بهاء طاهر: الكاتب والموقف والمُنجَز!

 بقلم أ.د. وجيه يعقوب السيد – أستاذ النقد الأدبي بكلية الألسن جامعة عين شمس قسم اللغة العربية
 بينما كان الأدباء والمثقفون يودِّعون الكاتب الكبير بهاء طاهر إلى رحاب مولاه، وتتوالى كلمات الثناء والإشادة المستحقة بالكاتب وبمنجزه المهم في الكتابة الروائية والقصة القصيرة، وبدوره في الحياة الثقافية والأدبية عموما، خرجت علينا إحدى الكاتبات بتصريحات مثيرة للجدل، من خلال تدوينة لها على صفحتها على الفيس بوك؛ تصف فيها الكاتب الكبير بأنه كان صاحب موهبة عادية، وأننا لو جاملناه لقلنا: إنه روائي متوسط الموهبة، زاعمة أنه كان يمثل كابوسا لكُتَّاب جيلها، وأنه استحل لنفسه جوائز كثيرة مُغتصبة ممن كانوا أحق بها منه، وما حدث بعد ذلك أن بعض المثقفين تورطوا في الرد على الكاتبة بطريقة تدين المثقفين عموما، وتظهرهم في مظهر العنف والإرهاب الفكري الذي لا يقبل أصحابه بالرأي والرأي الآخر، وعلى المستوى الشخصي لم تعجبني تلك الردود التي بدلا من أن تفند كلام الكاتبة وتدحضه بالوثائق والبراهين الدامغة، اقتحمت الحياة الشخصية للكاتبة ونعتتها بأبشع الصفات، فلو جاز أن يحدث ذلك بين عوام الناس – وهو غير جائز بالطبع – لكان من الواجب على المثقفين أن يترفعوا عن هذا الأسلوب، ويلقنوا خصومهم درسا في الأدب من خلال الردود العلمية والعقلانية التي تنسف مزاعمهم وتبطل حججهم، تماما كما كان يصنع الراحل العزيز بهاء طاهر في محاوراته وردوده على مخالفيه.
والحقيقة التي نعرفها جميعا هي أن فكرة الإنسان الكامل والمثالي لا وجود لها إلا في أذهاننا وتصوراتنا؛ فالبشرية في جوهرها تتنافى مع مبدأ الكمال، وإن كنا مطالبين دوما بالارتقاء والسعي للاقتراب من الكمال، لذلك يجب أن ننأى بأنفسنا عن تقديم صورة زائفة أو مبالغ فيها لشخص ما، مهما بلغ حبنا له وإعجابنا به، وأن نحرص على تسجيل مواطن القوة ومواطن الضعف البشري لديه، وفي هذه المقالة القصيرة سأحاول تطبيق ذلك من خلال تناول حياة الكاتب الكبير بهاء طاهر وسيرته الذاتية، وسمات أسلوبه، وآراء النقاد فيه، مراعيا بطبيعة الحال الأجواء الاحتفالية، التي يجب أن تليق بوداع كاتب كبير ترك بصمة واضحة وفراغا حقيقيا في حياتنا الفكرية والأدبية برحيله.
بهاء طاهر: الإنسان والموقف!
يكاد يُجمع نقاد الأدب والمثقفون ومحبو بهاء طاهر على أنه كان أديبا من طراز فريد؛ فقد امتاز طوال رحلة عطائه بالهدوء الشديد والتواضع والنبل والتسامح مع الآخر وبدعمه للشباب، وفي الوقت ذاته اتسمت مواقفه بالصلابة والقوة خاصة فيما يتعلق بمسألة الديموقراطية وحرية الرأي والإبداع والمواطنة والدولة المدنية، فعلى الرغم من معاناته في بدايات حياته لم يُعرف عنه أنه اتخذ من أدبه وسيلة للتكسب والتزلف من هذا أو ذاك مهما كلفه ذلك، ففي وقت من الأوقات كانت الكتابة في الصحف هي مصدر رزقه الوحيد، وبسبب آرائه ومواقفه مُنع من الكتابة في جميع الصحف المصرية في زمن السادات، وكان الأديب الكبير يوسف السباعي وقتها هو المسؤول عن وزارة الثقافة، وكانت المجلة الوحيدة التي تستقبل مقالاته هي مجلة روز اليوسف كما حكى هو في أكثر من لقاء، لكن هذا المنبر الوحيد لم يستمر في نشر مقالاته بعد أن جاءته تعليمات بتضييق الخناق عليه؛ فكان مسؤول التحرير – على غير ما جرت عليه العادة – ينشر مقالة بهاء طاهر مشفوعة بتعقيب من المحرر على أية فكرة لا تتفق مع سياسة المجلة؛ فكان بذلك يشوه المقال ويسيء إلى كاتبه، وأحس بهاء طاهر بالحرج والإهانة فتوقف عن الكتابة تماما في المجلة رغم حاجته الشديدة للمال في ذلك الوقت، ليعطي بذلك درسا للأجيال والمثقفين في ضرورة الحفاظ على مبادئهم وثوابتهم وكرامتهم، وأن الكتابة الجادة والحقيقية رسالة وموقف وليست وسيلة للتكسب والمهادنة، وأن الكاتب إذا فرط في ذلك فهو لا يستحق هذا الشرف، وقد استعار بهاء طاهر عبارة الكاتب الكبير فتحي غانم ليعبر عن هذا المعنى؛ يقول فتحي غانم على لسان أحد أبطال رواياته: ما الذي أبغيه؟ هل أريد أن أقنع نفسي بأني أفهم ما يجب أن يفهمه الإنسان عن الظلم والعدل، ولكن ما الفائدة؟ إن المطلوب ليس الأفكار، إن الأفكار ليست كل شيء، بل قد لا يكون لها قيمة على الإطلاق بلا تصرف وعمل. (انظر: بهاء طاهر: فتحي غانم الحياة في الرواية، مجلة إبداع، العدد 4، أبريل 1996م)
وربما، لهذه الأسباب غادر بهاء طاهر مصر منذ عام 1976 ليعمل في منظمات دولية، ويشتغل بالترجمة الحرة بعيدا عن هيمنة المؤسسات والأفراد؛ وهو ما ضمن له السيطرة والتحكم فيما يكتب، وعدم الخضوع لابتزاز أحد، وعدم الإكثار والإسهاب في الكتابة على حساب الإجادة والإتقان، وتقديم رؤيته الخاصة، وكثيرا ما توقف النقاد أمام شخصه ومنجزه الأدبي مازجين بينهما؛ فلا فرق بين الوقوف عند شخصية بهاء طاهر لاستكناه تجربته وسبر أغوارها، أو دراسة إبداعه وتجربته لاستخلاص ومعرفة مواقفه وطبيعة شخصيته. يرى الناقد الكبير الدكتور صبري حافظ أن الاحتفاء بمنجز بهاء طاهر ومواقفه واجب على المثقفين، لأنه من الكتاب القلائل الذين رفضوا احتواء المؤسسات الفاسدة، وترفعوا عن تلويث أقلامهم بالكلام المغشوش والأفكار المغرضة، ونأوا بأنفسهم عن مواطن الشبهات، واعتصموا بشرف الكلمة ومسؤولية الكاتب في إنارة الدرب أمام أمته، كلما اشتدت حلكة اليأس وانتشر الخلط والتخليط، وبهاء طاهر – كما يرى صبري حافظ – كان من هذه القلة القليلة القابضة على الجمر في مصر، والتي تعي أهمية الحفاظ على كرامة الكاتب وشرف الكلمة، فقد حرص منذ بواكير حياته الأدبية على استقلال الكاتب وكسب المصداقية للكتابة الجادة والناصعة. (انظر: صبري حافظ: بهاء طاهر الكاتب والموقف ونقطة نور، مجلة الهلال، العدد 10، أكتوبر 2003م)
وقد أشاد كثير من النقاد والأدباء بمواقف بهاء طاهر وإنسانيته وبمنجزه الروائي، وقدموا عددا من الدراسات النقدية حول أعماله، ومن بينهم: محمد محمود عبد الرازق، ومحمود أمين العالم، ومحمد بدوي، وصبري حافظ، واعتدال عثمان، وعلي الراعي، ونعيم عطية، ووفاء إبراهيم، ومحمود عبد الوهاب، وشاكر عبد الحميد، ومصطفى بيومي، وعبد الرحمن أبو عوف وغيرهم، ولا يمكن أن يجتمع هؤلاء على محاباة بهاء طاهر، أو يكون بهاء طاهر قد اشترى مواقفهم كما زعمت الكاتبة صاحبة الرأي المثير للجدل الذي أشرنا إليه في بداية المقال. وصف الأستاذ محمود أمين العالم بهاء طاهر بأنه قيمة كبيرة ومهمة في حياتنا الأدبية والثقافية، وقال عنه الأستاذ محمود عبد الوهاب: إن نقاد بهاء طاهر متفقون على تفرد موهبته الإبداعية، وعمق ثقافته، وجدة رؤاه وعصريتها، وقدرتها على احتواء أعمق صور الكشف، من الأبعاد الميتافيزيقية حينا، والاجتماعية في معظم الأحيان، لمشكلة الإنسان المعاصر، وتقول الأستاذة اعتدال عثمان: بهاء طاهر كاتب كبير له رصيده الفني على امتداد الساحة الأدبية العربية، وله إضافات جديدة لم يألفها القارئ العربي؛ حيث تجمع أعماله بين متعة المعرفة وتحليق الخيال، والصدق الفني وبراعة امتلاك فنون السرد العميق والسلس معا، الذي ينساب في بساطة وتلقائية، محملا بتدفق الأحداث ووهج المشاعر الإنسانية المتداخلة. (انظر: مجلة البيان الكويتية، العدد 316، نوفمبر 1996م، ومجلة أدب ونقد، العدد 17، نوفمبر 1985م، ومجلة الشارقة الثقافية، العدد 6، أبريل 2017م)
وفي الترجمة الوافية التي كتبها الدكتور محمد بدوي عن بهاء طاهر، يستطيع القارئ أن يقف على مسيرة الكاتب الإبداعية والشخصية؛ وهي سيرة حافلة وثرية ومليئة بالإنجازات، لم يهتم بهاء طاهر خلالها بالظهور الكثير والمتكرر أو الإكثار من النشر، وإنما كانت تكفيه إطلالة عابرة ولكنها مؤثرة للغاية، يعبر من خلالها عن وجهة نظره في الأحداث، ويرصد فيها التغيرات بعين الخبير والمتابع الذي لا تغيب عنه التفاصيل، ويمكن الرجوع إلى ما كتبه الدكتور محمد بدوي في هذا الصدد، لنرى حجم ما قدمه بهاء طاهر للحياة الثقافية والأدبية في مصر، وللكتابة القصصية بشكل خاص، وربما كانت هذه الترجمة هي أكبر رد على الزاعمين بأن بهاء طاهر لم يكن كاتبا موهوبا، وأنه انتزع الجوائز لنفسه بدون وجه حق، وأنه حاز هذه المكانة السامقة، وقُدِّمت عنه هذه الدراسات النقدية، عن طريق علاقاته الشخصية، وغير ذلك من الكلام المرسل الذي لا دليل عليه إطلاقا، بل أكبر الظن عندي أن وراءه دوافع شخصية واختلافات أيديولوجية. (انظر: محمد بدوي: بهاء طاهر، قاموس الأدب العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015م، ص 156)
بهاء طاهر: ومنجزه الأدبي!
ولنترك الحديث عن بهاء طاهر الإنسان والموقف قليلا لنتوقف أمام منجزه الأدبي، وهو ما يعنينا من الكاتب – أي كاتب – في المقام الأول؛ ورأيي الشخصي الذي لا أحيد عنه أبدا هو أن ما يربط الكاتب بقارئه أو العقد الذي يجمعهما هو الإبداع لا حياة الكاتب الشخصية؛ فالحياة الخاصة للأديب وتصرفاته وأحواله المتناقضة وضعفه البشري وعجزه وانتماءاته الفكرية وغير ذلك يجب أن تكون بمنأى عن نظرتنا وتقييمنا للعمل الأدبي، وفي المقابل يجب ألا تظهر أيديولوجية الكاتب بصورة فجة ودعائية وإنما في ثوب أدبي، لا يعنيني أن يكون أحمد شوقي ملتزما بما يقول أو غير ملتزم، ولا يعنيني إن كان العقاد صاحب دين وتقوى أو أنه ليس من أهلهما، يعنيني ما قدمه شوقي والعقاد من إبداع وحسب؛ هل انتقص مثلا من قيمة أفكار المفكر الكبير جان جاك روسو، ما ذكره بنفسه في اعترافاته عن إقامته علاقة غير شرعية مع خادمته، وإنجابه منها، ثم إيداعه هذا الطفل في ملجأ للقطاء، بعد إقناعه لتلك الخادمة المسكينة بذلك، حرصا على مكانته، وخوفا من الفضيحة؟ لقد بقيت أفكاره وكتاباته السياسية والاجتماعية والأدبية ملهمة لمئات الأدباء في شتى بقاع الأرض، أما سلوكياته فهي تخصه وحده وهو يتحمل نتيجتها، وربما نحتاج نحن في عالمنا العربي إلى هذا الفصل بين موقف الكاتب وأيديولوجيته وحياته الخاصة من جانب، وبين كتاباته وما يقدمه من أفكار وآراء ووجهات نظر من جانب آخر، وهنا تكون المعركة، ويكون النزال، ويكون الرفض والتأييد، والانتصار لهذا الرأي أو ذاك، على أن يكون ذلك كله وفق منهج ورؤية، لا بحسب الأهواء والانتماءات وتصفية الحسابات!
وأول ما يمكن ملاحظته في مسيرة بهاء طاهر الإبداعية الممتدة؛ أنه كان صاحب ثقافة موسوعية؛ حيث درس التاريخ والموسيقى واللغة الإنجليزية، وكان قارئا نهما للرواية العربية والأجنبية، وهو ما جعله يعي طبيعة الفن الروائي، ويُفرِّق بين الإبداع والوعظ والدعاية، وبين الرواية والحدوتة، بين المبنى الحكائي والمتن الحكائي كما يقول البنيويون. وللأستاذ بهاء طاهر كتاب بديع للغاية عنوانه: في مديح الرواية، يستطيع القارئ أن يعرف من خلاله رأي الكاتب في كثير من القضايا الأدبية والسياسية والاجتماعية، ورأيه في أعمال كثير من الكتاب والمبدعين، كما يلمس من خلاله تعاطفه الشديد مع جيل الشباب وتفهمه لطبيعة العصر ومتغيراته، والرواية عند بهاء طاهر – كما يقول في مقدمة هذا الكتاب – ليست منشورا سياسيا، ولا دعوة للإصلاح الاجتماعي، ولا وصفة لعلاج الأخلاق أو النفس، كما أن الروائي ليس مطالبا بتقديم إجابات عن الأسئلة التي يُضني بها الفلاسفة أنفسهم ويشقَون في بحثها، وإن كانت الرواية تشمل شيئا من ذلك كله وتتجاوزه في الوقت نفسه، ولا شك أن تأثيرها أبقى، لأنه أبطأ وأكثر نفاذا إلى النفس، ويستشهد بهاء طاهر في هذا الصدد برأي الأديب الفرنسي الكبير أندريه مالرو مؤلف رواية الطريق الملكي الذي كان في بداية حياته ماركسيا؛ حيث انتقد السياسي المعروف ليو تروتسكي روايته تلك، لأنها لم تلتزم بالتفسير الماركسي للتاريخ وتحليل الواقع، فأجابه أندريه مالرو قائلا: إن رؤيتي للحياة روائية؛ أي تتجاوز أفق السياسة المحدودة إلى آفاق أرحب، وهكذا يجب أن تكون رؤية الروائي والفنان عموما؛ فهو لا يقدم وعظا، ولا يعبر عن رؤية سياسية أو حزبية ضيقة، وإن كان بمقدوره أن يعبر عن كل ذلك ولكن بطريقة روائية وفنية، وربما نشأ كثير من الجدل واللغط حول الأعمال الفنية بسبب عدم تفرقة القارئ بين الرواية كبناء فني له فلسفته ومنطقه الخاص والحكاية كما هي في الواقع، وأنا أحيل القارئ إلى دراسة كتبها أحد الأساتذة الجامعيين من غير أهل التخصص عن نجيب محفوظ عنوانها: نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب، ليرى هذا الخلط والمغالطات وعدم الفهم الدقيق؛ وهو ما ورط الباحث في أحكام شديدة الغرابة والتطرف وبعيدة كل البعد عن روح النقد باختلاف مناهجه وتياراته. (انظر: بهاء طاهر: في مديح الرواية قراءة لروايات وروائيين، دار الشروق، 2018م، ص 6)
وقد ساعدت نشأة بهاء طاهر الخاصة، وتكوينه الفكري المميز، وعمله في قطاعات كثيرة ومتنوعة: كالعمل في الإذاعة والإخراج المسرحي والترجمة والصحافة والمنظمات الدولية، على اتساع رؤيته ونظرته إلى المشترك الإنساني وقبول الآخر؛ فبدا بهاء طاهر في كثير من كتاباته خاصة المتأخرة مهموما بقضايا الهوية الإنسانية، والعلاقة بالآخر، ووحدة مصائر البشر وهم يواجهون الصعاب، وبسبب عيشه في الغرب تحررت رؤيته ونظرته للآخر من هذه النظرة المتطرفة الأحادية، التي تحصر الفضائل في طرف، وتجرد منها طرفا آخر، وتنأى عن مديح الذات أو تحقيرها، كما يتعاطف بهاء طاهر مع الضحايا ويقدمهم في صورة فلسفية، لا تجعلهم نتاج القهر والتسلط والفقر المادي والروحي فقط، بل هم أبناء قدر غير مفهوم ومصائر ملتبسة، ومع هذا فإن شخوصه لا تتوقف عن المحاولة والتحدي والبحث عن الهوية والذات والحب. (انظر: محمد بدوي: بهاء طاهر، قاموس الأدب العربي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015م، ص 157)
لقد كان بهاء طاهر حريصا في كل ما يقدمه للقارئ على أن يكتب رواية فنية حقيقية، بغضِّ النظر عن تصنيف النقاد وتقسيماتهم للأعمال الإبداعية؛ فهو لا يعنيه أن تُصنَّف رواياته على أنها كلاسيكية أو حداثية، أو أنها توافق هذا المذهب أو ذاك، وفي الحقيقة يجب ألا ينشغل الروائي كثيرا بهذه التسميات، كما يجب على النقاد الجادين أن يبحثوا في كنه العمل الأدبي وجوهره، وألا ينشغلوا بحشد هذه المصطلحات واستعراضها، إظهارا لسعة اطلاعهم وثقافتهم ومواكبتهم للجديد؛ فموضوع الرواية هو الذي يستدعي الطريقة التي يجب على الكاتب أن يختارها؛ اختار نجيب محفوظ مثلا الشكل الكلاسيكي في الثلاثية، لأنه رأى أن هذا الشكل هو الأنسب للتعبير عن الأجيال المتعاقبة، ووصفِ الحياة والأحداث الرتيبة بصورة سكونية، واختار طريقة تيار الوعي والتداعي الحر في اللص والكلاب وغيرها من الروايات النفسية، لأنها أكثر قدرة على كشف جوانيات الشخصية، ومفاجأة القارئ ومزج الواقع بالحلم، كما استخدم منظور الراوي العليم والراوي غير العليم والراوي المتعدد وغير ذلك من التقنيات الفنية المعروفة، وهو لم يفعل ذلك ليواكب هذا الاتجاه أو المذهب، وإنما استجابة لطبيعة الموضوع والحبكة القصصية المناسبة لموضوع القصة.
وقد عالج بهاء طاهر في رواياته العديد من الموضوعات الإشكالية التي لا يكاد يخلو عمل من أعماله منها، ولعل هذا هو أهم ما يميزه عن غيره من الكتاب؛ ومن ذلك إبرازه لمسألة التعارض بين الشرق والغرب، والعلاقة بالآخر إجمالا، ودور السلطة بمعناها الواسع: سلطة الأب وسلطة التراث والسلطة السياسية في إجهاض الأحلام، ومن ثم لا تخلو أعماله من صورة من صور الموت، سواء الموت بشكله العياني الفعلي الجسدي أو بشكله الرمزي الاستعاري الإيمائي؛ فالإنسان يموت موتا حقيقيا حين ينتهي أجله، أو موتا رمزيا بغياب العدل والحرية والجمال والصدق وحضور القمع والبطش والظلم، والظاهرتان بارزتان في أدب بهاء طاهر بصورة واضحة، وقد تناول الدكتور شاكر عبد الحميد رحمه الله هذه الظاهرة باستفاضة في دراسة مطولة له بعنوان: الموت والحلم في عالم بهاء طاهر، ذكر فيها أن حضور طائر الموت يتبعه دوما حضور طائر الحلم، الذي يحاول التغلب عليه لكنه ينهزم ويستسلم في نهاية الأمر أمام السلطة بمعناها الواسع والشامل، يقول شاكر عبد الحميد: تلك روح تنتشر في أعمال بهاء طاهر كافة، روح لا تكف عن التساؤل والتطلع والاستكشاف، روح قلقة حائرة محيرة مربكة مرتبكة، توترها دائم وسعيها إلى اليقين لا يَريم، تساؤلات الموت والحياة والظلم والعدالة هي تساؤلاتها الكبرى، وهي تساؤلات بلا إجابات غالبا، وتترك علامات استفهام ملغزة ومحيرة. (انظر: د. شاكر عبد الحميد: الموت والحلم في عالم بهاء طاهر، مجلة فصول، مصر، العدد 2، أبريل 1993م)
والمتابع لرحلة بهاء طاهر الإبداعية، يستطيع أن يرصد عددا من التطورات التي أضافها أو أبرزها في تقنيات الكتابة؛ من ذلك أن كتاباته الأولى قد اتسمت بمظهر واقعي واضح، سواء في رسم ملامح الشخصيات، وفي تعاملها مع التفاصيل الدقيقة واقترابها من أنفاس البشر، وفي بناء الحدث والاقتراب الحميم من منابع الحياة في اضطرابها وجريانها، وفي أسلوب الحوار ووصف الأمكنة وبناء الزمن، لكن هذا المظهر الواقعي لم يكن سوى وسيلة ظاهرية تتخذ مادتها من الواقع، لكنها ذات أبعاد رمزية وإيحائية. (انظر: د. محمد عبيد الله: عالم بهاء طاهر، ديوان العرب، موقع إلكتروني، 1 أكتوبر 2005م)
كما تتجلى مظاهر التجديد والحداثة عند بهاء طاهر في استعماله اللغة على نحو مختلف؛ فلغته بالغة الدقة والاقتصاد، وتمتاز بالصرامة البنائية مع الابتعاد عن المجاز والزخرفة اللفظية، مع حذر شديد من بروز ذات الكاتب؛ ولا شك أن الاقتصاد في اللغة سيخلص الرواية من الحشو والزيادة والترهل وإضفاء صبغة شعرية على السرد، كما أن خفوت صوت المؤلف سينأى بالرواية عن المباشرة والوعظ، وسيتيح للشخصيات التعبير عن نفسها وفق منطق السرد لا كما يريد الكاتب، وبذلك يكون بهاء طاهر قد جمع بين البساطة وحيادية النبرة والاقتصاد في استعمال اللغة.
ويشير صبري حافظ إلى سمة من سمات بهاء طاهر وطابع يبدو متكررا في كثير من كتاباته؛ وهو تعبيره عن الأحداث بصورة غرائبية تشبه الكابوس المفزع، ولكنه يقدمه بألفة عادية إلى أقصى حد، وكأنما ليس فيه ما يثير الدهشة أو ما يدعو إلى الاستهجان؛ فهي غرابة حميمة يألفها القارئ، وتُحوِّل الكابوس فيه إلى طقس من طقوس الحياة المألوفة، إذ لم يعد الكابوس وليد مواصفات عارضة، أو ابن أحداث غير عادية، كما أنه ليس شيئا موقوتا يسهل احتماله وتجاوزه بعد حين، لكنه شيء راسخ وأبدي ويجب على القارئ أن يوطن نفسه على التعايش معه. (انظر: محمد بدوي قاموس الأدب العربي الحديث، ومحمود عبد الوهاب: قراءة في قصص بهاء طاهر القصيرة، مجلة أدب ونقد: العدد 17، نوفمبر 1985م، وصبري حافظ: بهاء طاهر وعالم البراءة، مجلة الآداب، بيروت، يوليو 1975م)
وربما استطاع بهاء طاهر تحقيق هذا الإنجاز على المستوى الأسلوبي والكتابي، لأنه لم يكن من الكتاب المكثرين الذين يهتمون بإصدار أعمال متتابعة، ولكنه كان كاتبا مقلا شحيح الإنتاج، لا يعرف ذلك النوع من الإسهال في الكتابة الذي يستهوي الكثير من أقرانه، بل يحاسب نفسه بصرامة شديدة، ويأخذ فنه مأخذ الجد بصورة واضحة، وقد أتاح له ذلك كما يقول صبري حافظ فرصة واسعة لتجريب قلمه وإنضاج أدواته، واتسمت قصصه بدرجة كبيرة من الجودة والإتقان؛ فهي من الناحية الفنية تكشف عن بناء من طراز فريد، له أسلوبه المتميز وطريقته الخاصة في البناء والتعبير، لا يعمد إلى الألاعيب الشكلية والحيل الباهرة، ولكنه يميل إلى الرصانة وإلى البناء التقليدي الراسخ، وهي من الناحية المضمونية تكشف عن بصيرة واعية وخبرة عميقة بالشخصية المصرية، واللغة عند بهاء طاهر شديدة الحساسية لحالة الشخصية؛ فقد استطاع أن يستعمل اللغة العادية الخالية من كل زخرف، وهذا الأسلوب التعبيري المباشر جزء من منهج فني في التناول، يعمد فيه الكاتب إلى أن يكون عين كاميرا حساسة محايدة لا تنفعل، لا تُجمِّل الواقع ولا تشوهه، لا تضيف إليه ولا تتكهن بما في داخله، تقدمه وحده عبر الزوايا التي تجعله أكثر نطقا وأكثر تمكنا، من أن يضيء في أعماق القارئ القدرة على اكتشاف نفسه وواقعه بصورة أكبر، ومن ثم على تغييرهما، وربما استفاد بهاء طاهر في ذلك من المدرسة السلوكية في علم النفس كما يرى الناقد. (صبري حافظ: بهاء طاهر وعالم البراءة، مجلة الآداب، بيروت، يوليو 1975م)
رحم الله الأديب الكبير بهاء طاهر، وعزاؤنا أن الأديب والعالم والمفكر لا يموتون، بل يعيشون فينا من خلال إبداعاتهم ونتاجهم، وأنتهز هذه الفرصة لأدعو الباحثين الجادين إلى الانكباب على أعمال بهاء طاهر ودراستها دراسة علمية جادة، تظهر ما فيها من تميز وإبداع وتفرد!

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: