فصل في: محاباة النساء في النقد 

دكتور خالد سعيد

يحكى أن رجلا سأل ناقدا: أأكتب شعرا أم رواية؟ فقال له : اكتب رواية، فقال الرجل: هل قرأت إحدى رواياتي؟ فقال: بل قرأت شعرك. وقصة الفرذدق معروفة مع الرجل الذي أنشده :
ومنهم عمرو المحمود نائله كأنما رأسه طين الخواتيم
وتكثر مثل هذه الأخبار في الزراية بالشعراء الرجال أما النساء فيجد المحكم في شعرهن بعض التردد في الحكومة لأنهن نساء، وأنا أومن بأن الهوى يجري من آرائنا مجرى الدم، وأومن بأنه لو أخفي اسم المؤلف لتغير شطر آرائنا النقدية والشطر قليل، ويزيد الأمر جلاء ساعة يتعلق الأمر بنص امرأة، فترى الرجال – من النقاد ومن غير النقاد – يهبون لأي منشور أدبي نسوي وإن كان خلوا من الإبداع فارغا من المضمون فيستجيدون منه كل شيء حتى علامات الترقيم وتعمى أعينهم عن أخطاء اللغة والأسلوب وكأنهم قد اكتشفوا ما يمكن تسميته بالضرورة النسائية، حتى وصل الأمر بأحدهم أن يعرض لمن تطلب ولمن لا تطلب مساعداته في المراجعة والتنقيح، بل إني أعلم رجالا يتبرعون بالكتابة الكاملة عن بعضهن، ثم ينسبون السيدة أو الفتاة بعد ذلك إلى العبقرية التي لا ضريب لها والفن الذي لا صنو له .
ورغم أن ذلك مسلك مستشنع مقبّح عند الكثيرين – حتى إني لأفر من الإعجاب بما أستجيده مخافة التهمة وفرارا من الظنة – إلا أنني لا أرى عجبا من إقبال الرجال على منشورات النساء مادحين مقرظين ولا من فرح النساء وحسن استقبالهن لتلك الأهازيج المعطرة والمدائح المزهّرة، إذ هو أمر فطري جبلي عند كليهما
فأما الرجال فيجدون في ذلك سبيلا للتقرب من ذوات الدَّل وربات الحسن وأكثرهم – إن أحسنا الظن- يكفيه أن يكون قريبا مؤنسا ناظرا إلى الجمال فحسب، كما يقول الشاعر:
إني امرؤٌ مُولَعٌ بالحسن أتبعُه … لاحظَّ لي فيه إلاّ لذةُ النظرِ
وقد روي أن رجلين نظرا إلى جارية حسناء في بعض طرق مكة فمالا إليها فاستسقياها ماءً، فسقتهما فجعلا يشربانه ولا يسيغانه فعرفت ما بهما فجعلت تقول:
هما استسقيا ماءً على غير ظمأة … ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
فعجبا من ذلك ودفعا الإناء إليها فمرت وهي تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائداً … لقلبك يوماً أتعبَتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كلّه أنت قادرٌ … عليه ولا عَنْ بعضهِ أنت صابر
وأما النساء فهن يطربن للإطراء ويستعذبن الثناء ويتزيدن من كل تقريظ، قد جبلن على محبة التغزل فيهن وذكر محسانهن وبسط الكلام في حسنهن، والغواني يغرهن الثناء كما قال أمير الشعراء
والأمر على ذلك بين أهل الأدب من الشعراء والقصاص والنقدة أشيع وأقوى داعيا؛ لحاجة النساء إلى صكوك النبوغ ووثائق التفرد وشهادات أهل الفن لهن حتى يُجزن، ومعلوم أن أكثر أهل هذه الفنون رجال، كما أن إحداهن لا ترضى بأن تأتيها تلك الشهادة من امرأة مثلها؛ لغلبة الظن أن ذلك يكون من بابة التواسي والتعاطف الذي يتلبسن بها في الظاهر وفي قلوبهن من الحسد والغيرة ما فيها في الباطن، لذلك تلتقي الحاجتان على محز واحد فيفرح كل منهما بموافاة حاجته
وأقول إن ذلك أمر عادي أيضا؛ لأن محاباة الرجال للنساء – خلا زوجاتهم- أمر مشتهر في عصرنا وفي الأعصر السالفة ومن قبل ما قال الفرذدق في قصته الشهيرة مع النوار:
ليس الشفيعُ الذي يأتِيكَ مُئْتَزراً … مثلَ الشفيعِ الذي يأتيك عُرْيَانَا
حتى إن مثل ذلك وقع من أهل القضاء أنفسهم ، فقد روي أن الشعبي خرج من المسجد مرة ، بعد أن فرغ من مجلس القضاء، فمر بجارية تغسل في إجانة فلما رأت الشعبي قالت:
فُتن الشّعبيّ لما، فقال الشعبي: رفع الطّرفَ إليها
وأصل ذلك قضية اتهم فيها الشعبي بالجور والميل لامرأة في حكمه، فقد روي أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا شعبي، بلغني أنه اختصم إليك رجلٌ وامرأته، فقضيتَ للمرأة على زوجها، فقال فيك شعراً، فأخبرني بقصتيهما وأنشدني الشعر إن كنت سمعته. فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسألني عن ذلك. فقال: عزمت عليك لتخبرني. قال: نعم، اختصمت إلى امرأة وبعلها، فقضيت للمرأة إذ توجه لها القضاء، فقام الرجل وهو يقول:
فُتِن الشّعْبيُّ لّما … رَفَعَ الطَّرْفَ إليها
بفتاةٍ حين قامتْ … رفَعَتْ مَأكَمَتَيْها
ومشت مشياً رُوَيْداً … ثم هزّت مِنْكبَيْها
فتنتهُ بقوامٍ … وبخطَّىْ حاجبيها
وبنانٍ كالمَدَارِي … واسْودادِ مُقْلتَيْها
قال للجِلْوَازِ قَرّب … هَا وأحْضِر شاهديْها
فقضى جوراً علينا … ثم لم يَقْضِ عَلَيها
كيف لو أبْصر منها … نحرَها أو سَاعِدَيها
لصَباَ حتى تَرَاهُ … ساجداً بينَ يَدَيْها
بنتُ عيسى بن حَرادٍ … ظُلِمَ الخَصْمُ لَدَيْها
وأجود من هذا وأشد ما روي من أن الوليد بن صريع، مولى عمرو بن حريث، خاصم أخته أم كلثوم ابنة صريع إلى عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، وكان يقال له: القبطي، لفرسٍ كان له فقضى لها على أخيها، فقال هذيل الأشجعي:
لقد عثرَ القبطيُّ أو زَلَّ زلةً … وما كان منه لا العثارُ ولا الزّللْ
أتاه وليدٌ بالشُّهودِ يقودُهُمْ … على ما ادّعَى من صامتِ المالِ والخَوَلْ
يقودُ إليه كلْثُماً وكلاُمها … شفاءٌ من الدَّاءِ المخامرِ والخَبَلْ
فأدْلى وليدٌ عند ذاك بحجةٍ … وكان وليدٌ ذا مِراءٍ وذا جَدَلْ
وكان لها دَلٌّ وعينٌ كحيلةٌ … فأدْلَتْ بحُسنِ الدَّلِّ منها وبالكَحَلْ
فأفْتنَت القبطيَّ حتّى قضى لها … بغيرِ قضاءِ الله في مُحْكَم الطُّوَلْ
فلو أنّ من في القصرِ يعلمُ علْمَه … لما اسْتَعملَ القبِطيَّ يوماً على عَمَلْ
إذا ذاتُ دَلٍّ كلمتهُ بحاجةٍ … فهمَّ بأنْ يقضى تَنَحْنَح أو سَعَلْ
وبرّقَ عينيه ولاكَ لسانَهُ … ويَرَى كل شيءٍ ما خلا شخصَها خَلَلْ
فبلغ ذلك عبد الملك بن عمير، فقال: ما لهذيل أخزاه الله؟ والله لربما جاءتني النحنحة أو السعلة وأنا في المتوضأ فأردها مخافة ما قال.
قلت فذلك مثل صنيعي في الفرار من إبداء إعجابي بكلام إحداهن وإن كان مستحقا، عصمنا الله وإياكم من الميل وتحكم الهوى.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: