عبد الرحمن بدوي أديبا

بقلم: الأستاذ الدكتور وجيه يعقوب السيد – أستاذ النقد الأدبي الحديث بقسم اللغة العربية – كلية الألسن – جامعة عين شمس
سيرة الفيلسوف الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي ومؤلفاته الغزيرة والمتنوعة تستحق البحث والدراسة الفاحصة؛ فقد أنجز الرجلُ على المستوى العلمي والأكاديمي العديد من الدراسات والموسوعات العلمية والفكرية المتفردة، التي قد يعجز الكثير من الباحثين عن القيام بها مجتمعين، بل قد تعجز أقسام علمية بأكملها عن تحقيق ما أنجزه بدوي منفردا؛ فقد كان الرجل بحقٍّ – كما وصفه أحد الباحثين – دائرة معارف لا يقل في تأثيره وأهميته عن دوائر المعارف العالمية الكبرى، وكان لبدوي إسهامات مهمة في مجال الأدب والشعر والقصة والسيرة الذاتية، إضافة إلى دوره الرائد في ترجمة الفكر اليوناني والغربي ترجمة دقيقة، وتقديمه رموز الفلسفة والفكر في أوروبا للقارئ العربي بصورة شاملة وصحيحة، كما قدَّم بدوي للمكتبة العربية إنجازا كبيرا ومميزا في حقل الدراسات الإسلامية؛ من خلال تحقيقه لعدد من المخطوطات المهمة، ومن خلال كتابته عن الشخصيات القلقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وردوده القوية والدامغة على المستشرقين؛ خاصة فما يتعلق بمزاعمهم وأكاذيبهم حول القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم، وأنصح القارئ بقراءة سفريه النفيسين: دفاع عن القرآن ضد منتقديه ودفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين منه، كما تُمثِّل حياة المفكر الكبير عبد الرحمن بدوي نمطا فريدا ومختلفا عن سائر الباحثين؛ فقد رسم لنفسه مسارا واضحا ومحددا منذ وقت مبكر جعل العلم فيه في مقدمة أولوياته؛ فسافر إلى أوروبا وهو في مقتبل عمره على نفقته الخاصة ليتعلم اللغات الأوربية ليتمكن من قراءة أعمال كبار الفلاسفة والمفكرين دون وسيط، وكان أساتذته الأوربيون في الجامعة المصرية يستعينون به في شرح ما يلقونه من محاضرات على الطلاب المصريين وترجمتها إلى اللغة العربية، وطوَّف بدوي ببلدان العالم شرقا وغربا وعمل بأعرق جامعاته، وحضر أهم المؤتمرات التي تُعنى بالفلسفة وتاريخ الأديان والاستشراق، وكانت له صولات وجولات مع المستشرقين وآراؤه في مناهجهم جديرة بالدراسة والنظر، واختار بدوي أن يعيش في عزلة أو ما يشبه العزلة، عازفا عن الأضواء وزاهدا في المناصب التي نالها مَن هم دونه بكثير ومترفعا عنها، ولا شك أن مؤلفات عبد الرحمن بدوي ستبقى ملهمة لأجيال وأجيال، وستبقى آراؤه الجريئة في مثقفي مصر وأدبائها مدعاة للجدل وللأخذ والرد، ولعل هذا هو أكبر تكريم لكاتب؛ أن يبقى تأثيره في الحياة الثقافية حتى بعد رحيله بسنوات، رغم التجاهل والصمت المتعمد الذي أصابه في حياته.
ولن نتناول هنا بطبيعة الحال الجوانب الفلسفية والفكرية عند عبد الرحمن بدوي؛ فهذا العبء إنما يقع على كاهل دارسي الفلسفة، وإنما سنتناول جانبا من حياة عبد الرحمن بدوي الأدبية؛ من خلال تسليط الضوء على إحدى قصصه المهمة التي كتبها في فترة مبكرة من حياته؛ ألا وهي رواية (هموم الشباب)، وهموم الشباب سيرة ذاتية روائية مزج فيها بدوي الذاتي بالموضوعي، ووظف معرفته الفلسفية والأدبية لمناقشة عدد من القضايا الاجتماعية والفكرية والسياسية؛ ولا شك أن هذه الطريقة في الكتابة قد تجنح بصاحبها للمباشرة والفجاجة أحيانا؛ فعندما ينصب اهتمام الروائي على الموضوع فحسب يصبح الجانب الفني هامشيا لا قيمة له، وهذه قاعدة نلاحظها عند عدد كبير من الكتاب والروائيين الوعظيين والمؤدلجين، وتعكس هذه السيرة الروائية الحس الإصلاحي والتوجه الثوري المبكر لدى الكاتب، وإيمانه بدور الأدب في خلق الوعي والتأثير في القارئ، ومن فضول القول أن نشير إلى التشابه الكبير بين السيرة الذاتية التي كتبها عبد الرحمن بدوي قبل رحيله وهذه السيرة الروائية التي كتبها في بدايات حياته وإن اختلفا في الشكل والبناء؛ فكلاهما يعبر عن شخصية بدوي المتمردة والرافضة التي لا تخشى أن تذكر رأيها الصادم في الأشخاص والرموز والأحداث المهمة.
دوافع كتابة السيرة الذاتية:
تختلف دوافع كتابة السيرة الذاتية من كاتب لآخر ومن زمن لزمن ومن ثقافة لأخرى؛ فقد كانت أهم دوافع الكُتَّاب العرب قديما لتدوين سيرهم الذاتية الخوف من تناول الآخرين لحياتهم الشخصية، وربما جَانَبَ هؤلاء الصواب أو أساؤوا فهم مواقف الشخص؛ فنسبوا إليه أخبارا غير صحيحة، وربما حرصوا على كتابة سيرة حياتهم استجابة لطلب بعض التلاميذ والمريدين كي يفيد الناس منها، ومن أهم دوافعهم شكر الله على نعمه وعطائه وتأييده لهم خلال هذه المسيرة الناجحة، أما دوافع كتابة السيرة الذاتية عند الكتاب الغربيين فربما كانت من أجل تقديم النصيحة للقارئ كي يتحاشى السقوط في أخطاء المؤلف، ولذلك لا يتجمل كاتب السيرة الذاتية أو يخجل من رواية الأحداث التي مر بها بل يذكرها بشفافية تامة، ويمكن مراجعة اعترافات جان جاك روسو في هذا الصدد، وهذا الأمر منسجم مع طبيعة الثقافة الغربية وينبع من فكرة الاعتراف في الدين المسيحي، ومع تطور العلم وطرق التحليل النفسي، وجد الكاتب المعاصر في السيرة الذاتية فرصة يعرض من خلالها مجرى حياته الباطنية وتجاربه الروحية، ومنهلا للتحليل النفسي الدقيق الذي يكشف عن خبايا النفس وقواها ومدها وجزرها وضلالها وهداها، وسواء كانت الكتابة من أجل تخليد النفس أو تحليلها، فإن كلا النوعين يتجه إلى الخارج ويفترض وجود أناس يتحدثون إليهم بهذا الحديث، فهم يخاطبون شيئا آخر غير نفوسهم، وفي الوقت نفسه يخاطبون نفوسهم. (انظر: الموت والعبقرية للدكتور عبد الرحمن بدوي، والدراسة التي كتبتها عنه ونُشرت في دار البشير تحت عنوان: صورة الذات والآخر في السيرة الذاتية – عبد الرحمن بدوي نموذجا)
ميثاق السيرة الذاتية في هموم الشباب:
بداية نقول: إن هموم الشباب ليست سيرة ذاتية بالمعنى الحرفي المتعارف عليه للسيرة الذاتية؛ التي يسجل فيها الكاتب مراحل حياته المختلفة، ويسلط الضوء على نشأته وذكرياته، ويقف عند أهم المحطات في مسيرته العلمية والاجتماعية، ولكنها مجرد إطار فني ووسيلة اتخذها الكاتب لتعرية الواقع وتحليل الشخصية المصرية ووضع يده على أهم عللها وأدوائها، كما هو الشأن مع الطبيب النفسي وعالم النفس، ومن الطبيعي أن يكون عمل بهذه الصورة أقرب للأعمال الفكرية الجافة، ولا يتوقع القارئ أن يعثر فيه على بناء قصصي محكم متماسك، حتى على المستوى المعلوماتي والفكري يشوب هذه السيرة الكثير من النقص والتشوش؛ وذلك بسبب قلة خبرة الكاتب في تلك الفترة وعدم مروره بتجارب واقعية ذات قيمة كبيرة، على العكس مما نجده في (سيرة حياتي) التي كتبها بدوي في أخريات حياته، بعد رحلة علمية باذخة وخبرات حياتية شديدة الثراء، وإن لم تحظ هذه المسيرة بما تستحق لدى الدوائر والمؤسسات الرسمية.
وعلى الرغم من محاولة الكاتب نفي الصلة بين أحداث هذه الرواية وحياته الخاصة؛ فإن العديد من الشواهد والأحداث تؤكد أن هموم الشباب سيرة ذاتية، اختار بدوي لها هذا القالب الروائي بغية إيصال رسالته والتعبير عن توجهاته الإصلاحية، وهو في ذلك لم يخرج عن توجهات كثير من كتاب تلك الفترة، الذين شغلهم البحث
عن سبل للنهضة والتقدم والحرية، ومحاولة العثور على إجابات مقنعة للعديد من الأسئلة الجوهرية والوجودية، متأثرين في ذلك بنمط الحياة الغربية والمدنية الحديثة، ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى كتابات يحيى حقي وتوفيق الحكيم وهيكل وطه حسين والعقاد والرافعي وغيرهم من كبار كتابنا وأدبائنا، ولذلك رجح أحد الباحثين أن تكون (هموم الشباب) سيرة حقيقية، ووصفها بالسيرة/ الرواية التي تعبر عن حياة مثقف بين الكتب، وهي أقرب إلى حديث النفس في محاولة لتأسيس أدب فلسفي، وهو متأثر فيها بالأدب الوجودي وبشكل خاص بـ (طفولة رئيس) لجان بول سارتر.
وتدور كثير من أحداث القصة داخل أحد البارات، وربما يعكس اختيار الراوي هذا المكان بالذات رغبته في تعرُّف الجوانب الخفية في حياة البشر؛ حيث يغلب على كثير منهم التحفظ والحيطة، والحرص على إخفاء معالم شخصيتهم الحقيقية، والظهور بمظهر الأتقياء والصالحين أمام الناس، بينما يكونون على طبيعتهم وسجيتهم عندما يُوجدون في تلك الأماكن، لذلك كانت وظيفة الراوي – التي تتماهى إلى حد كبير مع شخصية المؤلف – أشبه بوظيفة المحلل النفسي، الذي يجمع المعلومات، ويحاول الربط بينها والقيام بتحليلها، وصولا إلى معرفة يقينية تمكنه من تشخيص الداء ووضع الدواء المناسب له؛ فاختيار الكاتب للقالب القصصي ليس سوى وسيلة نَقَلَ من خلالها أفكاره وآراءه؛ فغلب على القصة الطابع الفكري والفلسفي ولم يراع الكاتب جماليات الشكل القصصي المعروفة كما أشرنا، ولم يلتزم الراوي بطبيعة الدور المنوط به في العمل الفني؛ وهو نقل الأحداث بحياد وموضوعية وتجنُّب التعليق عليها وإظهار وجهة نظره، كما جاء وصف المكان تقليديا ولا يضيف أية أبعاد جمالية أو تفسيرية أو رمزية للأحداث، ولم يخرج بناء الزمن عن البناء الكلاسيكي المعروف، الذي يمضي فيه الزمن في شكل خطي مستقيم؛ وهو ما يجعل السرد رتيبا ومملا في كثير من الأحيان، ولا غرو في ذلك؛ فعبد الرحمن بدوي ليس كاتب قصة محترفا، ولكنه مفكر وفيلسوف متعدد المواهب، وقد اختار القالب القصصي تارة والقصيدة تارة والسيرة الذاتية تارة أخرى للتعبير عن وجهة نظره ورؤيته الشخصية.
ومن الإشارات التي ترجح أنَّ راوي هذه السيرة القصصية هو الكاتب نفسه؛ هذا التشابه والتطابق في كثير من المواقف بينهما، ومن ذلك على سبيل المثال: حديث الراوي عن تجربته في العمل السياسي وهو في مقتبل عمره، وتأثره بفكر الفيلسوف الألماني نيتشه وشخصيته؛ فهي تكاد تتطابق مع تجربة المؤلف السياسية التي قصها في سيرة حياتي؛ إذ كان ينتمي في البداية إلى حزب مصر الفتاة، بعد أن جذبته شخصية رئيس الحزب بفصاحته ولباقته، ودعوته لبناء مصر قوية وذات شخصية مستقلة، لكنه اكتشف مع مرور الوقت أن شخصيته تتسم بالضعف وضيق الأفق والجمود والمراهقة السياسية، وهو ما حدا به لقطع صلته بالحزب بشكل كامل عام 1942م، بعد أن علم أن رئيس الحزب أحمد حسين أرسل رسالة من محبسه إلى رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس، يتبرأ فيها من تلك المبادئ ويعلن ندمه عما قام به أعضاء حزبه ضد حزب الوفد، مستجديا إياه بأنه ما زال طفلا يحبو في عالم السياسة، وهذا التحول هو عين ما حدث للراوي حين علم أن السياسي المحنك الذي اختاره هو وزملاؤه ليعملوا تحت قيادته سرا، بحثا عن طوق نجاة وإيجاد مخرج لمصر من أزمتها، لكنهم يكتشفون ضعفه وتردده وميله للعزلة والانسحاب من الحياة؛ فيقررون الابتعاد عنه وكشف حقيقته للناس، كما تكرر في (هموم الشباب) حديث الراوي عن سفره الدائم والمتواصل لأوروبا، ووصفه لمشاهداته هناك، ومقارنته الدائمة بين الحياة في أوروبا والحياة في مصر، كما تزخر القصة بالعديد من الأفكار والآراء التي لازمت المؤلف طوال حياته؛ كرأيه في الشيوخ ودهاقنة السياسة والأدباء المزيفين والمصنوعين، واتهامه للكثير منهم بالعمالة لأجهزة المخابرات، وغير ذلك من الآراء الحادة للغاية المبثوثة في كثير من كتبه، خاصة ما نُشر في (سيرة حياتي) وشكَّل صدمة للمثقفين عند صدوره. (صدرت هذه السيرة عام 1946م أي بعد انقطاع صلة بدوي بحزب مصر الفتاة بنحو أربع سنوات، والحق أن بدوي رحمه الله كان مغاليا جدا وناقما على المثقفين ورموز الثقافة في مصر؛ فلم يسلم أحد منهم من النقد والتجريح باستثناء الشيخ مصطفى عبد الرازق والدكتور طه حين)
بل إن موقف الراوي من النساء عموما وتجربته العاطفية الخاصة مع إحدى فتيات الليل، تشبه إلى حد كبير علاقة بدوي بالمرأة وموقفه من النساء؛ وهو عدم التعلق بالمرأة والعزوف التام عن التجارب العاطفية، باستثناء بعض المغامرات العابرة التي يهدف الكاتب والراوي من خلالها إلى سبر أغوار المرأة، والتأكيد على وجهة نظره فيها، ومن تلك الإشارات المهمة التي تؤكد على التشابه الكبير بين المؤلف والراوي؛ أن راوي هموم الشباب كان يحيا في بطون الكتب وليس له وجود خارجها، وهو ما يتطابق حرفيا مع حياة المؤلف كما ذكر هو عن نفسه في سيرة حياتي، لذلك استخدم المؤلف صيغة الراوي العليم التي تتيح له تقييم الأشخاص والحكم على المواقف، والتعليق على الأحداث ليطلع القارئ على ما يغيب عنه وما يخفى عليه منها.
ويبدو تأثير الفلاسفة وعلماء النفس في راوي هموم الشباب طاغيا؛ حيث يستشهد بها كثيرا في حُكمه على الأشخاص وتأييد موقفه منهم؛ فهو يتحدث عن الصراع الدائم بين (الأنا الاجتماعي) و(الأنا الذاتي) وما ينتج عن ذلك من انقسام وازدواج في الشخصية، وقد اختار الراوي تغليب (الأنا الاجتماعي) عندما يتعامل مع الناس، وتركه الحبل على غاربه لــ (الأنا الذاتي) عندما يخلو بنفسه؛ فهو متردد دائما بين عالم الروح وعالم الجسد؛ يحرص على حضور حفلات الرقص الماجنة، التي تهتم فيها الراقصات بإثارة الشهوات، وفي الوقت نفسه تراه مهموما بأمور الوطن والشباب، ويسعى جاهدا لتغيير الواقع والثورة على الظلم والتخلف، كما أنه يتمتع بحس إنساني كبير فتراه يُظهر تأثرا وتعاطفا مع المرضى والطبقات المهمشة،ولذلك نجده يستمر في علاقته بفتاة الليل رغم علمه بابتزازها له،وذلك بسبب تعاطفه مع حالتها الصحية ووضعها الاجتماعي المتردي، ويلتمس العذر لها ولأمثالها بسبب صغر سنها وقلة خبرتها،وتحميله المجتمع المسؤولية عما وصلن إليه،وقد ذكر الكاتب شيئا قريبا من ذلك في سيرة حياتي.
وربما ساعد القالبُ القصصيُّ المؤلف على عرض وجهة نظره بصورة شبه محايدة في العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية الشائكة وسبر أغوارها؛ وفي طليعة تلك القضايا: قضية التمييز ضد النساء، وفرض المجتمع القيود والوصاية عليهن، والانحياز التام للرجل والتماس العذر له، والأثر السلبي والتقليد الأعمى للأفكار الغربية المتطرفة، واستساغة الكثير من الناس ذلك، وعقده مقارنةً بين الرجل الشرقي والرجل الغربي من خلال طريقة معاملة كل منهما للنساء، وقد سجلت فتاة الليل “سرفناز” في مذكراتها العديد من المواقف الطريفة التي تُظهر الفرق بينهما، وشعور مقترف الإثم والرذيلة بالذنب والندم الدائمين، بسبب ما يجره عليه هذا السلوك الشائن من تلطيخ لسمعة أسرته وامتهان لكرامته وإنسانيته، وعلى الرغم من اختيار الكاتب للقصة إطارا للتعبير عن أفكاره وآرائه، نجده يجنح كثيرا ويتحول إلى دور المؤرخ أو الناقد أو المحلل النفسي، الذي يكتفي برصد الظواهر السلبية في المجتمع ومقارنتها بما هو موجود لدى الغرب أو بما كان موجودا في الماضي، بل إن الكاتب كثيرا ما يلجأ إلى التوثيق والنقل عن المصادر كما يفعل الباحث بدون ضرورة فنية تقتضيها الحبكة القصصية.
إن راوي هموم الشباب شخص متردد، أفكاره مشوشة، ليس له رأي أو وجهة نظره مستقلة، ولا تعبر عن قناعة خاصة، لم يُكتب النجاح لتجربته ومغامرته البريئة مع فتاة الليل؛ فقد استغلت الفتاة سذاجته وقلة خبرته لتحصل منه على مزيد من المال والهدايا، ورغم ذلك لم تف بوعدها معه، وحجبت عنه أهم جزء في مذكراتها، ولم تكتف بذلك بل قامت باستدراجه والتجسس عليه وعلى أصدقائه لمصلحة أحد الضباط الإنجليز، ووُجِّهتْ لهم جميعا تهمة التخطيط لقلب النظام، لينتهي الأمر ببعضهم إلى دخول السجن، وينتحر البعض، وتعتل صحة من بقي منهم على قيد الحياة؛ وهذه الضريبة الفادحة دفعها الراوي بسبب عزلته وانطوائه وحياته بين الكتب، وعدم قدرته أن يحيا حياة طبيعية.
وقد أكثر الراوي من المقارنة بين الرجل المصري والأوربي، وجاءت صورة الأوربي مشوبة بالإعجاب والحِنق؛ الإعجاب بمظاهر الحضارة والقيم الفنية والجمالية التي أنتجتها أوربا، والحنق وعدم الرضا بسبب شعارات الغرب الجوفاء، التي يطلقها أصحاب المصالح ومشعلو الحروب ومدَّعو المثالية، ويبدي الراوي إعجابه الشديد بالشباب الأوربي بسبب تطلعه للمجد والاعتماد على الذات، واستفادته من تجربة الحرب على ما فيها من ويلات ودمار، وهناك شواهد كثيرة تؤكد انحياز الراوي للنموذج الغربي؛ منها استشهاده واقتباسه المتكرر لأقوال مفكريهم وكتابهم، وعلى رأسهم الفيلسوف المعروف نيتشه، حيث يوظف أقواله داخل الرواية للتعبير عن أفكاره الشخصية، التي تعلي من شأن القوة والفروسية وأخلاق النبلاء وغيرها، ومن تلك الأقوال: إن الروح العسكرية الحقيقية هي تلك التي تجعل شعارها كلمة نيتشه الرائعة: عش في خطر، كما كان الراوي شديد الإعجاب بالموسيقى الغربية والفن الغربي والمدارس الأدبية الغربية، ويرى أن سر تفوق الغربيين يكمن في وجود نماذج ورموز ألهمت الشباب، وأسست للنهضة والتفكير العلمي الصحيح، أما نحن فلم يكن لدينا مثل هذه الرموز، بل كانت هذه الرموز سببا في وصولنا لهذه الحالة “ولا شيء أقتل للأمل وروح العمل من أن لا تتجسد الآمال والأفكار أشخاصا حقيقيين واقعيين أحياء؛ إذن تظل أوهاما ضررها أكبر جدا من نفعها”.
وجاءت صورة رجال السياسة والأدب والفن وأصحاب السلطة والنفوذ في هموم الشباب سلبية للغاية؛ فهم لا يجيدون سوى إلقاء الخطب الرنانة، والمتاجرة بالشعارات، والتدليس على الناس، وقد وصل كثير منهم إلى ما وصل إليه عن طريق الدجل والعمالة والتجسس لصالح أجهزة الأمن والمخابرات: “كانت الشائعات تحوم حول فلان وفلان وهيان بن بيان دون أن تستطيع الانقضاض على شخص معين بالذات مما كان يزيد في بلبلة الخواطر وفي اتهام صدق هذه الشائعات؛ وكان من بينهم من يُذكر على أنه من أهل الفن وبنات الهوى، بيد أن التحديد كان يعوز في كلتا الحالتين”، وهذه الفكرة من الأفكار الجوهرية التي حرص الراوي على إبرازها بكل وسيلة في هموم الشباب، كما طرقها بشكل مفصل في سيرة حياتي، والفارق الوحيد بينهما أنه ذكرها في هموم الشباب بصيغة العموم ودون الإشارة إلى أحد بعينه، أما في سيرة حياتي فقد تعرض المؤلف لعدد من رموز السياسة والأدب والفكر والفن بشكل صريح.
ويعزو الراوي كل أثر سلبي في مجال السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع والفن وغيرها إلى جيل الشيوخ؛ فهم في نظره لم يكونوا أمناء في النقل عن الثقافة الغربية، وإنما نقلوا ما يعبر عن قناعاتهم وإيمانهم، فاكتفوا في الأخذ عن الثورة الفرنسية بمجرد الأقوال وترديد النغمات البالية، وفي مجال الاقتصاد أخذوا بالجانب المتطرف الذي يُحيل الإنسان إلى معدة فحسب، وفي الاجتماع تركوا فكرة تحرير المرأة وانصرفوا إلى الأفكار الشاذة الخطرة التي ترُدُّ كل شيء إلى الغريزة الجنسية، وفي الأدب كان سببُ عزوف الشباب عن الأدب الكلاسيكي والجاد وارتمائهم في أحضان الأدب الرومانتيكي والرمزي والسيريالي عدمَ فهم الشيوخ للأدب الكلاسيكي بشكل جيد ومن ثم لم يستطيعوا تقديمه على نحو صحيح، وفي الدين كانت المعركة على أشدها بين معسكرين؛ الأول يُمعن في الإلحاد ويخضع للأفكار الماركسية والوثنية، والآخر يتمسك بظاهر الدين ويغالي فيه إلى أبعد حد، وفريق ثالث يحاول التوسط بين الفريقين، يأخذ بطرف من الحرية الفكرية مع الالتزام بالأصول العامة في العقائد، لكنه كان بلا شخصية ولا هُوية، وهذه جميعا كما نرى آراء فكرية وفلسفية تتصارع في عقل المؤلف وأراد إبرازها من خلال راوي سيرته في هذا القالب القصصي، وهو ما يؤكد على أن الرواية كفنٍّ لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما كانت مجرد قالب فني وظفه الكاتب للتعبير عن وجهة نظر بعينها.
وبذلك يتضح أن دوافع كتابة الدكتور بدوي لسيرته الذاتية في هذا الوقت المبكر من عمره، لم تكن من أجل تقديم شهادة عن العصر ولا تقديم صورة معينة عن إنجازاته العلمية والفكرية، أو تعريف الناس بحياته الشخصية كما هو شائع لدى كتاب السيرة الذاتية، بل جاءت (هموم الشباب) أقرب إلى التحليل السياسي والنفسي والاجتماعي، الذي قصد الكاتب من ورائه تحريض القارئ على اتخاذ موقف ما من تلك القضايا، وهو لذلك يوظف معرفته الفلسفية والفنية والدينية وكل ما من شأنه أن يخدم هذا الجانب الدعائي، بغض النظر عن الحبكة القصصية الضعيفة والحوار الفلسفي الجاف الذي لا يعكس طبيعة الشخصيات في القصة، بقدر ما يعكس وجهة نظر المؤلف ورأيه وثقافته وتوجهه الفكري والثوري.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: