رضا عبد السلام ونقوشه على الحجر: سيرة ذاتية شعرية ملهمة

بقلم: د. وجيه يعقوب السيد – أستاذ النقد الأدبي بقسم اللغة العربية كلية الألسن جامعة عين شمس

عرفتُ الأستاذ رضا عبد السلام كما عرفه العديد من المستمعين عبر شبكة إذاعة القرآن الكريم بمصر، من خلال برامجه المميزة، وأدائه القوي الرصين، وصوته العذب الذي يصل إلى القلب سريعا، وقد توطدت علاقتنا بعد إجراء عدد من الحوارات معي كنت فيها ضيفه وضيف المستمعين الكرام للحديث حول عدد من القضايا الأدبية والاجتماعية والدينية في شهر رمضان المبارك، وقد أدهشني حضوره وسرعة بديهته ولباقته وإعداده الممتاز وثقته الكبيرة بنفسه، وقد لاحظتُ تعمُّدَه الاعتماد على نفسه في كل شيء، بدءا من حمل الكتب والأوراق والأقلام وكتابة الأسئلة والتخطيط في الكتاب ووضع ملاحظاته وتدوينها على هامش الصفحة، رغم قدرته على الاستعانة بمن يقوم بهذه الأعمال نيابة عنه؛ لكنه ربما أراد أن يثبت من خلال هذا التصرف عمليا أنه رغم ميلاده بإعاقة حركية نتيجة ضمور الذراعين قادر على إنجاز أصعب الأشياء التي يحتاجها دون الاستعانة بأحد، فهي مسألة رمزية في المقام الأول لشخص قبل التحدي منذ البداية، ولم تمنعه إعاقته عن ممارسة كل ما يمارسه الأشخاص العاديون؛ فالتحق بالمدرسة وتفوق في دراسته ولعب كرة القدم وغيرها من الألعاب الشاقة والعنيفة التي يفضلها الصغار في هذه المرحلة، وواصل تعليمه وعرف مواطن القوة والضعف في شخصيته ولم يتوقف عن السعي والتحصيل وصقل الموهبة حتى وصل إلى أعلى المناصب وأصبح مديرا لشبكة إذاعة القرآن الكريم عن جدارة واستحقاق، وقد رصد رضا عبد السلام رحلة كفاحه ونجاحه وآماله وآلامه من خلال هذه السيرة المطولة التي جاءت في نحو خمسمائة صفحة، لتكون وثيقة وشهادة على عطائه، وملهمة لكل من يعاني إعاقة شبيهة أو فراغا وعجزا بسبب عدم قدرته على توظيف قدراته وملكاته توظيفا سليما!

ونحن هنا في هذه المقالة نحاول تسليط الضوء على هذه السيرة الذاتية المدونة من الناحية الفنية والأدبية، في ضوء ما أنجز من كتابات كثيرة في فن السيرة الذاتية الذي يرجع تاريخه بحسب بعض مؤرخي الأدب إلى عصور سحيقة جدا، لذلك يحسن بنا قبل البدء في استعراض هذا المنجز أن نتوقف قليلا عند بعض المفاهيم المتعلقة بهذا الفن الذي يظن البعض أنه كتابة مطلقة غير مقيدة بأية معايير أو ضوابط.

لماذا نحرص على كتابة ذاتنا؟

لا شك أن حاجة الإنسان للبوح والتعبير عن مكنونات نفسه وتجاربه في الحياة قديمة ومتجذرة، فالمدونات التاريخية تحدثنا أن قدماء المصريين حرصوا على تخليد أعمالهم وإنجازاتهم من خلال النقوش والشواهد القائمة على قبورهم، وهو ما اعتبره بعض الباحثين شكلا من أشكال كتابة السيرة الذاتية؛ حيث سعوا من خلال تلك النقوش إلى مقاومة الزمن والفناء، وتسجيل وجهات نظرهم في كثير من الأمور والأحداث، وتخليد ذكراهم بعد الموت، وهي بعض بواعث الكُتَّاب في مختلف العصور لتدوين سيرتهم الذاتية.

وتختلف دوافع كتابة السيرة الذاتية من كاتب لآخر ومن زمن لزمن ومن ثقافة لأخرى، فقد كانت أهم دوافع العلماء والمفكرين العرب القدماء لتدوين سيرهم الذاتية الخوف من تناول الآخرين لحياتهم الشخصية، وربما جانبهم الصواب أو سوء الفهم والتحليل فينسبون أخبارا غير صحيحة لهم، وقد تأتي كتابة هذه السيرة استجابة لطلب بعض تلاميذهم ومريديهم كي يُفيد الناسُ منها، ويأتي على رأس هذه الدوافع شكر الله على نعمه وعطائه لهم، وقد يكون الغرض هو تقديم النصيحة للقارئ كي يتحاشى السقوط في أخطاء المؤلف، وقد تكون السيرة الذاتية فرصة لإثبات موقف أو تقديم شهادة أو الرد على تهمة أو شبهة وجهت للكاتب.

ومع تطور العلم وطرق التحليل النفسي، وجد الكاتب المعاصر فرصة يعرض فيها مجرى حياته الباطنية وتجاربه الروحية، ومنهلا للتحليل النفسي الدقيق الذي يكشف عن خبايا النفس وقواها ومدها وجزرها وضلالها وهداها، وسواء كانت الكتابة من أجل تخليد النفس أو تحليلها، فإن كلا النوعين يتجه إلى الخارج ويفترض وجود أناس يتحدثون إليهم بهذا الحديث، فهم يخاطبون شيئا آخر غير نفوسهم، وفي الوقت نفسه يخاطبون نفوسهم، وربما لهذا السبب جاءت أغلب التراجم والسير الذاتية وهي تحمل عنوان: ترجمة النفس مستخدمة ضمير المتكلم بصورة واضحة مثل: مذكراتي، أو أنا، أو سيرتي الذاتية، فالسيرة الذاتية تمثل تاريخ ذات تتوصل إلى الوعي بذاتها من خلال قوى الوعي والعقل والتواصل مع الآخر أو مواجهته.

ولا شك أن هناك أسبابا أخرى ودوافع عديدة وراء تدوين الكُتَّاب لسيرهم الذاتية، منها البحث عن الشهرة أحيانا، وتقديم شهادة مختلفة عن العصر تعبر عن وجهة نظر أصحابها، وربما من أجل تمجيد الذات أيضا والفخر بما أنجزه صاحب السيرة، وإن كان الأديب الحق ليس هو بالطبع الذي تقوده رغبة في تمجيد ذاته بل في تقصِّيها، وقلما وصل كاتب انساق في عمله إلى التمدح بنفسه إلى مستوى الفنان، وإذا كان لا بد من إحساس الكاتب بذاته ونرجسيته فيجب أن يدرك المبدع – كما يقول الدكتور عز الدين إسماعيل – أن نرجسية الفنان نرجسية مُحَوَّرة أو منقولة، أو لنقل إنها نرجسية ملغاة يعوضه عنها العمل الفني بنرجسية أرحب.

تعددت الصرخات والآه واحدة!

من البديهي أن تختلف أشكال البوح والتعبير عن الذات والسيرة الذاتية بحسب طبيعة كل كاتب وتوجهاته وطبيعة الموضوع الذي يتناوله، لذا يصعب حصر هذه الأشكال ووضع معايير محددة وثابتة لها، لكن هناك بلا شك عددا من المعايير التي يجب أن تُراعَى عند شروع المرء في تقديم طرف من سيرة حياته حتى لا يختلط الأمر ويلتبس مع كتابات أخرى شبيهة.

وربما لهذه الأسباب حاول كثير من الباحثين وضع تعريف جامع للسيرة الذاتية ليلتزم به الكتاب، ومن أشهر هذه التعريفات ما ذكره الناقد الفرنسي (فيليب لوجون)، حيث يرى أن السيرة الذاتية عبارة عن حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة. (انظر: فيليب لوجون: السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، المغرب، ص 22)

وبذلك تكون السيرة الذاتية كما يرى لوجون سردا ماضويا لأحداث حقيقية وليست متوهمة أو خيالية، يقدم من خلالها شخص حقيقي تجاربه ومواقفه في الحياة، ليؤكد ويعلن عن وجوده الخاص والمحوري في صناعة هذه الأحداث، ويركز بصورة واضحة على حياته هو لا على حياة الآخرين، إلا فيما يتعلق بالأحداث والمواقف التي كان لها أثرها على شخصيته ومسار حياته، ولا شك أن هناك أشكالا وصورا كثيرة للسيرة الذاتية يمكن أن تنطبق عليها هذه الشروط التي أشار إليها لوجون، ومنها: المذكرات، والسيرة، والرواية الشخصية، وقصيدة السيرة الذاتية، واليوميات، والرسم الذاتي أو المقالة، على أن أهم شرطين يجب الالتزام بهما في الكتابة السيرية كما يرى لوجون هما: تطابق المؤلف والسارد وتطابق السارد والشخصية الرئيسية.

ولم يرُقْ هذا التعريف بطبيعة الحال كثيرا من الباحثين، بسبب تضييقه نطاق الكتابة السيرية، وإغلاقه الباب أمام كثير من التجارب ومنعها من الانتساب لهذا الفن، ورأى هؤلاء ضرورة التوسع في مفهوم السيرة الذاتية؛ فمن وجهة نظرهم ليس هناك شكل معين للسيرة الذاتية يمكن اختياره أو تفضيله على أشكال أخرى، ولا يُشتَرط التطابق التام بين صوت المؤلف وصوت السارد كما ذهب إلى ذلك لوجون، فمن الجائز لديهم أن تكون السيرة الذاتية على شكل قصيدة أو رواية أو مسرحية أو مقالة أو أي صيغة كتابية أخرى، شريطة أن يقصد المؤلف فيها بشكل ضمني أو صريح إلى رواية حياته وعرض أفكاره أو رسم إحساسه، وفي هذا المعنى يقول نابيرو: تترك السيرة الذاتية مكانا واسعا للاستيهام، ومن يكتبها ليس ملزما ألبتة بأن يكون دقيقا حول الأحداث كما هو الشأن في المذكرات، أو بأن يقول الحقيقة المطلقة كما هو الشأن في الاعترافات.

وربما نشأ نتيجة هذا الجدل مصطلحات جديدة تحاول استيعاب هذا الخلاف مثل مصطلح: (التخييل الذاتي) الذي يحتفي بالتخييل بدرجة أكبر من التوثيق، ومصطلح (كتابة الحياة) و(سرود الحياة) لوصف النصوص السير ذاتية التي تحتفي بالجوانب التوثيقية بدرجة كبيرة، ومهما يكن من اختلاف حتمي وضروري حول أشكال السيرة الذاتية وأساليبها، فإن الشيء المشترك بين تلك الأشكال جميعا، هو أنها تحكي قصة شخص ما له وجوده وتجربته الواقعية، وتعتمد على التذكر واسترجاع الأحداث الماضية بإدراك ووعي وانتقائية، وليس كما هو الحال في شريط السينما الذي يحشد الصور ويجمع الأحداث التي وقعت للذات.

وقد ميز جورج ماي بين ثلاثة أنماط للسيرة الذاتية، وهي:

1- إخبار المرء عما شاهده (عمل الرحالة) مشاهدات.

2- إخبار المرء عما فعله (رجل السياسة) أفعال.

3- إخبار المرء عما كان عليه (عمل الأديب) أحوال. (انظر: جورج ماي: السيرة الذاتية، تعريب: د. محمد القاضي ود. عبد الله الصولة، رؤية للنشر والتوزيع)

واعتُبر النمطان الأول والثاني من باب المذكرات، أما النمط الثالث فهو يدخل في باب السيرة الذاتية، وعليه، فإن السيرة الذاتية عبارة عن عمل فني يجمع بين الخيال والحقيقة وتستند إلى أحداث واقعية، على العكس من كتابة اليوميات والاعترافات، التي تعتمد بالأساس على رصد الواقع بصورة حرفية وصادقة، على أنه يجب أن يلاحظ أن التصنيف الحدي للأجناس الأدبية على هذا النحو أمر مُضِرٌّ بالأدب وغير ممكن في الوقت ذاته؛ فهناك انفتاح واضح من الرواية على الشعر والسيرة والمسرحية، وهناك انفتاح بالمثل من الشعر والمسرحية على غيرهما من الأجناس الأدبية الأخرى، وتعد السيرة الذاتية أكثر الأشكال الأدبية انفتاحا على غيرها من الأجناس، فلا يوجد شكل واحد أو صيغة محددة يُلزِم الكاتب بها نفسه لتسجيل أحداث حياته، فقد تكون السيرة على شكل اعترافات، أو على شكل مذكرات يومية، أو في قالب قصصي، كما أن مؤلف السيرة الذاتية بإمكانه أن يُضمِّن سيرته الأشعار والحكم والمواقف السياسية التي تتمحور حول شخصية المؤلف في النهاية، أو تكشف لنا عن طبيعته ومكنوناته الفكرية والثقافية.

عتبات النص:

اختار المؤلف عنوانا رئيسا لهذه السيرة الحافلة هو (نقوش على الحجر) وهذه المفردة لها أكثر من دلالة بحسب وضعها المعجمي؛ حيث تعني: الأثر الباقي الذي لا يُمحَى بسهولة، كما أن من معانيها: الزينة والحلية والتطريز، وتعني كذلك الحفر على الحجر أو المعدن، وقد دارت أحداث هذه السيرة ومعظم مواقفها حول هذه المعاني والدلالات؛ فالمواقف التي مر بها السارد أو المؤلف ظلت عالقة بذهنه لم تفارقه ولم تبرحه، فهي محفورة في الذاكرة كالحفر والنقش على الصخر، وكيف لا ووراء كل موقف قصة لا تنسى ولا يُمحى أثرها من الذاكرة بسهولة؟ وأمام صلابة الكاتب وقدرته على التعامل مع تلك المواقف تُوِّجت مساعيه في نهاية المطاف – بفضل الله ثم بالصبر والمثابرة والعمل الدؤوب – بالنجاح والتوفيق، فكانت تاجا ووساما وزينة ومدعاة للفخر والتباهي يسعى صاحبها لتسجيلها ونشرها عبر هذه المدونة، وهي في نهاية المطاف تشبه اللوحة الجميلة التي صاغتها يد فنان صَنَاع فجاءت على هذا النحو من الإبداع والتفرد، وآثر المؤلف استعمال صيغة الجمع على صيغة المفرد التي يؤثرها كثير من الكتاب؛ فقد واجه خلال رحلته الممتدة تحديات كثيرة ومصاعب جمة لا تفي صيغة المفرد بالتعبير عنها، وقد تحمَّلها الكاتب بكل جلد وشجاعة ولم يختلق لنفسه الأعذار والتبريرات للكسل والتراخي وعدم الإنجاز، ليؤكد أن النجاح ليس وليد الصدفة ولا ضربة حظ أبدا، ولكنه نتيجة مجاهدات طويلة ومعاناة حقيقية، وأسفل العنوان الرئيس جاء هذا العنوان الفرعي (سيرة ومسيرة) تأكيدا على أن هذه الأحداث – التي ربما تكون غير مألوفة وأقرب إلى الخيال – هي أحداث حقيقية وواقعية بالفعل، لا مجال للخيال ولا أثر للصنعة فيها، وأن بطلها بشر من لحم ودم، رغم ولادته على هذا النحو استطاع أن يصنع ما يشبه المعجزات؛ إنها سيرة واضحة المعالم، وخطوات قطعها المؤلف خطوة خطة، وأحداث حقيقية أبطالها والمشاركون فيها معروفون بالاسم، وطريق طويلة قرر أن يمضي فيها وهو لا يعرف نهايتها ولا إلى أين يسير، لكنه كان على يقين أن الله سيكلؤه ويرعاه ويوفقه في هذا المسير، وقد تخطى العقبات والعراقيل التي وُضعت في طريقه وكُلِّل سعيه في نهاية المطاف بالنجاح والتوفيق، بعد أن رسم لنفسه مسارا واضحا واختط لها مسيرة منظمة، لا ينقصها التخطيط والتنظيم والإعداد والأخذ بالأسباب، وهو ما أوصله إلى بر الأمان، متوجا بالإنجازات والمناصب والنجاحات العديدة، التي تضاءلت بجوارها كل صور المعاناة والعراقيل والآلام التي واجهها طوال حياته.

أما صورة الغلاف التي تُصمَّم عادة لتواكب النص المكتوب وتعبر عنه بما تملكه الصورة من إمكانات بصرية ورمزية ودلالية هائلة – وقد يكون المؤلف مشاركا في اختيارها – فكان الغالب على خلفية الغلاف هو اللون الأصفر بما يمثله من توهج وإشراق ونورانية وإيجابية؛ فاللون الأصفر قوي عنيف حاد إلى درجة تمكنه أن يكون ثاقبا أو رحبا وباهرا كتدفق معدن في حالة الذوبان، والأصفر هو اللون الأكثر دفئا وبوحا وتأججا واتقادا بين الألوان، يصعب إخماده أو تخفيفه، ويتجاوز دائما الطوق الذي يتوخى احتواءه، حيث تخترق أشعة الشمس زرقة السماء مظهرة قدرة عجيبة، كما يرمز الأصفر على العكس من ذلك أيضا إلى الحزن والألم والزوال والشيخوخة لارتباطه بالخريف والحصاد، ولا غرو في ذلك فالتجربة التي يقدمها رضا عبد السلام امتزج فيها الفرح بالحزن والنجاح بالألم والمعاناة والإنجاز وتقلد المناصب بقرب انتهاء الرحلة، وقد توسطت الغلاف صورة كبيرة للمؤلف ذات ملامح حادة وقوية وشديدة الوضوح وهو ممسك بالقلم بأسنانه، بصورة تعكس إصراره وتحديه للظروف المحيطة، برزت فيها بوضوح تلك اليد القصيرة أو الضامرة التي كانت – في الظاهر – محنة وابتلاء ونقطة ضعف، لكنها في الحقيقة كانت سببا في هذا التميز وهذا النجاح الكبير الذي أحرزه المؤلف، لذلك كان الحرص على إظهارها وعدم إخفائها؛ فهي مدعاة للفخر والتباهي لا سبب في الخجل والانكسار، وأمام هذا الوجه بقسماته الواضحة ونظرة عينيه النافذتين تظهر صورة الميكروفون وهو أداة نقل الصوت والرأي للآخرين، وهو ما يوحي بأن صاحب هذه الصورة وهذه الملامح الذي يقف خلف الميكروفون لديه ما يقوله وما يستحق الاستماع له، وكأنه يقول من خلال هذه الصورة التعبيرية: عندي ما أقوله لكم فأعيروني سمعكم وأنصتوا لما أقول! (انظر: كلود عبيد: الألوان دورها تصنيفها مصادرها رمزيتها ودلالتها، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1، 2013م، ص 110 وما بعدها)

 

سيرة ملحمية حافلة:

وقد صُدِّرت السيرة بمقدمة مهمة كتبها الدكتور عمرو شريف يجب على القارئ أن يبدأ بها إذا أراد التفاعل معها بصورة صحيحة؛ فقد كان الدكتور عمرو ملازما تقريبا للكاتب طوال فترة تحضيره وإعداده لكتابة هذه السيرة؛ فهو قارئه الأول ومستشاره الأمين وصاحب بصمة واضحة في تقسيم فصول السيرة وخروجها على هذا النحو، وهو يعتبر هذا العمل بحق عملا ملحميا وإن كانت الأعمال الملحمية يغلب عليها الصراع مع القدر وعدم الرضا عن الواقع وعجز الإنسان عن مسايرة المكتوب والمقدر، بينما قامت هذه السيرة الملحمية في الأساس على التسليم والرضا التام بقضاء الله وقدره، فهي ملحمة من نوع آخر ملحمة في الصبر والرضا والتغلب على الظروف الاجتماعية والنفسية المختلفة. (انظر المقدمة التي كتبها دكتور شريف عمرو: ص 14)

وقد وضع الدكتور عمرو شريف يده على عدد من المفاتيح المهمة التي تنير الطريق للقارئ غير المتمرس على قراءة هذا النوع من الكتابة، ومنها: إيثار الكاتب للأسلوب الأدبي والشعري، واعتماده على الصدق والصراحة في تصوير مشاعره وأحاسيسه، ونظرته المتعمقة والدقيقة والفاحصة للأشياء، وقدرته على التحليل وتشريح النفس البشرية، وإلمامه بالواقع والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها، والتحلي بالموضوعية في سرد الأحداث التي مر بها، وقدرة الكاتب على نسيان ما تعرض له من ضغوط وتساميه وترفعه وتجاوزه عن المثبطين والساخرين.

أما عن دوافع المؤلف لتدوين هذه السيرة، فقد ذكر في المقدمة عدة أسباب منها: أن صاحب هذه السيرة يمثل حالة إنسانية مختلفة وفريدة من حيث الطبيعة، ومن حيث الظروف والأحوال والمواقف التي واجهها؛ وهي مختلفة لأن صاحبها وُلد بدون ذراعين وهو ابتلاء قابلته الأسرة – رغم فداحته – بالتسليم والرضا، وترتب على هذا الابتلاء احتكاك المؤلف بأصناف ونماذج مختلفة من البشر؛ قسم منهم كانوا نعم العون والسند كالوالدين والإخوة والأهل وكثير من المدرسين والزملاء، وقسم آخر مثبط وساخر يضع العراقيل في طريقه ويثني عزيمته بكل السبل، ومن تلك الأسباب أيضا: أن يتعلم الناس – كل الناس – أن الإنسان مهما كان ضعفه وعجزه وإعاقته فإنه قادر بالإيمان بالله وبالإرادة وبالثقة بالنفس على أن يضع قدمه على طريق النجاح، يقول رضا عبد السلام: “وما أقسى نظرة العجز التي يصوبها من ملأ العجز كيانه ولم يدرك أن العجز في نظرته تلك، كثيرا ما كنت أشفق على من كان يفعل هذا لأنه ساقط الإنسانية ومحروم من المشاعر قليل العقل خالي القلب، وكثيرا ما كنت أنفجر فيه لأقتل فيه معنى الغفلة وأثبت بهذا الانفجار حقي في الحياة، لكن هيهات لمن مات حسه أن تعيده صرخة أو انفجار” (انظر: نقوش على الحجر: ص 35)

واختار رضا عبد السلام أن يروي قصة حياته في صورة الذكريات، وهذا الشكل أقرب إلى التوثيق وتقديم شهادة صادقة وحقيقية عن الشخص والأحداث التي عاصرها خلال رحلته، وقسَّم سيرته إلى ثلاثة أجزاء رئيسة: الجزء الأول وعنوانه (سنوات الميلاد وصناعة الأمل) تحدث فيه عن نشأته وذكرياته في القرية وميلاده ومراحل تعليمه المختلفة منذ التحاقه بالمدرسة الابتدائية وحتى حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة طنطا، وهو أطول أجزاء السيرة إذ يشغل أكثر من نصفها تقريبا، ويغلب عليه الطابع القصصي واللغة الشعرية والاستطراد والرصد الدقيق وتحليل المواقف والأشخاص والقدرة على التذكر فقد ذكر العديد من الأشخاص المعروفين الذين عاصرهم وربطته بهم علاقة زمالة أو دراسة والعديد من الأحداث والمواقف التي حدثت له معهم، وكثيرا ما يستشهد بالقرآن الكريم والشعر والحكم والمأثورات التي كانت ملهمة له طوال حياته ومسيرته، وكان لها فضل في توجيهه وإلهاب حماسته. (انظر: نقوش على الحجر، صفحات من 43 حتى 254)

أما الجزء الثاني من السيرة فعنوانه (وهل دانت له الثمار؟) فخصصه للحديث عن رحلته مع الإذاعة التي بدأت منذ الصغر؛ حيث كان للوالد أكبر الأثر في هذا التوجه من خلال إدمانه على الاستماع للقرآن الكريم بأصوات كبار القراء، كما كان رضا بطبعه ينجذب للأصوات الجميلة، ويتعلق قلبه بالقرآن وأهله منذ نعومة أظفاره، خاصة وقد وجد في القرب من الله الملاذ والأمن والطمأنينة التامة، وفي هذا الجزء تحدث عما أسماه بمعركة الالتحاق بالإذاعة وغيرها من المواقف المهمة في حياته؛ وحقا هي معركة حيث كان يتحكم في اختيار المذيعين بعض السطحيين والتافهين الذي لا يرون في المذيع والمذيعة سوى صورة لا أكثر ولا أقل، وقد انتهى به المطاف بعد معارك ومحاولات عديدة أن يجتاز اختبارات الإذاعة ليصبح واحدا من ألمع المذيعين في الإذاعة المصرية، وكان صاحب الفضل في التحاقه بالإذاعة هو الإذاعي القدير الأستاذ حلمي البلك، وهناك العديد من الحكايات المتعلقة بعمله في الإذاعة وغيرها، أحيل القارئ إليها في مواضعها من السيرة، وهي شديدة الأهمية وتكشف عن عقليات كثير من البشر ونفوسهم.

وأما الجزء الثالث والأخير وعنوانه (حياتي وفكري) فيلقي الضوء على رحلته مع القرآن الكريم التي بدأت منذ وقت مبكر، كما يلقي الضوء على تأملاته في كتاب الله، وعشقه للأدب والشعر منذ الصغر، وافتتانه بالشيخ محمد الغزالي وقراءته المتأنية والمتفحصة لمعظم كتاباته، وهو جزء مهم لأنه يسلط الضوء على الخلفية المعرفية للكاتب، واختتم رضا عبد السلام سيرته الذاتية بالحديث عن أسرته، وهذا الجزء أقرب إلى التأملات والحنين إلى الماضي وتلخيص أهم ما ذكره عبر صفحات السيرة بصورة مكثفة، وتذكر دور الوالدين والزوجة والأصدقاء الدائم والكبير في حياته الذي بفضله وصل إلى ما وصل إليه.

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: