نزار قباني   …… قصيدة الجسد وجسد القصيدة

نزار قباني   ...... قصيدة الجسد وجسد القصيدة

د. أحمد فرحات

باتت قصيدة نزار (ألف أهواه) من القصائد التي تتغنى بها فتيات ونساء عشاق شعر نزار، حتى من عشق صوت الغناء العربي الحنون، وقد بدأت القصيدة بعدد غير قليل من الاستفهامات التي تعبر عن حالة الحيرة والقلق، واضطراب النفس الإنسانية إزاء معضلة كبرى تتعرض لها فتيات هذا الزمن، وغيرخفي أن القصيدة جاءت على لسان فتاة من أولها إلى آخرها، في محاولة من الشاعر لسبر أغوار العالم الأنثوي وكشف خباياه الدفينة في أعماق النفس الإنسانية، تلك النفس التي لها جانبان: الفجور أو التقوى، وبينهما تتردد الذات الإنسانية صعودا وهبوطا حتى تقر وتصفو. فمن المعروف عن طبيعة الأنثى أنها سريعة التقلب في مشاعرها، وعواطفها.

نعود إلى توظيف الاستفهام عند نزار في قصيدته ألف أهواه فلم تكن مسافة  الاستفهام على مساحة الرقعة الشعرية إلا أداة فنية يجيدها نزار في كثير من أشعاره، فالاستفهام هنا” لا يطرح أسلئته المتعددة المتنوعة بشكل متتابع مما يؤكد أنه لا ينتظر ردودا، وإنما يجسد عبر تساؤلاته حيرة وقلقا شديدين( )”؛ وإنما يأتي نتيجة لإمكانات هذا الأسلوب من ناحية وقدرة الشاعر على استخدامه استخداما فنيا، وتوظيفه في السياق توظيفا جيدا من ناحية أخرى ومن ثم وجدنا نزارا يبدأ قصيدته باستفهامات متتالية متتابعة بواسطة أدوات واضحة (ماذا –مرتين- كيف) وهما أدوات استفهام تطرح عددا من الأسئلة المتضمنة عددا آخر من الأسئلة . فالسؤال في البيت الأول ينصبُّ على القول، (ماذا أقول له) وفيه إيهام بالإجابة من ناحية ومن ناحية أخرى، فيه حوار دفين بين الذات المعذبة الحائرة وبين الحبيب الحاضر الغائب، فالحوار هنا حوار نفسي، ينم عن قلق وحيرة واضطراب نفسي نتيجة المفاجأة التي فرضها مجيء الحبيب بعد انقطاع دام طويلا . فأصبحت عبارة (ماذا أقول له) عبارة محورية يقوم الاستفهام على أساسها، فوقع المفاجأة شديد على عالمها النفسي الرحب، وعلى تكوينها الأنثوي المحب له.

وتكون اللغة شديدة التكثيف والتركيز لو أن كل كلمة أدت معناها وظلال معانيها المختلفة، وفهم من معناها أكثر من مدلول، هنا تكون اللغة قد أدت دورها على أكمل وجه، ومن ثم جاءت كلمة(لو) في البيت الأول بمثابة الحلم الذي بدأت ترسم خطاه تلك الفتاة ، فهي تحلم به إذا جاء يسألها إن كانت هي مازالت محافظة على حبها السابق له أم أنها تنتقم لكبريائها وترفضه في لحظة من لحظات الضعف الذكوري؟ ومن خلال اطلاعنا على المعنى اللغوي للأداة(لو) نستطيع أن نقول إنها حرف امتناع لامتناع؛ أي أنها تفيد وجود فعلين أساسيين: الأول يطلق النحاة عليه فعل الشرط، والآخر يطلقون عليه جواب الشرط، وبعيدا عن اختلاف النحاة وتعدد آرائهم في جواز امتناع الثاني لامتناع الأول، أو امتناع الأول لامتناع الثاني، فالحاصل أن المرأة التي بدأت سؤالها(ماذا أقول له) هو جواب الشرط المقدم، وأن فعله (جاء يسألني)، وهنا نجد أن الجواب عبارة عن سؤال، وهو يحمل من الحيرة والقلق ما يحمل، فياترى أيكون الجواب نفيا أم إثباتا؟ وهل هي تحبه ؟ أم تكرهه؟ ويظل الجواب معلقا، ولا إجابة تريح المتلقي. والمقصود من المبدع هنا أن  ينشأ بين القارئ والمرأة التي تسأل علاقة ما، تقوم على المغامرة في كشف ما تؤول إليه الإجابة. “فالتساؤل تناقض ورفض ثبات الأشياء، وكشف ما تنطوي عليه من مفارقة لا تتضح إلا بالسؤال( )” .

واستنادا إلى ما تقدم فإن الشاعر لا يعتمد على اللغة بمعناها الحرفي، بل يتجاوز هذه اللغة إلى لغة تتميز بالشحنات العاطفية المفعمة بالإحساس والمشاعر الصادقة، “ومستوى الكلمات مقرونة بدلالتها الوضعية لا يمثل في هذه اللغة سوى درجة واحدة من سلم متعدد الدرجات( )” فعندما يقول نزار على لسان تلك المرأة: ماذا أقول له لو جاء يسألني؟ يتبادر إلى الذهن للتو أنها وقعت في حوار نفسي تجريدي، بينها وبين نفسها، يكون هذا الحوار الضمني قائما على الفعل المضارع (أقول) الدال على التجدد والحدوث والاستمرار، واستحضار الصورة المتمثلة للقول في الخيال مباشرة، فهي تهيء نفسها وتستعد للإجابة عن السؤال الصعب، الذي تخيلت فيه أنها وحدها صاحبة الإجابة عليه، ثم يأتي المضارع الآخر في الشطرة  الأولى (يسألني) بما يحمله من تساؤل صريح واستمرار هذا التساؤل يوحي بعمق الموقف وتأزمه.

تكرار الاستفهام في البيت الثاني يحمل بين طياته الأمنية الصريحة لمجيء المحبوب، وقبول اعتذاره، والمؤانسة به، واستعذاب حركاته وسكانته، وممارسة عاداته القديمة معها، فهي تقف منه موقف الضعيف الذي لا حيلة له أمام روعة حبه، وتسلل يديه برفق شديد تلملم خصلات الشعر الشاردة هنا وهناك، وتجمعها فوق رأسها، والخصلات تأبى إلا الفرار من فوق الرأس والتحرر إلى أمد بعيد، هي لا تعلم أين تستقر تلك الخصلات، إلا مع لمسات يديه اللتين تمران فوق رأسها كلما جمع خصلة هربت أخرى، وتكمن لحظات السعادة والنشوة بينهما عند هذا الحد، فكأنها تساءل نفسها عندئذ ما أستطيع أن أقول له؟ وما عساي أن أفعل، أمام قامته وحبه الذي لا يقاوم.

وتستمر الأفعال المضارعة على مساحة البيت الثاني كله(أقول- يلملم-ترعى)، و”الفعل بطبيعته تجسيد للحركة وللزمنية”( )الفعل الأول(أقول) فاعله المرأة، والفعلان الآخران(يلملم-ترعى) فاعلهما المحبوب، في تجاذب بين الأفعال والفاعلين، هي تعدد الأفعال لتستحضر صورته وهيئته كاملة وهو يقوم بالفعل الذي ترغبه وترتضيه منه، وغير خفي علاقة الفعل بالزمن، فالمضارعان اللذان يقوم بهما المحبوب يسبحان في فضاء المستقبل، وهي لم تقرر بعد أتعلن له الحب والإذعان، أم تعلن له الرفض وعدم القبول؟، ويبدو من استخدام الشاعر للأفعال أنها تعلن الخضوع والطاعة لفعل المحبوب، وتستجيب رغباتها لهذه الأفعال، فما أجمل أن يقف المحبوب أمام ناظريها! يبادلها النظرات، وتتخاطب عيونهما وتتحاور، وإذا مد إليها يدا ليلمس شعرها الأسود تذعن وتخضع لجميع رغباته لأنها موافقة للفعل وأثر الفعل.

وليس من ريب أن لغة الشعر تثير في النفس الإنسانية مكامن دفينة يتجاوب معها الإنسان بقدر مقدرة الشاعر على الغوص وراء الألفاظ التي تؤدي الغرض ولغة الشعر هنا، لغة ” موحية متوترة، وقادرة على الإثارة، ولا تنبثق عن مشكلات الحياة اليومية، وإنما تصدر عن وجدان عميق، والتعبير عن الوجدان يستلزم ألفاظا ذات شحنات نفسية، وشعورية خاصة، قادرة على تصور إحساس الشاعر، وعلى التأثير في نفس القارئ أو السامع، لتحدث إحساسا مماثلا، وتنقل إليه تجربة الشاعر كاملة( )”

وفي البيت الثالث يستمر الاستفهام ملقيا بظلاله على القصيدة حتى الآن، وهو هذه المرة استفهام بواسطة الأداة (كيف)، وهذه الأداة تسأل عن الحال، والاستفهام هنا منصب على كيفية السماح للمحبوب بدنو مقعده منها، وفي القرب هنا إشارة إلى القرب المكاني، وليس القرب الروحاني، عند شعراء الصوفية، وتتجلى في البيت الثاني والثالث إشارة أخرى إلى ذكر أعضاء الجسد، كالأصابع والشعر في البيت الثاني، والخصر والذراع في البيت الثالث، ومن الملاحظ في معجم نزار قباني الشعري أن ذكر أعضاء الجسد في البيتين هدف رمى إليه الشاعر، وهو نوع من أنواع الإغراء الشعري، لأن القصيدة تقال على لسان امرأة وهذا ديدن نزار دائما، شعره في معظمه جسدي، وخاصة عندما يكون على لسان امرأة ليكشف عن مكنون عواطفها الحرى، وليظهر من ناحية أخرى أسلحة المرأة التي تستكين عليها، وهي من هذا المنظور تتظاهر بالقوة، أمام قوة غيرية، متمثلة في قوة الرجل الذكورية، لتتعادل كفتا الميزان، وتبادله قوة بقوة.

ويبدو نزار في البيتين الأولين مستخدما للغة أقرب ما تكون إلى الحقيقة، ولم يكن غياب التعبير الاستعاري القائم على عدم استخدام المجاز في أول القصيدة إلا رؤية فنية أراد لها البروز، لأنه في غالب شعره يستخدم المجاز مطية لأداء جملة من المقاصد، ومن ثم جاء التعبير المجازي (أن تنام على خصري ذرعاه) بمثابة كسر لحدة التعبير الحقيقي، واستشرافا لما يقوم به التعبير المجازي من حمل أفكار ومعاني لم يف بحقها التعبير الحقيقي، وإذا ربطنا ذلك بالتعبير المجازي في البيت الثاني(أصابعه تلملم الليل) أدركنا أهمية كلا التعبيرين في الإضاء بما تشي به التجربة الشعرية لديه.

لملمة الليل عن الشعر، ونوم الذراع على الخصر، صورتان فنيتان عبّر من خلالهما نزار عن مضمون تجربته للمرأة التي تريد أن تظهر جمالها وروعتها وحسنها أمام الرجل الذي تحلم به وبأفعاله معها. وهما صورتان لم تأتيا من مجال بعيد عن عالم المرأة الأثيري، وهما تحملان من المعنى الكثير، فكأنهما بمثابة المعادل الموضوعي للفعل الأنثوي إزاء سحر الرجل عليها.

وفي الأبيات الثلاثة نرى طغيان الاستفهام على الأبيات، كما نلحظ كثرة الأفعال المضارعة(أقول- يسأل- أقول- تلملم-ترعى- أسمح- يدنو- تنام) وذلك لأن المضارع أرحب الأزمنة للدلالة على الحدث والزمن معا. ومن ناحية أخرى “يفيد ضرورة التحول من حالة إلى حالة”( )، وهذا يعني وجود حركية أكثر.

ينتقل نزار بزمن القصيدة إلى مشهد آخر ليؤكد على القصيدة الحلم، وليؤكد أيضا على القرار الذي اتخذته المحبوبة، وهو قرار ناتج عن تفكير عميق استغرق ليلة كاملة، أخذت المحبوبة في صراع نفسي طويل وقاس، ما بين مد وجزر، لذلك جاءت لفظة (غدا) تحمل بين حروفها القصيرة والمنغومة طاقة كبيرة أفضت إلى ذلك القرار الصعب، فغدا إذا جاء المحبوب سيكون هو الأمر الفاصل لإنهاء العلاقة القائمة على التخيل، والتصور، فهي قد حزمت أمرها وأعدت رسائله – وبالتأكيد قرأتها مرات ومرات-التي ستعطيها له، وقد يكون مصيرها من نفس المصير الذي كان ينتابها، إنها النار التي ستتغذى على هذه الرسائل، بعد أن تغذت على أنفاسها المحترقة.

المحبوب لن يقول شيئا سوى كلمة واحدة، (حبيبتي) وهي كلمة فجرت كوامن وحركت سواكن بداخل المحبوبة، فجرت الاستفهامات المتتالية مرة أخرى، ليؤكد على حالة الضياع والحيرة التي سادت في بداية القصيدة، الاستفهام الذي أعقب (حبيبتي) هو استفهام لا يريد جوابا على الرغم من سهولته الظاهرة، وعمق مضمونه، وأداته(هل) التي تتطلب إجابة واضحة ومحددة (نعم –لا ) وفي الإجابة تنبني قضيتها الأم، إما بالرفض أو القبول. ثم تتبع الاستفهام السابق باستفهام جديد يضيف إلى الفكرة عمقا آخر، موصول بالاستفهام الأول بواسطة أحد حروف العطف (الواو)، ومشترك مع الاستفهام السابق في الأداة نفسها(هل). وفي كلا الاستفهامين جامع مشترك يتمثل في الضمير البارز (أنا)في الأول،  والضمير المستتر (أنا) في الثاني، وهذا يلفت الانتباه إلى أن المصدر واحد في كليهما، وغير خفي استخدام المضارع(أصدق) بما يحمله من دعوى الصدق والكذب، فالأمر لديها يمثل قمة التذبذب العاطفي، وانهيار جلي لما يسمى بالاستقرار العاطفي، وقد بلغت الحيرة مدى كبيرا في نفسيتها. مما جعل الاستفهام يتحول إلى نوع آخر، وهو توالي الاستفهامات التقريرية التي تستند إلى أداة النفي (أ+ما –  أ+لم-أ+ما ) ثم أخيرا (كيف).

وليس أشق على النفس الإنسانية من السؤال الحائر الذي لا يعرف إجابة محددة، فتنهار النفس تاركة بقايا الإنسان في صراع مرير مع أدوات الاستفهام التي كانت بمثابة السهام القاتلة الموجهة إلى صدر الذات .

وثمة إشارة طريفة في قوله:

أَمَا كَسَرْنَا كُؤوسَ الحُبِّ مِنْ زَمَنٍ

فَكَيْفَ نَبْكِي عَلَى كَأْسٍ كَسَرْنَاهُ؟

وهي ما يسمى في البلاغة العربية (رد العجز  على الصدر) وما يحمله من إضافة موسيقية وتناغم جلي بين شطري البيت، بالإضافة إلى تفشي حروف الهمس في البيت (السين والكاف) بشكل لافت أربع مرات لحرف السين في مقابل ست مرات لحرف الكاف، والكاف من حروف الشدة (الانفجارية) التي يقصد بها خروج الصوت فجأة في صورة انفجار للهواء عقب احتباسه عند المخرج.  والهمس صفة ناتجة عن عدم اهتزاز الأوتار الصوتية عند النطق بالصوت( ). وإذا أمعنا النظر إلى عجز البيت وصدره فسوف نجد أن البيت محاصر بالكسر في الاول وفي الأخير، وهذا يمثل محوا للوجود وتحطيما للتقاليد البالية، فنحن بأيدينا نحطم سعادتنا ونكسرها، وهي زادنا وملجأنا، ويبدو الاستفهام هذه المرة مقصودا لذاته، فالبيت في كلا شطريه يعتمد الاستفهام اعتمادا كليا، ففي الشطر الأول استفهام تقريري، هي تريد منه اعترافا وتأكيدا لنهاية الحب بينهما، ثم تتساءل في الشطر الثاني فلماذا البكاء والحزن على ما مضى وانكسر؟ إنها تتعجب من أمر ذلك المحبوب وتناجيه مناجاة خاصة ، تكثر فيه من أصوات الهمس وكأنها تهمس في أذنيه، لماذا ؟؟ لماذا؟

رباه.. بداية البيت بالنداء الاستغاثي يعني أن كل الأبواب قد أغلقت، ولم يبق إلا باب المولى عز وجل، فلهثت وراءه؛ فليس لها مفر إلا هو، ولكن ماذا عساها أن تقول لخالقها؟ المرء يلوذ الى خالقه طلبا للنجاة والملاذ، وطلبا للمغفرة والرحمة، لكنها تجأر إلى خالقها بصوت مسموع، إنها تتعذب وتتألم، فهل من خلاص؟؟

إن الأشياء الصغرى التي تركها هنا وهناك التي احتفظت بها ردحا من الزمن، انقلبت عليها، وغدت تؤرقها، وتشعل النيران في أحشائها، وهنا انقلب الحلم إلى واقع، إنها ليست بحاجة إل الحلم الصامت، بل غدت بحاجة إلى الواقع الملموس، ولم لا؟ وكل شيء باق كما هو، لم تغيره حقب الأزمان، فالجريدة كما هي في المكان نفسه، وسجائره تتناثر  على المقاعد، تناديها.. وفي كل مكان أثر من أثاره .. إنه حقيقة ماثلة في أنحاء المكان فليس منه مفر، وليس إلا اليه الملجأ .

يبدو أن الاستفهام هنا استفهام ممتد خلال إطار السطح التركيبي للجملة الشعرية في  الأبيات، وتنبني البنية الشعرية على عنصر الاستفهام، وهو أحد العناصر اللغوية والأسلوبية المكونة للنص، وعليه يقوم النص النزاري، وهو بالحتم يجيد استخدامه وتوظيفه، فلا يكاد يخلو بيت، بل شطر من الاستفهام، منوعا بين الأدوات، والحروف، محركا لكل طاقات الاستفهام اللغوية والفنية لاستنطاق النص الشعري وتحميله بأكبر شحنة عاطفية ممكنة.

ما لي أحدق في المرآة ؟ هنا تعود الأنثى إلى أصلها التكويني والفطري، فإنها تحب المرآة، لأجله؛ لأنها تريد أن تظهر في أبهى صورة تعجبه، هنا هي أجابت عن السؤال المحير في بداية القصيدة، وبدت في إظهار مشاعرها نحوه، إنها تحبه، بل ألف تحبه، ولكن يأخذنا النص إلى مسافة أعمق من المعرفة بعالم الأنثى العنكبوتي، كثير التشابك، إنه يأخذنا إلى كشف هذا العالم الأنثوي الرهيب، ومحاولة سبر أغواره، واستكناه معالمه وتخومه.

ومن الملاحظ على صور القصيدة أنها صور حسية تعتمد على الصور الحسية المادية، بعيدا عن الصور الذهنية التي تعتمد على الذهن في تجسيد الأشياء، “كما يميل إلى استخدام ألفاظ مستمدة من الحياة اليومية الهامشية ))” وهذا قد أوقعه في بعض الأخطاء اللغوية الساذجة، كتذكيره للفظ مؤنث، فكلمة(كأس) مؤنثة في اللغة،. قال الله تعالى: “بكَأْسٍ من مُعينٍ. بيضاءَ”( ). والعرب تسمي الكأس كأسا إذا كانت مملوءة بالماء أو الخمر، وإذا كانت فارغة فهي إناء. بل قالوا إن الكأس هي الشراب بعينه( ).

وكلمة (أثواب) جمع ثوب؛ وهي من جموع القلة التي تدل على قلة العدد من الثلاثة إلى العشرة، بينما لو اختار كلمة (ثياب) لدلت على المعنى وأكثر، فهي من جموع الكثرة التي تدل على العدد من الثلاثة إلى مالا نهاية، بما يتناسب مع رفاهية المحبوبة، وتمتعها بكثرة الثياب، ودقة تأنقها في الاختيار. لاسيما أن الكلمتين مناسبتان في الأداء الموسيقي للوزن العروضي الذي جاءت عليه القصيدة. وأرى لو أنه استخدم كلمة (العين) أفضل كثيرا من الجفن في قوله: من في الجفن سكناه. على ما في الجفن من مجاز. فإن استخدام لفظة العين يوحي بعمق المحبة، واستقرارها، ودوامها.

والقصيدة من حيث الوزن العروضي من البحر البسيط وهو من أشهر بحور الشعر العربي بعد البحر الطويل، وقد استغل نزار الصورة التامة الثانية من هذا البحر، مقطوع الضرب، ومع ذلك فقد وقعت القصيدة في خطأ عروضي في البيت الثالث: وكيف أسمح أن يدنو بمقعده؟ حيث تم تسكين حرف الواو في كلمة (يدنو) وكان حقها النصب وعلامته الفتحة، لأنها مضارع منصوب بعد أن.

ومن الملاحظ في القصيدة  النزارية  كثرة الاستفهام وتنوع أدواته، حتى إننا يمكن أن نطلق على هذه القصيدة (القصيدة / الاستفهام ) . حيث وردت أدوات الاستفهام سبع عشرة مرة في الأبيات كلها، كان نصيب (كيف) نسبة أكبر من باقي الأدوات، حيث وردت خمس مرات في الأبيات الثالث –السابع –الثامن-الثاني عشر –الثالث عشر. وهي نسبة كبيرة بالنسبة لعدد الأبيات الشعرية، و(كيف) اسم استفهام يدل على حالة الشيء، ولها صدارة الكلام، كما هو معلوم في قواعد العربية، والسؤال بـ(كيف) خمس مرات يدل على تردد الحيرة التي وقعت فيها بطلة القصيدة، ومحاولة إظهار ذلك بتكرارها على هذا النحو يشكل ملمحا أسلوبيا في بناء لغة النص.

وثاني الأدوات المستخدمة في النص(الهمزة ) وهي أصل أدوات الاستفهام، وهي حرف مشترك يدخل على الأسماء والأفعال، ويستفهم بـ(الهمزة في الإثبات وفي النفي، كما جاء في القواعد العربية، وجاء الاستفهام بـ(الهمزة) أربع مرات في الأبيات: السادس (الهمزة + ما) – السابع (الهمزة + ما) – السادس (الهمزة + لم) – الثاني عشر(الهمزة+المضارع)، وهنا  دخلت الهمزة على الفعل وليس الاسم، وأفادت في الاستخدام  التقرير، والتقرير هو حمل المخاطب على الإقرار بأمر ما، وقد تردد هذا الإقرار ثلاث مرات متتالية ليدل على حالة عدم الاستقرار والتردي الذي وصلت إليه بطلة القصيدة.فهي تتجه الى المحبوب وتطلب منه أن يقر بأن الحب بينهما قد انتهى، وقد انكسر كأس الحب بينهما منذ زمن، في حين أن الاستفهام في البيت الثانى عشر هو استفهام إنكاري، فهي تستنكر الكراهية تجاه من تحب.

وثالث الأدوات المستخدمة في النص(هل)حيث ترددت ثلاث مرات،في الأبيات: الخامس(مرتين) – والثالث عشر، و(هل) حرف استفهام تدخل على الأسماء والأفعال لطلب التصديق الموجب( )(هل أنا حقا حبيبته)، (وهل أصدق بعد الهجر دعواه).

ورابع أدوات الاستفهام هي(ما) الاستفهامية في قوله:(ما لي أحدق في المرآة)، وخامس الأدوات (أي)، حيث وردتا مرة واحدة، وهما معا يدلان على الحيرة والتردد، ومحاولة الخلاص للخروج من الأزمة النفسية .

وبقراءة النص قراءة فاحصة ندرك أن في النص متعاليات نصية كإشارات دالة على ما لم تقله الذات الشاعرة ، ولكنه برز بروزا جليا في البيت الثالث عشر :

وَكَيْــفَ أَهْـرَبُ مِنْهُ؟ إِنَّهُ قَدَرِي

هَلْ يَمْلِكُ النَّهْرُ تَغْييرًا لِمَجْرَاهُ؟

ويعزو هذا البيت إلى فكرة القدرية والجبرية المنتشرة في سوريا وفي بعض الدول الأخرى، والنص باعتباره نصا شعريا يحمل بين معانيه ورود كلمات وألفاظا دالة على الجبريين الذين يثبتون فعل الله تعالى في حركة الكون وأفعال الإنسان، والبيت يرمي إلى الاستسلام والتواكل فالإنسان لا يملك تغيير ما هو مقدر له ، بل كل شيء يعزو إلى القدر . ومن هنا فإننا نميل إلى أن نزار كان جبريا يعتقد أن الإنسان تسيره قوة خفية لا يملك دفعها ولا تترك له فرصة الاختيار بين النافع والضار.

والعمل الإبداعي وخاصة ما كان شعريا يمتلك من المقومات ما يجعل له البقاء، لاعتماده على نغمة الإيقاع المنتظم، ولكن يحسب لنزار أنه خلق بشعره جمهورا شعبويا عريضا وذلك بفضل سهولة ألفاظه، ورقة معانيه. وجرى شعره على ألسنة المزارعين، والصناع، والمثقفين، وأشباههم، ورواد المقاهي، إلى الدرجة التي جعلته رائد مدرسة الشعر الشعبوي الجماهيري. وفي ظني لم أجد شاعرا وصل إلى قامة نزار في إيصال شعره إلى قطاع كبير من الجمهور والمتلقين.

وربما يرجع هذا إلى وجود يد فنان ماهر تعرف كيف تنتقي ألفاظا وعبارات ذات إيحاءات(غير بريئة) وجدت صدى قويا لدى جمهوره، فلملمة الأصابع لشعر المحبوبة، ودنو مقعده منها، ونوم الذراعين على الخصر و… خلق جوّا من المداعبة اللطيفة لعالم الأنثى الثري، وبحسب الإحصاءات المتداولة فإن نسبة النساء العربيات العوانس كبيرة، ومن هنا وجدت مداعبات نزار الإيحائية صدى غير قليل لدى النساء كافة في مجتمعنا العربي المتخم بالقضايا الاجتماعية والسياسة. وربما كان هذا السبب (غير الأدبي) داعيا لبروز الحسية في صوره عامة، وفي النص القائم خاصة. فإن صور نزار تقوم على الحسية والمادية لأنها الطريقة الأكثر وصولا إلى غرضه من الصور الذهنية.

ومن ثم فقد غدت صور نزار تقوم على الحسية والمادية لأنها الطريقة الأكثر وصولا إلى غرضه من الصور الذهنية. هذا، وقد غدا الجسد في القصيدة النزارية هدفا مقصودا، يكسوه لغة متمايزة، وتماهى الجسد الفعلي في الجسد اللغوي بشكل يدعو للتأمل والإعجاب والدهشة في آن.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: