من عبق الماضي – الحلقة الأولى: من القرية إلى القرية – البدء والمنتهى

بقلم: د. وجيه يعقوب السيد – كلية الألسن – جامعة عين شمس

غادرتُ القرية وأنا في الثامنة عشرة من عمري لمواصلة دراستي في القاهرة في جامعة عين شمس، لكنها تأبى أن تغادرني لحظة واحدة؛ أتذكرها بكل تفاصيلها وأحن إليها في كل وقت، بل وأعلِّق كل سعادة مؤجلة أو مشروع ناجح على عودتي إليها يوما ما. أتذكر حواريها وأزقتها ومسجديها الكبيرين اللذين كانا يُحدِّدان بداية القرية ونهايتها تقريبا، وساحات اللعب والمقاهي الكثيرة المنتشرة في كل حارة؛ حيث كانت بديلا عن الأندية وأماكن الترفيه واللهو في ذلك الوقت، وأتذكر الأصدقاء وزملاء الدراسة وأصحاب الأيادي البيضاء الذين ساندوني ودعموني وقدَّموا لي كل ما في وسعهم، بل وأتذكر بكل محبة وامتنان مواقف الشغب والطِّيش التي فرضتها علينا الحياة في الريف وبكارة التجربة وطزاجتها وسذاجتنا الفطرية!

في شارع البحر القديم الذي كان يتوسط قريتي (قرية الفروسات) إحدى قرى مركز المنزلة محافظة الدقهلية كان يقع بيتنا الصغير والبسيط، وهو عبارة عن طابقين مبنيين بالطوب الأحمر، بكل طابق ثلاث غرف وصالة صغيرة ومطبخ وحمَّام، في الطابق الأرضي غرفة الجلوس التي يُستَقبل فيها الضيوف عادة في الأعياد والمناسبات، ولذلك كانت دائما نظيفة ومعطرة استعدادا لأي زيارة طارئة، وغرفة واسعة للأولاد الصغار الذين كنتُ أحدهم: يعقوب رحمة الله عليه وأنا وعبد الستار وعز الدين، وكانت مفروشة بالكِلِيم والحصير وبها طاولات صغيرة لا تتسع الطاولة لأكثر من فرد، وبجوارها غرفة الوالدين رحمة الله عليهما، وكان لهذه الغرفة هيبة واحترام غير عاديين، لا نستطيع الاقتراب منها سواء كان الوالدان بداخلها أو غير موجودين بها، فلا ندخلها إلا باستئذان، أو عندما يُطلَب منا إحضارُ شيء منها، وأما الطابق العلوي فكان للإخوة الكبار: السيد ومحمد وناصر، لكل واحد منهم غرفة مستقلة وحياة مستقلة نسبيا، وقد تبدّلت الأدوار والأماكن تبعا لتغير المواقف والأحداث فيما بعد فالتحق السكان الأرضيون وارتقوا للعيش في الدور الأعلى، وكانت العلاقة بين ساكني الطابق الأعلى والطابق الأرضي علاقة تحكُّم وإرشاد وتوجيه بطبيعة الحال؛ فمَن كان سعيد الحظ وجاء إلى الدنيا قبل أخيه كان من حقه أن يأمر ويوجه ويطلب ويعاتب، فميلاده قبلك بيوم أو حتى بدقائق يمنحه هذا الحق بلا شك، ألا يقول المثل: أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة! لكن ذلك كان يتم في غالب الأحيان بدافع المحبة والأخوة وشعور الأخ تجاه أخيه بالمسؤولية، وتارة كان يتم بالعين الحمراء وبحكم القوة الممنوحة للكبير: عليك أيها الولد الصغير أن تُذاكر وتأخذ بالك من دروسك أكثر، وعليك أن تُحضر لي هذه الأشياء التي أحتاج إليها في التو والحال، وإياك أن تسهر فعندك مدرسة غدا، بينما يسهر هو على راحته وربما كنا في نفس المدرسة ولكن في صفوف مختلفة، ولم يكن الصغار يواجهون هذا الأمر باستسلام ورضوخ في كل الأوقات، فقد كانت لديهم أسلحة فعالة بل فتاكة تُجنِّبهم هذا الانبطاح وهذا الاستسلام؛ ومن تلك الأسلحة وأقواها التهديد بالوشاية وكشف المستور للوالدين إذا زاد الأمر عن حده، وما بين شد وجذب مضت الحياة على أفضل ما يكون؛ كانت حياة جميلة وصاخبة ورائعة حقا وإن اعترتها بعض لحظات الطيش والتهور، لا تتوقف فيها الأحداثُ لحظة، ولا يمكن توقع ما يحدث أو التنبؤ به، وكيف تتوقع أحداث بيت يقطنه سبعة من الأبناء الذكور في أعمار مختلفة، لدى كل واحد منهم عالم قائم بذاته بل عوالم مجهولة وخفية لا يعلمها إلا الله؟ خاصة أن الوالد رحمة الله عليه – لكي يُوفِّر لهم حياة كريمة – سافر إلى إحدى المحافظات البعيدة ليلتحق بالعمل في إحدى شركات القطاع العام، تاركا مسؤولية تربيتهم بالكامل لأم شديدة الطيبة والشفقة على أبنائها، لكنها رغم ذلك – أو بسبب ذلك – كانت شديدة الصرامة والحزم، لا تتسامح مع الأخطاء والهفوات المتكررة كما هو حال الأب الذي يزورنا كل شهر مرة، خاصة إذا ترتَّب على هذه الأخطاء مشكلاتٌ جسيمةٌ لا تقدر على مواجهتها في غياب الزوج، كثيرا ما أقول لنفسي: هذه هي الحياة حقا: ضجيج ولعب ومغامرات وكفاح وطموح بلا حدود.

ولئن فرَّقتنا الطوابق والأعمار والصحبة والاهتمامات آنذاك، فقد كانت هناك مُسلَّمات وأشياء تجمعنا لم نختلف حولها قط؛ كانت تجمعنا مائدة طعام واحدة فلا نتناول وجبة الغداء إلا مجتمعين، وكنا ننتظر المتأخر حتى يحضر ونُوسِعه لوما وعتابا إنْ عضَّنا الجوع، وكنا جميعا نشعر بالرضى والامتنان للوالدين وما يقومان به من مجهود غير عادي من أجل تربيتنا وإسعادنا، كما كنا جميعا نُشجِّع النادي الأهلي ونتابع مبارياته مهما كانت الواجبات التي تنتظرنا، وكان ذلك مما يغيظ أمي رحمة الله عليها ويُغضِبها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقضي معظم وقتها في إعداد الطعام وغسل الملابس، لكنها – إلى جانب ذلك – كانت تتابعنا في الدراسة، وتعتبر نجاحنا وتفوقنا في الدراسة تحديا تثبت من خلاله أنها جديرة وقادرة على تحمل المسؤولية، أذكر أنها رحمة الله عليها كانت تجلس معنا على طبلية الطعام، وهي تُمسِك بعصا صغيرة تهش بها على صغارها لكي يواصلوا مذاكرة دروسهم، وكان النوم يغلبها بعد يوم عمل شاق ومُضْنٍ وهي لا تزال مُمسِكة بعصاها، ومن وقت لآخر تفتح عينيها وتنظر إلينا وتقول: ذاكرْ يا ولد أنت وهو، ثم تروح في سبات عميق، وكنا نضج بالضحك ونحن نشاهدها مستسلمة للنوم تماما! لذلك لم يكن من السهولة عليها أن تتركنا نتحلق حول التلفزيون لمشاهدة مباراة للأهلي أو لغير الأهلي ونترك واجباتنا المقدسة، لكن محاولاتها تلك كانت تبوء بالفشل، فقد كان من الصعب أن يصرفنا عن تشجيع الأهلي مذاكرة أو غير مذاكرة، وأخيرا تتركنا وتمضي إلى حال سبيلها يائسة وهي تتمتم قائلة: طيب إلهي الأهلي يتغلب! لكن الأهلي كان يفوز، وكنا نستبشر بدعوتها ونمزح معها ونقول لها عند كل مباراة: بالله عليك يا أمي تعالي ادعي على الأهلي لأن المباراة صعبة هذا اليوم، فتبتسم وتتركنا نستمتع بهذه الدقائق رغما عنها رحمة الله عليها!

كان أبي رحمة الله عليه رجلا مسؤولا بمعنى الكلمة؛ يَعِي دور الأب والقدوة في حياة أبنائه، فكان مصدر أمان واطمئنان لنا جميعا، كما كان مصدرَ فخر واعتزاز لا حدود له، لم نقابل أحدا يعرفه خارج القرية أو داخلها – في حياته أو بعد موته – إلا وراح يُثْنِي عليه وعلى أخلاقه، ويقص علينا من نوادره ومواقفه النبيلة وحِلمه وطهارة يده وعفته رحمة الله عليه، وعلى الرغم من أنه لم يُكمل دراسته فقد كان مثقفا وواعيا وملما بالأحداث التاريخية والسياسية المهمة ومتحدثا بارعا، كنتُ أنتظر قُدومَه من السفر بفارغ الصبر في آخر كل شهر لأستمع إلى معين قصصه وحكاياته التي لا تنضب، وكان رحمة الله عليه يملك أسلوبا ممتازا ومشوقا، وقدرة مدهشة وغير عادية على الحكي واستنباط العبرة وضرب الأمثال، فلا يُمَلُّ من الاستماع إليه أبدا، لا أظن أن أحدا منا قد ورث هذه الملكة عنه، ولم يكن الغرض من تلك الحكايات والطرائف التي يقصها علينا التسلية وحسب، بل كان ينشد من ورائها أن يلفت أنظارنا إلى أمر من الأمور أو يبث فينا خلقا من الأخلاق الكريمة؛ فهو ليس معنا كل الوقت لكي يتابعنا ويبصِّرنا بعواقب الأمور، لذلك كانت حكاياته تلك بديلا عن هذا الحضور الدائم، أذكر أنني كنت في زيارة لعمي الدكتور زين الخريبي رحمة الله عليه وهو ابن خال والدي، وكان أستاذا للأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة فرع بني سويف، وله أياد بيضاء علي سأذكرها فيما بعد بإذن الله تعالى، ودار حديث مطول بيننا في أمور شتى، وبطبيعة الحال تركَّز جزء من الحوار حول أبي رحمة الله عليه وعصاميته وكفاحه وألمعيته، وقال لي بالحرف: لقد كنا نجلس مع والدك ونحن الحاصلون على الدكتوراه، وقد طفنا العالم شرقه وغربه، وحضرنا ندوات ومؤتمرات، فكان يبهرنا بحديثه وثقافته وقدرته على الإقناع، ولم نكن نستطيع أن نجاريه في ذلك! وأضاف: لو كان قُدِّر لأبيك أن يُكمل تعليمه لكان له شأن آخر، رحمة الله عليهما وعلى أمواتنا جميعا.

في وجود أبي وحضوره كنا نشعر جميعا بالأمان التام، فقد كان يغمرنا بمحبته ونصحه وتقديم المساعدة لنا، وعندما نواجه بعض العقبات كان يُذلِّلها أمامنا بمنتهى السهولة واليسر، فمهما كان حجم المشكلة التي تواجهك يُوجِد لها الحل الناجع في جلسة واحدة؛ فقد كان يملك من الحكمة ورجاحة العقل والخبرة ما يجعله يهتدي إلى الرأي السديد، أذكر أنني عندما كنتُ في الصف الرابع الابتدائي صدر قرار من وزارة التربية والتعليم يسمح بانتقال التلاميذ المتفوقين من الصف الرابع إلى الصف السادس مباشرة، ولما كان ترتيبي الأول على الفصل فرحتُ بهذا الخبر جدا، وحدَّثتُه برغبتي في أن أختصر الوقت وأنتقل إلى الصف السادس كما صنع بعض زملائي، لكنه رفض هذه الفكرة تماما، وتوسَّط لي عنده بعض أساتذتي وحاولوا إقناعه بالعدول عن رأيه لكنه رفض ذلك رفضا قاطعا؛ فقد كان رأيه أنَّ تدرُّجَ التلميذ في سنوات التعليم المختلفة يعود عليه بالنفع بلا شك، ويساهم في تأسيسه وتكوينه العلمي بصورة صحيحة، قال لي وهو يحاول إقناعي بوجهة نظره ويطيب خاطري: هل تظن يا بني أن الوزارة بخبرائها حين جعلوا سنوات الدراسة ست سنوات كانوا على خطأ، وأنهم اكتشفوا فجأة هذا الخطأ وأرادوا تصويبه؟ ولم أملك في النهاية إلا الاستجابة لرأيه، فقد كان يملك من قوة الإقناع والحجة ما يجعلك تتقبل الأمر بمنتهى الرضا، كما أنني منذ الصغر وأنا حريص على إرضائه وعدم إغضابه لأي سبب من الأسباب.

عندما أقارن الآن – وأنا في هذا العمر – وعي أبي وما كان يقوم به تجاهنا وما أقوم أنا به مثلا تجاه أبنائي أجد فرقا شاسعا؛ فعلى سبيل المثال كان أبي – ذلك الرجل البسيط – يحرص على اصطحابنا إلى الطبيب كلَّ ستة أشهر، وإجراء التحاليل اللازمة لنا للاطمئنان على صحتنا، وكان مبدأ العقاب بالضرب مرفوضا عنده تماما إلا في حالات استثنائية ونادرة، وإذا أرادتْ أمي معاقبة أحدنا ليلا نهاها عن ذلك ومنعها، حتى لا ينام الطفل حزينا ومنكسرا وربما تأتيه الكوابيس في نومه، وكان ينصحنا بممارسة الرياضة والمشي باستمرار، وكانت له حكمة مأثورة يرددها أمامنا باستمرار وهي: من قصر حزامه طال عمره ومن طال حزامه قصر عمره، وكان رجلا وطنيا حتى النخاع، لم يكن يُفوِّت فرصة أو مناسبة إلا ويقص علينا فيها شيئا من تاريخ مصر وعظمة هذا البلد، غرس فينا الثقة بالنفس، وحب الخير، والإيمان بالعمل، وصلة الرحم، واحترام العلم وأهله، وكل شيء جميل.

كان أبي رحمة الله عليه رجلا جميلا بكل ما تعنيه الكلمة؛ لا يحمل في قلبه حقدا أو ضغينة لأحد، ولا يسعى إلا في الخير، لا يغتاب أحدا ولا يخوض في عرض أحد، لم أسمعه يتفوه بكلمة نابية قط طوال حياته في غضب أو رضا، وكان رحمة الله عليه وصولا لرحمه، يقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام ليزور أقاربه ويتفقَّد أحوالهم، وكان قلبه عامرا بالرحمة بكل صورها، كثيرا ما كنتُ أتعجب حينما أشاهده في الشارع وهو يهش للأطفال ويلعب معهم ويداعبهم وكأنه طفل مثلهم، وعندما كنا نعاتبه ونسأله عن ذلك، كان يخبرنا بأن هؤلاء أيتام، وأنه يريد أن يُدخِل السرور إلى قلوبهم؛ لأنه نشأ يتيما، ولا يُحِس باليتيم إلا من عاش نفس ظروفه، لذلك لم أندهش عندما رأيت عددا كبيرا من هؤلاء الأطفال يمشون في جنازته ويبكون بحرقة وكأنهم يبكون أباهم، رحمة الله عليك يا أبي، وأنزلك منازل الصديقين والأبرار.

كانت علاقتي بأبي علاقة صداقة من نوع خاص، وكنتُ أستشيره في كل أمر أخطط له في المستقبل، ولا أجد حرجا في أن أبوح له بمشاعري تجاه هذا الشخص أو ذاك، وكان رحمه الله ينصحني بما يراه صوابا، كما كان دائم التشجيع لي ويبدي سعادته بكل ما أكتب، بل ويبالغ في إظهار فرحته وفخره بكتابتي، وربما كان ذلك ليُعزِّز لدي الثقة في نفسي، وعندما عُيِّنت معيدا بالجامعة كانت فرحته لا تُوصَف، وكم كنتُ أتمنى لو يطول به العمر قليلا ليتابع مسيرة ابنه – الذي يرى في أبيه المثل والقدوة – وهو يسير في الطريق التي كان يحب له أن يسير فيها، لكنه رحل كومضة دون سابق إنذار، رحل ونحن في أَمَسِّ الحاجة إليه وإلى حكمته وعطفه ووارف محبته. مات أبي حقيقة قبل موته ببضع سنوات؛ مات بعد نبأ استشهاد أخي يعقوب المفاجئ وهو يؤدي الخدمة العسكرية، فكان ذلك قاصمة الظهر، وانكسر تماما ورأيت الانكسار في وجهه بعد وفاة أمي رفيقة دربه ليرحل بعدها بأسابيع قليلة، رحمة الله عليهما وأسكنهما الفردوس الأعلى من الجنة، وجمعنا بهما في مستقر رحمته.

أما أمي رحمة الله عليها؛ فقد كانت بالنسبة لنا السماءَ التي تُظِلنا ونحتمي بها، والأرضَ الصلبة التي نقف عليها بقدمين ثابتتين في وجه الشدائد، وهي الشمس والقمر والنجوم التي نرنو إليها كل ليلة لننعم بدفئها وجمال محياها، كانت منبعا لا يَغِيض من الحنان والحب والتفاني والعطاء، حياتُها محصورة في أبنائها وزوجها وبيتها، يكفي أن ترى ملامح السعادة على وجوههم لينشرح صدرها، وتملأ المكان دعاء وتسبيحا وشكرا لله على عظيم نِعَمه، لم تكن رحمة الله عليها تجيد التحدث والقص كما كان والدي رحمة الله عليه، لكنها كانت تجيد الفعل وتُتقِن العمل أيما إتقان، كانت تقضي وقتها كله في أعمال المنزل ومتابعة أبنائها، وكانت منتبهة ومتيقظة جدا لكل تَغيُّر قد يطرأ عليهم، لأنها تقوم بدور الأب والأم معا، تربية وتوجيها وإدارة لشؤون المنزل باقتدار؛ تتابعنا في مدارسنا، وتسأل المدرسين عن مستوانا وسلوكنا، ولا يغمض لها جَفنٌ إنْ أصاب أحدَنا تعبٌ أو مرضٌ، وعندما كنا نتشاجر ونتصارع ويدب الخلاف بيننا كانت تقف لنا بالمرصاد لتحول دون تطور النزاع بين الإخوة، ولأنني كنتُ طفلا مشاغبا جدا، فقد شابَ علاقَتنا في تلك المرحلة شيء من التوتر؛ فما أكثر ما كان الجيران أو الزملاء أو سكان القرية يطرقون باب بيتنا ليشكوني لها، تارة بسبب كسري زجاج نافذتهم في أثناء اللعب، وتارة لأنني ضربت أحد زملائي فأحدثت به إصابات، أو كسرت مصباحا كان يضيء الشارع وأنا أصطاد العصافير بالنِّبْلة، فكانت أمي لا تتسامح في هذه التجاوزات، وتضطر لمعاقبتي سواء بالمنع من الخروج، أو منع المصروف عني، أو الضرب أحيانا إنْ لزم الأمر، وسبحان الله الهادي، فما بين عشية وضحاها، وقد استغرق هذا الأمر وقتا غير قليل، أصبحتُ أكره هذه المشاحنات وهذا العقاب، ولا أحب إغضاب الوالدة المسكينة المتكرر، وحدثتْ تحولات مهمة في حياتي أعزو بعضها إلى الصحبة الطيبة، التي كانت خير معين لي على نبذ هذا السلوك وهذا الشغب وهذه التصرفات، كما يرجع جزء كبير منها إلى طبيعة شخصيتي والنضج الذي حدث فيها، وقد اكتشفت أن هذه التصرفات الحمقاء لا تناسبني ولا تتفق إطلاقا مع شخصيتي الحقيقية، أذكر أن الأستاذ حسني السعدني رحمة الله عليه وكان يدرس لي مادة المواد الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا) في الصف الخامس الابتدائي، وكان من أقرب المدرسين إلى قلبي ومات صغيرا رحمة الله عليه وكانت لي معه ذكريات كثيرة، دخل الفصل فوجدني أمسك بمقبض مقشة وأتشاجر مع زميل معروف بالشغب ففض الشجار وشرح الدرس وبعد انتهاء الحصة انفرد بي وقال: أنت أشطر طالب عندي، وهذا الطريق والسلوك لا يليق بك، وفكرت طويلا في كلامه فيما بعد وحاولت بكل ما أملك أن أثبت له ولنفسي أنني جدير بهذا الكلام، رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته.

ومع مرور الوقت صرت شابا مطيعا مستقيما لا تصدر عنه إساءة لأحد، ولم يعد مصدرَ شكوى الجيران ولا الأصدقاء ولا المدرسة، بل تغيَّر الموقف تماما، وأصبحت في نظر هؤلاء شخصا مسالما طيبا بعيدا عن المشاكل، ومن ذلك الوقت تغيرتْ علاقتي بأمي تماما، ولم أعد أغضبها ولو بمجرد كلمة، بل صرت أحرص على إرضائها بكل السبل، وسبحان مغير الأحوال!

عانت أمي كثيرا طوال حياتها القصيرة بسبب الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقها، وفي أخريات حياتها – وبسبب مضاعفات مرض السكري والانزلاق الغضروفي وغيرها من الأمراض – باتت غير قادرة على العمل، وعلى الرغم من ذلك كانت تحاول جاهدة مواصلة خدمة أسرتها الكبيرة التي لم تعرف غيرها بقدر ما تستطيع، لكنها في نهاية المطاف كشأن كل محارب شريف لم تستطع مواصلة القتال؛ وكان عليها أن تُعلن الاستسلام وتحط الرحال راضية غير ساخطة ولا متبرمة، كنا جميعا حولها وبجوارها وقت مرضها نرجو لها الشفاء والسلامة، فقد كانت أهم أركان هذا البيت، لكنها إرادة الله وقضاؤه ولطفه وعظيم فضله؛ حيث خَفَّف عنها ولم يُطِل فترة معاناتها، ورحلتْ إلى خير جوار بعد أن أدَّت رسالتها تجاه بيتها وزوجها وأبنائها على أكمل وجه.

رحلتْ أمي إلى جوار ربها وخلَّفتْ بقلبي آلاما وأحزانا بحجم الكون، وتركتْ فراغا لم يستطع أحد أن يملأه رغم وجود عشرات الأحبة حولي يرجون لي السعادة من كل قلوبهم، ولستُ أشك لحظة في محبتهم الصادقة وأمنياتهم الطيبة وعظيم إخلاصهم، هناك جِراح قد تندمل بمرور الوقت، ويتعافى منها المرء رويدا رويدا، وهناك آلام تتسع وتزداد يوما بعد يوم، يصعب علينا وصفها مهما كانت قدرتنا على البيان والإفصاح، كانت أمي بوصلتي التي أضبط على نبرة صوتها الحنون ونظرة عينيها الصافيتين تصرفاتي ومسلكي في الحياة؛ فمن خلالهما أعرف إنْ كانت راضية أو غاضبة، سعيدة أو مهمومة، وحين فقدتُ هذه البوصلة ترنحت واضطربت كثيرا، لكنها أقدار الله التي نَرْضَى بها على كل حال، وسنة الحياة التي تُخضعنا وتُمضِي إرادتَها ولا نملك نحن إخضاعها، أو حتى التخفيف من وطأتها!

لا أنسى ما حييت هذا المشهد المؤلم؛ حيث اتفقنا بعد مشاورات عائلية أن نتوجَّه بها إلى القاهرة بعد أن فشل العلاج في القرية بسبب أخطاء وضعف الأطباء الذين قاموا على علاجها، وذهبنا بها إلى مستشفى الدمرداش بواسطة أحد الأساتذة الكبار في أمراض الجهاز الهضمي بجامعة عين شمس، وما أن تحرَّكت بنا السيارة مُغادِرة الشارع الذي يقع فيه بيتنا حتى استدارت بالكامل لتُلقِي نظرة طويلة وذات مغزى على البيت، لعلها كانت نظرة وداع أو نظرة عتاب أو نظرة استعطاف، وكأنها تقول بدون أن تتكلم: دعوني أموت هنا في هذا البيت الذي أسَّستُه حجرا حجرا، وكان شاهدا على كفاحي وإخلاصي واحتضاني لأولادي وأحلامهم، كانت عيناها تقولان الكثير وقد فهمناه، لكنَّ الألم الذي كان يهدها كان يُحتِّم علينا أن نلتمس لها الشفاء والراحة في أي مكان، كانت تجربة نقلها للمستشفى مريرة للغاية تستحق أن تُروَى، وسوف أحاول في الحلقات القادمة أن أعرضها ضمن هذه السلسلة بإذن الله تعالى، لما فيها من العبرة والعظة وجميل أقدار الله تعالى ولطفه!

في هذه القرية الجميلة عشتُ سنواتي الأولى وتشكلت شخصيتي ووجداني وخصالي التي لازمتني طوال عمري، وفي هذه الأسرة الطيبة البسيطة نشأت وتعلمت كل شيء جميل في حياتي، وأنا أشعر بالامتنان العظيم لله عز وجل الذي هيَّأ لي هذه البيئة وأخذ بيدي في كل خطوة أخطوها، وعن هذه المسيرة المتواضعة أستنشق وأسترجع هذا النسيم وهذا العبق عبر هذه الصفحات، عسى أن يكون مُعِينا ومُلهِما لي على الصبر ومواصلة السير فيما تبقى من العمر، ويا له من شوط صعب بل هو أصعب الأشواط التي قطعتُها جميعا فاللهم حسن الختام، وسوف أردد مع الإمام الشافعي العظيم رضي الله عنه:

سهرتْ أعينٌ ونامتْ عيونُ ** في أمورٍ تكون أو لا تكونُ

فادْرَأِ الهَمَّ ما استطعتَ عن النفــ ** ــس فحِمْلانُك الهُمومَ جنونُ

إنَّ ربا كفاك بالأمس ما كان ** سيكفيك في غد ما يكون!

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: