دانة حبر (6)

دانة حبر (6)

محمد عيسى

 

يقول الدكتور طه حسين ذو البيان الراقي البديع في معرض انتقاده للأستاذ الرافعي ذي البيان السامق الرفيع (إن كل جملة من جمل هذا الكتاب- رسائل الأحزان- تبعث في نفسي شعورًا قويًّا مؤلمًا بأن الكاتب يلدها ولادة، وهو يقاسي من هذه الولادة ما تُقاسي الأم من آلام الوضع).

وذلك لما في الرسائل من أسلوب فلسفي عميق، بعيد غوره، يصبر المرء على إدراك مراميه، وبلوغ كُنه.

وأُفَسّر قول الدكتور طه حسين- إن جاز لي التفسير، وإنّما أنا فَسْلٌ من نَسْلِ هولاء العظام، أن الكلمات اكتمل نُمُوها، وبسقت أغصانها، فصار رضيعًا ملء السمع والبصر، فاسّتهلّ صارخًا، فَشَنَّف آذان القُرّاء وآضَ لديهم الأثير المحبوب.

وإن لَمَخاض الكتابة يُشْبِه مخاض الولادة، فهو يؤرّق النّفس، ويندي الجبين، ويمنع الهجوع، ويقضَّ المضاجع، وقد قال الفرزدق كلمة يَضُمها الإطار، وإن لم تكن من صميم الحوار: (لخلع ضرس أهون علىّ من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات).

وعندما كنت في المرحلة الابتدائية كَلّفنا مدرس اللغة العربية أن نُنشِئَ موضوعًا أدبيًّا؛ وما أطال النظر، وأمعن القراءة إلا فيما كتبت، وعَبّرَ عن امتنانه قائلًا: (برافو يا جاموس يا أبيض) أو هكذا قال، وما قال ما قال إِلّا أنّه رأى فَرْط حركة وشقاوة، فقد كانت الكلمات تموج في أحشائي، وظلت ترفس وتركل، وما وضعت حتى استرحت.

وانقضت الأيام وأهلها، وغابت ملامح أستاذي عن نَاظِرىّ، وطوى النسيان والسنون مُحيّاه.

وآثرت فن التوقيع على غيره من أنماط النثر فَهِمْتُ به، وحاكيتُ فيه الأوائل، متمثلًا قول يحيى بن جعفر البرمكي: (إن استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا) فَحُبِّبَ إلىّ الإيجاز وزُيِّنَ في قلبي، وكُرِّه إلىّ اللغو والإسهاب والهذيان، فهى (كلمة ورد غطاها)، وراق لي وصف أحد أصدقائي حين قال لي: (أنت كأبيك، أبوك يقذف دانات، وأنت ترمي طلقات) فهى إذًا (دانة حبر).

حقًّا ما قلتَ يا صديقي، لو أنها أصابت المَقَاتِل.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: