دانة حبر

دانة حبر

محمد عيسى

 

في التاسع عشر من آذار من العام ألفين وثلاثة في يوم ما أفَلتْ شمسه ولا توارى قمره، -حيث كنت أقطن المدينة الجامعية بمدينة نصر ذالكم التجمُّع الطلابي المهيب، والذي يضم أنبل وأنقى وأحذق مَن أنجبت مصر-.

في هذا اليوم الحالك السّواد طرقت جحافل أمرِيكا والغرب بلاد الرّافدين، فجاءوا بقضّهم وقضيضهم لاستأصال شأفة العروبة والإسلام متعلِّلين بالواهي من الأسباب والزائف من الأوهام، وبكل عتوٍّ واستكبار دكُّوا المنازل، وأضرموا الضياعَ والمروج.

وتسلّلت أنظرُ مِن طرْفٍ خفيٍّ، فإذا شلوٍ ممزعٍ من براعم نديّة وصبايا فتيّة، ونضائض أفناها السَّغب وطول الرَّزيّة.

فلم أهنأ بعدها بعيش، ولم يغمض لي جفن حتّى يُثْقلني الكرى؛ فأصحو فَزِعًا تداهمني الأشباح والصّور جرّاء ما شاهد البصر، ومُزِّق به النياط.

ويمرُّ عقْدان من الزّمن، وما أنا ببليل الريق، ولا هانئ المهجع، ولا دافيء المضجع، فما زالت عاهرة العالم تعربد موطني، وتدنس مسجدي، وتدمر بذراعها القميء وسرطانها الدنيء المشافي والحقول والرياض.

وطفقتُ من حينها وأنا أرسفُ في قيود الذُّل والخنوع والحيرة، ومعي الجموع الغفيرة مِن الشّيبة والشباب، وظلّلنا نتساءل ولسان حالنا يقول:

 

جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ

وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقًا فَمَشَيتُ

وَسَأَبقى ماشِيًا إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ

كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري

 

حتى دهمنا السابع من تشرين الأول من العام ألفين وثلاثة وعشرين، وقد نَبَتَ مِن الأرض الفَتِيّة {فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}، فمحَوْا من أعيننا الغشاوة، ومن أفئدتنا الزيغ، ومن عقولنا الرَّيْبِ ومن صدورنا الفَرَق، فبعد أن غاصت أقدامنا في بحار التيه المتحركة، أقامونا على الطريق اللاحب والأرض الصلبة.

وقذفوا بنا إلى أَتُون المعركة، وحطّموا على أُمِّ روؤسنا الأبراج العاجية، وأيقظونا من الأوهام، واللهث وراء السراب، فجاءوا بنا من وراء البحار وأَطلعونا الحقيقة كاملة، فتموضع الجميع قُدَّام نفسه؛ فالمتعذر بالقليل هم أقلّ، والمتحجِّج بالإمكانيات فما امتلكوا منها إلا النزر اليسير، والمتقوّل بالشعارات فالسّاحات تناديه؛ حتى صار الحجر دانة، واستحالت النبلة صاروخًا، وغدا القاربُ بارجة.

إن كلماتي تنطق بكماء، وتمشي عرجاء، وولدت لا حَبْضَ ولا نبض (فلا يُفتي قاعد لمجاهد، ولا يُفتي أهل الدثور لأهل الثغور، ولا شأن لربات الحِجَال بمعارك الرجالِ)، ولكن جهد المُقل وأدنى مراتب الإيمان.

فأَنَّى لنا أَن نستشعرَ آيات القرآن الكريم، وقد كُنّا نرددها ليلًا ونهارًا مرات ومراتٍ بلا بصيرة ولا رويّة، إلا إنهم أقامونا على المحجّة البيضاء والصراط المستقيم.

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}.

{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

{ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ }.

{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ}.

﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.

ها لقد افترقت الطرق، وأشرق ضوء نهاية النفق، فإمّا الحماس وإما الخُبُوّ، إما النِّضَال وإما الانهزام، وإنه لجهاد نصرٌ أو استشهاد.

دقت ساعة العمل.

دقت ساعة الزحف المقدس.

إلى الكفاح، إلى الفلاح.

إلى الإمام إلى الإمام.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: