ لابُد أن يترك الدراسة؛ ليعمَل، ويُنفق على نفسه وأمه وإخوته من دون وازع من رحمة.

ومن الغريب أن كل من كانوا يُعامِلون اليتامَى بهذه الغِلظة والقسوة تراهم في المساجد رُكعًا سُجدًا، لا يتركون صلاة، ويصومون، ويتظاهرون بمَكارم الأخلاق، ويتحدثون في حلاوة الإسلام.

أدركتُ مَعروف جدي مَعنا كلما تذكرتُ ما كان منه من مواقف لم أفهم معناها في حينها، وما كان لي، وأنا طفل لم يبلغ السادسة أو السابعة أن أُدركها، ولكن أمي كانت تُدركها جيدا، كان حُبها له يفوق كل خيال، ورعايتها له، بعد أن انتقلنا إلى بيتنا – الذي تركناه بعد موت أبي مباشرة – يفوق رعايتها له ونحن في كَنفِه، هذا الحب لم أرهُ بهذه الدرجة منها تجاه جدتي الغليظة القلب المُتحجرة المشاعر.

أذكرُ له حين كان يفتح مَحفظة النقود، وهي من الجلد الطبيعي، وتُطوَى طيتين، مساحتها تبلغ عشرين سنتيمتر في عشرين مثلها لكل طبقة، ومُثبتة في جيب الصِديري بسلسلة مجدولة من الفِضة، تنتهي بحلقة في كل طرف منها، ويُعطيني “نُص فرنك” أي قرشين صاغ وكانت جدتي تَصيح فيه:

– “إيه ده يا حاج، ده كتير، الولد يضَيعهم”.

يصيح فيها: “أُسكتي انتِ”.

وفي بداية الصَيف والشتاء، وفي الأعياد، وبَدء الدراسة من كل عام كان يُرسلني في يوم السوق؛ لأدعو إليه بائع الأقمشة طالبًا منه أن يأتيه “بكذا تُوب بوبلين”، لنختار منها.

يعود معي الرجل، وهو يحمل على كتفه عددا من أتواب القماش “البوبلين”، ثم “الدَّكرُون” فيما بعد، ويَدخل على جدي، يضعهم أمامه، فيبتسم، ويطلب مِنِّي أن أختار، ثم يطلب من الرجل أن يَقطع لي من كل “تُوب” جلبابًا، وهو سعيد تعلو هامته البهجة.

كان يشترى لي مع بدء الدراسة حقيبة جلدية، وحذاء جلد من شركة “باتا” بينما كانت حقائب أغلب التلاميذ كيسًا من القماش، أو من بلاستيك شكائر السماد، وأحذيتهم من باتا أيضا، لكنها قُماشية، يُقال لها “كَوِتش”.

وبعد عودتي من المدرسة وتناولي طعامَ الغداء يدعوني؛ لنكتُب الواجب معًا، ويُحفِّظني القرآن الكريم المُقرر في المدرسة ويُعلمني جدول الضرب، الجمع والطرح والقسمة، وبعد أن ننتهي من الواجب يقرأ لي الدرس القادم، ويجعلني أقرأه.

وبالليل كان يحكي لنا حكايات جميلة، منها عن فترة إقامته في القاهرة، وهو يَدرس في الأزهر الشريف؛ سمِعتُ منه عبارة “المُجاورين” التي جعلتني أتذكره كلما قرأتُ قضية اغتيال سليمان الحلبي للقائد الفرنسي “كليبر”، وجاءت فيها سيرة المَشايخ محمد وعبد الله وعبد القادر الغِزِّي الذين عُوقبوا معه لعدم إبلاغهم عمَّا أسَرَّ به إليهم الحلبي من اعتزامه قتل كليبر. فقال عنهم الحلبي وهو يعترف إنهم كانوا من “المُجاورين”.

و”المجاورون” جاءت مِن “جَاوَر” أي انقطع للدراسة في مكان مُحدد، وقد أُطلقت هذه التسمية على طلاب الأزهر الشريف الذين كانوا يفدون إلى القاهرة، وينقطعون للدراسة فيه؛ أي بجواره.

ومنها حكايات عن “شيخ العامود” في الأزهر الشريف، و”تُرَب” الغفير، و”القَرافَة”، وكيفية بناء مسجد سيدنا الحسين “رضي الله عنه”، وقصة الضريح. وكانت الحكايات تتشعَب من حكاية إلى أخرى حسبما نطرحه عليه من أسئلة خلال حَكيه.

أذكرُ أنني سألته ذات مرَّة وعمري لم يُجاوز سبع سنوات:

– ما مَعنى اسم “فَطُّوم”. لأن لي خالة بهذا الاسم.

ضحكَ ساعَتها كثيرا قائلا:

– وما الذي يشغلك في هذا الاسم؟ ثم قال:

– هو اسم مُحرَّف من فاطمة تَيمُنًا بآل بيت “النبي صلى الله عليه وسلم”.

ولمَّا أدركتُ فهمتُ لماذا سَمَّى أمي وخالاتي بأسماء سيدات آل البيت، فضلا عما حُمِّدَ، وعُبِّدَ من أسماء الذكور، وكأن هؤلاء الأوائل حرصوا على المحافظة على هويتنا العربية الإسلامية.

هذا النهج في اختيار أسماء الأبناء استقرأتهُ في اختيار أبي لأسمائنا، أعتقدُ أن تسمية: سُمية، ووفاء، وأميمة، وصُوفيَّة، وبهاء ترجع إلى مُحاكاة الأسماء العربية الصِرفَة، وربما يرجع إلى مَردود أزهري في اختيار اسم صوفيَّة، كان من اللافت لي أن هذه الأسماء لم يَسبق تسميتها في قريتنا قبل اختيارها لنا.

كانت المدرسة في نهاية كل شهر تُعطينا شهادة ورقية مُسطَرًا فيها شهور السنة الدراسية، يُثبَتُ فيها نتيجة اختبار كل شهر؛ ليَطلعَ عليها ولي الأمر، ثم يُوقِّع في خانة مُخصَصة لتوقيعه، وتُعاد إلى لمدرسة، فإذا كانت درجاتي مرتفعة قبَّلني، وصاح فيمن في البيت: “تعالوا هنئوا بهاء طَلَع الأول على الفصل” ثم يعطيني “نُص فرنك” أخرى فوق المصروف.

وجدتُ حلاوة في هذه الطقوس، فحرصتُ على تحقيق هذه الصورة كل شهر، وكأنها قد أصبحت هواية لي أنْ أرى هذا الاحتفال، وأن أرى فرحة جدي وأمي وأخواتي، حتى صِرتُ من دون أن أدري من المتفوقين، بل الأول على الفصل.

عَشِقتُ التفوق، وأحببتُ أن أكون على هذه الصورة بسببه هو؛ هذا التفوق وجدتُ له في الوقتِ ذاته مَردودًا آخر؛ فقد اهتمَّ بيَ المدرسون، وأبدوا سعادتهم بتفوقي، كان المدرس في ذلك الزمان يفرح أيما فَرحة بالتلميذ المتفوق، وكأنه ابنه هو؛ لمَستُ ذلك في تشجيعي عليه، كانوا يَجعلونني أهتفُ في طابور الصبَاح بتحية العَلم، وجميع التلاميذ يُرددون من خلفي أقول: تحيا الجمهورية العربية المتحدة ” ثلاثا” ثم: يعيش الرئيس جمال عبد الناصر” “ثلاثا”.

وفي حصة الدين يَسأل الأستاذ “فتح الله المؤذن” رحمه الله، وهو مدرس الفصل الذي حبَبني في المدرسة والمُذاكرة: مَن منكم يعرف كيف تُؤدَّى صلاة كذا؟

فأرفع يدي سريعًا قبل غيري.

فيُخلي “تَختة” مما كنا نجلس عليها، ويجعلني أصعدُ فوقها؛ ليراني التلاميذ وأؤدي الصلاة المطلوبة، وبعد أن أنتهي من أدائها يطلبُ من التلاميذ أن يُصفقوا لي.

وكنا إذا سِرنا مجموعة في الطريق، وتَصادَف أنْ قابَلنا الأستاذ، كنا نحاول التخفي أو الابتعاد خَوفًا واحترامًا وتقديرًا، ينادينا برفق قائلا: “تعالوا سَلِّموا عليَّ”.

فنفرح ونُسرع الخُطَى إليه؛ فيمُسِك بيد أحدنا، ويبتسم قائلا: “سأطرح عليكم مسألة، ومن يُجيب إجابة صحيحة سيأخذ مكافأة”.

وبالفعل يُخرج من جَيبه “طُوفي” أو “كرملة نادلر”، ويُعطينا. وكان المدرسون على اختلاف تخصصاتهم يتطوعون، فيُعطوننا “مجموعة” مجانًا قبل الطابور، فنفرح، ونأتي مُبكرا، ومثلها بعد الانصراف، وهم فرحون، يُشجعون من يتفوق، أو يُحاول أن يتفوق.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: