من كهف الواقع إلى نافذة السخرية – قراءة في مذكرات عانس جدا جدا لفاطمة حمدي

من كهف الواقع إلى نافذة السخرية - قراءة في مذكرات عانس جدا جدا لفاطمة حمدي

الأستاذ الدكتور عاطف بهجات

أستاذ النقد الأدبي الحديث فى كلية الألسن/جامعة عين شمس

 

خمس وتسعون ليلة مارست فيها (فاطمة زاد) الحكي للآخرين والبوح لنفسها، ثماني سنوات وهي تمارس هذا الفعل البشري المرتبط بالمرأة والرجل معا: المرأة مرسلا، والرجل مستقبلا. والأمر الفارق بين (فاطمة زاد) وشهرزاد أن الأولى ترسل لنفسها أولا في صورة من صور البوح التي تسمو فوق الواقع، وتخرجه من كهف الألم إلى نافذة السخرية. وترسل للآخرين: رجالا ونساء.وثانيا: لتقول إن الحياة ليست غايتها الزواج، وليست غاية المرأة الارتباط بالرجل، ما دامت قادرة على التحمل واتخاذ المواقف. وهذه الصورة الثانية إحدى صور المخاتلة النفسية؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا باجتماع طرفيها، ومن يقدر – من الطرفين – على العيش بمفرده صورةٌ نادرة ومثال متفرد.فهي تحكي للسخرية من الواقع،بينما كانت شهرزاد تحكي من أجل البقاء.

إن العنوسة ظاهرة مجتمعية لا تقتصر على النساء فقط، ولكنها ظاهرة تشمل النساء والرجال معا، وحسب إحصائيات الجهاز المركزي لعام 2023 فإن الفتاة التي بلغت 30 عاما دون زواج عانس، ويمثلن 13.5 مليون عانس طبقا لإحصاء       يونيو 2023.

من بين هذه الملايين خرجت علينا د. فاطمة حمدي ، المدرس في كلية الألسن بجامعة عين شمس- من ثماني سنوات – تحكي تجربتها دون خجل أو مواربة؛ لتذكرنا بتجربة غادة عبد العال في مدونتها “عايزة أتجوز” التي بدأت في أغسطس 2006 ،ثم كتابها الأول “عايزة أتجوز” الذي صدر عن دار الشروق في فبراير 2009الذي تحول مسلسلا تليفزيونيا أذيع في رمضان 2010.

لقد أثبتت تجربة غادة عبد العال وتجربة فاطمة حمدي أن كل شهرزاد لها بوحها الخاص، ولها طريقتها في معالجة العنوسة: لقد استعرضت غادة موضوع العنوسة من خلال نموذج الرجل غير المناسب الذي يتقدم لخطبتها، وتأتي فاطمة حمدي لتستعرض موضوع العنوسة من خلال شخصية المرأة في مواجهة الحياة، والرغبة في الوجود دون الاعتماد على الرجل ،كما سنرى في بعض نماذج مذكراتها التي تحمل عنوان (مذكرات عانس جدا جدا) التي قالت عنها فاطمة “إن مذكراتي كلها تمثلني” وهذا يعني أن تناول إحداها أو عددٍ منها يغني عن تناول الكل، وهي صورة من صور الأدب النسوي الذي يمثل “خصوصية البوح، ونسوية الهوية  المتشكلة من حضور منطق المرأة الذي يحكم الطرح، ويقود السرد في محاولة لإعادة تشكيل النسق” ( عاطف بهجات – قراءات في الأدب السعودي – 113)

إن العنوسة ليست نقيصة نسوية بحكم انصراف معناها إلى المرأة والرجل معا – كما جاء في اللغة وتحديدا لسان العرب لابن منظور: ” ورجل عانس، والجمع عانسون”.

إن علاقة الرجل بالعنوسة علاقة مزدوجة؛ فهو عانس بذاته عندما يمكث دون زواج، وهو عانس بفعله عندما يحبس المرأة عن الزواج. لقد أنصفت اللغة المرأة عندما قال ابن منظور – نقلا عن الأصمعي – “لا يقال عَنَستْ، ولا عَنَّستْ، ولكن يقال: عُنِّستْ على ما لم يُسمّ فاعله” فالرجل يلعب في هذه الظاهرة المجتمعية دور السجين والسجان.

الفتاة التي لم تتزوج ليست ضعيفة – على حد تعبير لغتنا الجميلة -:” فالعَنَسُ: الصخرة، الناقة القوية شُبهت بالصخرة لصلابتها”.

لا تخشَى شيئا في مواجهة الآخرين فأنت قوية بما يكفي لمواجهتهم ومواجهة المجتمع، أنت قادرة على إذابة نظرات الشماتة أو التعاطف بلهيب التحدي و القدرة على الإنجاز. فالمواجهة قدرة على إظهار شخصيتك والتعبير عن ذاتك .. كما قال ابن فارس في مقاييس اللغة – “العين والنون والسين أصل صحيح واحد يدل على شدة في شيء وقوة”.

إذا كانت اللغة قد أنصفت المرأة من حيث الضعف والقوة في مواجهة ظاهرة العنوسة، فإنها قد عبّرت عن الزمن في عنوان مذكرات فاطمة حمدي (مذكرات عانس جدا جدا) فهذا العنوان يمكن أن نحلله -زمنيا -في معادلة تأويلية على النحو التالي:

مذكرات عانس = الفترة الأولى من العنوسة (22 : 30 سنة)

مذكرات عانس جدا = الفترة الثانية من العنوسة (31 : 40 سنة)

مذكرات عانس جدا جدا = ما بعد الأربعين

فقد لعبت فاطمة في اختيار عنوان مذكراتها على توظيف كلمة (جدا) التي تُعرَب في هذه الصيغة إعرابا مفارقا لما اصطلح عليه النحاة من كونها نائبا عن المفعول المطلق، فهي تعرب هنا نعتا لكلمة عانس، وتكرار النعت ليس من قبيل ضعف الأسلوب ولكنه من قبيل المضاعفة الدلالية للإحساس بالزمن ووطأة الحدث. وهذا يجعلني أقول: إن فاطمة رغم سخريتها في مذكراتها تشعر بوطأة العنوسة، ولكنها قادرة على التكيف معها ومقاومتها أمام نفسها، وأمام المجتمع لدرجة السخرية منها.

تقول في (يا خسارتك في قلة الجواز يا لوزة)

“أنا الصبح: بصي يا بت النهاردة أحلى يوم .. خليه كدة .. ده الفرق بينك وبين أي ست متجوزة نكدية .. يوم العاصفة والسيول والأجازة .. وكل يوم .. تنكد على البيت كله .. عشان البيت ونظامه ونظافته وأمانه .. الستات دي بتدق على حاجات غريبة وكلام فارغ مالوش أي ستين لازمة .. أما عجايب .. أما أنتي .. يا روحي عليكي .. ست بيت رايقة .. أيوه.. الشطارة يا ست هانم إنك تبقي رايقة .. هادية .. مستمتعة .. هي دي الشطارة يا ست البيت .. يا خسارتك يا بت في قلة الجواز .. كل اللي كان بيقول عليكي مش هتنفعي هيندم”.

فهي هنا رغم أنها تملك ناصية اللغة و القدرة على التعبير الفصيح – كتبت في لهجة عامية تجمع بين الحكي والبوح؛لأنها نشرت هذه المذكرات على الفيس بوك أولاً؛ ما جعلها تراعي اختلاف مستويات التلقي – تحكي تجربتها في منزلها مع يوم ممطر عاصف بما فيه من مشاكل مع مياه الأمطار، والأوحال القادمة من الشارع في نِعال الأحذية، التي يرتديها أهل منزلها، وكذلك مشاكل الكهرباء، وتواجه ذلك بسخرية تجمع بين الضعف والمرارة في مواجهة الطبيعة، ولكنها تتفاعل معها، وليست بحاجة إلى رجل، ولا تنسى أن تسخر من المتزوجين عندما تقول: “والله كان نفسي أكمل وأحكي لكم عن كل اللي جرالي .. بس مش عايزة أطول عليكم، وزمانكم مشغولين بتنكدوا على بعض عشان حاجات تافهة أو حنتفة فارغة بتهتم بيها ست البيت الشاطرة – لكن أنا .. أنا .. أنا ..  في منتهى السعادة باليوم ده …..

لا وكمان إيه …. حتى معنديش حد أنكد عليه ….

الحقووووووني ..

يا لهووووووي”.

لقد جاء ختام هذه الصفحة من المذكرات ختاما مفارقا، ففي الوقت الذي تؤكد فيه فاطمة على سعادتها ببقائها دون زواج في تكرار ضمير المتكلم ثلاث مرات في صورة من صور التكرار اللفظي للمبتدأ (أنا) في منتهى السعادة، وهذا التكرار أيضا إثبات وجود دون احتياج، تأتي في السطر التالي مباشرة لتقدم لنا صورة مفارقة وهي تتمنى لو كان لديها (حد تنكد عليه)رغم أنها تغالطنا وتغالط نفسها في صورة أسلوب النفي باللهجة العامية (معنديش)، ولكن (حتى) هنا تتجاوز معانيها الثلاثة:الجر والتعليل والعطف، وتفيد – عند فاطمة – التمني غير المعلن في بنية النص العميقة، بدليل استغاثتها في نهاية الموقف، وهي استغاثة مضاعفة تَقَدّم فيها طلب المساعدة على التعبير عن الموقف، و هذا ما يفسر اختيارها لعنوان هذه الصفحة(يا خسارتك في قلة الجواز يا لوزة) فاللوزة ذات معانٍ متعددة: فهي في العرف الشعبي تدليل للأنثي التي تحمل اسم “فوزية” و صارت تدليلاً للأنثى عموما،فهي تتمنى مَن يدللها. كما أن (اللوزة) في مجال الزراعة تعني الخير من حيث ارتباطها بشجر القطن فاللوزة عندما تتفتح تخرج القطن الأبيض و اللون هنا يستدعي فستان الزفاف. ثم إن اللوزة واحدة اللوز و هو نوع من(المكسرات) لا نصل إليها إلا بكسر القشرة الصلبة الخارجيةز فكأن فاطمة استدعت في هذا العنوان: الدلال والرغبة في الزواج و الفرح و كذلك القوة و الصلابة .

فإذا كان الرجل يملك القدرة – أحيانا – على أن يحبس المرأة عن الزواج فإن فاطمة حمدي قد أفلحت في أن تحبس الرجل داخلها انتظارا للنموذج المناسب.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: