معالم شخصية الظاهر بَيْبَرس(٦٢٥ – ٦٧٦هـ) في مرآة الشعر المملوكي (3)

معالم شخصية الظاهر بَيْبَرس(٦٢٥ - ٦٧٦هـ) في مرآة الشعر المملوكي (3)

بقلم: الأستاذ الدكتور صبري فوزي أبو حسين

 

 

4- وقعة لقاء المغول في شط الفرات سنة ٦٧١هـ:

حيث روى المؤرخون أن الظاهر سمع يومًا بجموع للمغول على الشاطئ الشرقي للفرات، فخاضه إليهم وخاضه الجيش معه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ولم ينجُ منهم إلا القليل، وفى ذلك يقول ناصر الدين حسن بن النقيب الكنانى-وكان حاضر الواقعة-من قصيدة طويلة:

ولما ترامينا الفرات بخيلنا          سكرناه منا بالقوى والقوائم

فأوقفت التيّار عن جريانه         إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم([1])

وقال محيي الدين بن عبدالظاهر واصفًا إياهم:

تجمع جيشُ الشرك من كلِّ فرقةٍ     وظنوا بأنا لا نطيقُ لهم غلبا

وجاءوا إلى شاطي الفرات وما دروا    بأن جياد الخيل تقطعها وثبا

وجاءتْ جنودُ الله في العُدد التي    تَميس لها الأبطال يوم الوغى عُجبا

فعمنا بسدٍّ من حديد سباحةً        إليهم, فما اسطاع العدو له نقبا([2])

فقد قدم لنا صورة واقعية من الميدان لطرفي المعركة، وأظهر عدة وقوة جيش الظاهر بيبرس، في وقعة الفرات هذه، ومدى فتكه بجموعهم، حتى كاد ألا يُبقي باقية منهم. وعاد الملك الظاهر إلى دمشق مؤزرًا منصورًا، وأنشده الشهاب قصيدة طنانة يقول فيها:

سر حيث شئت لك المهيمن جار         واحكم فطوع مرادك الأقدار

خضت الفرات بسابح أقصى منى          هوج الصّبا من نعله آثار

حملتك أمواج الفرات ومن رأى              بحرا سواك تقلّه الأنهار

رشّت دماؤهم الصعيد فلم يطر           منهم على الجيش السعيد غبار([3])

 

وللشاعر شافع بن علي العسقلاني(649-730هـ) قصيدة رائية مطولة، فيها مدح للظاهر بيبرس، وتهنئة بهذه النصرة إلاّ أنها صدرت عن قلبه الجريح بألم جسمه الجريح، يقول منها:

نجحت مساعي سيفك البتّار      بالحدّ في دم أرمن وتتار

وخطا إلى الخطاء الذين تجاسروا   فأصارهم في ذلّة وصغار

رام الأعاجم ردّه بتناصر       فبدا بقتل النجدة الأنصارِ

عفّيت إذ عفّيت عن آمالهم      بالعزم ما لهم من الآثارِ

وردوا فأوردهم حسامك منهل      الإضرام والإضراء والإضرارِ

وقصدتهم بعوامل من شأنها        بالقصف قصف مؤجّل الأعمارِ

وأسلت بحرا من حديد سلاحك      المردي العداةَ بقوّة التيّارِ

ثم يشير إلى حدة الصراع بين التتار والسلطان بيبرس بقوله:

ومن العجائب قدح نار زناده      أسمعتم ما يكون بنار

جاءوا لأخذ الثأر يا ملك الورى   فتلوت ثارا جاولوه بثار

هم يمّموك بقضّهم وقضيضهم    كيما ينالوا غاية الأوطار

فحبيتهم آثار من أفقدته       فاستبدلوا الأوطار بالأوتار

قد جرّ أبغا للتلاف جيوشه    إذ قاسها بالعسكر الجرّار

ما شكّ في إهلاكهم بتجارب     لكنّما الإضرار بالإصرار

ولكم إليه أعذرت عزماته      وإزالة الإعذار بالأعذار

ثم ينتقل مخاطبًا قائد التتار مهدِّدًا متوعدًا:

«أَ بُغَا» تأدّبْ لا تَلُمَّ بمِثلِها           وحذارِ ممَّا قد جنيتَ حذارِ

واقنعْ ولا تطمعْ فلستَ بطامعٍ     في زَوْرِ مَلْكٍ في بديلِ مُعارِ([4])

ويستعين هذا المؤرخ الشاعر شافع بن علي العسقلاني(649-730هـ) بالنثر في التعبير عن عظمة الظاهر بيبرس في هذه الغزوة: “ولم يقدم أحد من الأمراء ولا الملك الظاهر على خوض الفرات إلى التتار إلاّ مولانا السلطان وتابعه الناس أول، فأوّل، وكان عليه في الاقتداء بالتجاسر المعوّل. هذه وقعات التتار مع المسلمين، وأين وأين، ولا أثر بعد عين. وأين العشرات من المئين والألوف، وأين مواطن الأمن من الموطن المخوف. وأين الذّرّة من القنطار، وأين ارتكاب الحذر من ارتكاب ذوي الأخطار، لم يسمع بمثل هذا الجيش الذي عالجه مولانا السلطان وعاجله، وناجزه وما أجّله. وكاثره وما كابره، وساوره وما شاوره([5])… وقال في نهاية خبرها: انقضى خبر هذه الوقعة مفصّلاً ومفرّعًا ومؤصّلاً. وقد أفردت لها جزءًا مستقلاّ برسم الخزانة العالية المولويّة السلطانية، عمّرها الله -تعالى- بدوام ملكه([6]).

وصدق ابن عبدالظاهر حين قال مكثفًا هذا الإطراء النثري لابن شافع:

يا عَزْمةً ما رأى الراؤونَ مُشبِهَها     ووقعةً سار في الدنيا لها ذِكْرُ

ويظل تأثير هذه الوقعة في الشعر حتى بعد وفاة الظاهر بيبرس؛ فقد قال كمال الدين ابن العطار من قصيدة يرثي بها الملك الظاهر بيبرس سنة ٦٧١هـ:

زعمت بنو قاقان أن خيولها           تخشى العبور إليهمُ في الماء

فأتَوْا إلى شطّ الفرات وطُولبوا           متهيئين لغارة شعواء

وترجلت من بينهم أقشيّة             مُغلٌ وكُرَّجُ فيهمُ وخِطاء

قصدوا بهذا منعنا عن بَرّهم          غلطوا وخُيِّب مقصدُ الأعداء

فأتاهمُ جيش النبيّ يؤمهمْ                ملك الزمان الظاهر الآلاء

بعصائبٍ سودٍ عليها رنكُه                أَسدٌ يصيدُ فوارسَ الهيجاءِ

عام الفرات إليهمُ بصواهلٍ             ومناصلٍ وعواسلٍ سمراء

فانفلّ جيشهمُ وولّى هاربًا              قد حاطهمْ ويل وفرطُ بلاء

وغدت سيوف المسلمين خضيبةً       عند اللقا من هامهم بدماء

لله يوم بالفرات رأيته                  قد مر في ظفَرٍ ونصرِ لِواء([7])

وهذه الوقعة تحتاج من مؤرخي هذا العصر أن يختصوها بمزيد من الدراسة في مصادرها العربية والأجنبية، حتى نتبين ظروفها وأحداثها ونتائجها…

5-موقعة نهر جيحان في الأناضول سنة ٦٧٥-٦٧٦هـ:

يقول الدكتور شوقي ضيف مصورًا هذه الواقعة:” ولم يلبث التتار أن حشدوا جموعًا لهم سنة ٦٧٥هـ، وأيدتهم جموع من عسكر الروم، وتعاقدوا على منازلة بيبرس، وعلم بتلك الجموع فباغتها محيطًا بها من كل جانب، وقاتلت قتال الموت ولم يغن ذلك عنها شيئًا، إذ كان يقتحم مع جنوده البواسل الأهوال كالأسد الضارية إلى أن انكسر التتار والروم وفروا معتصمين بجبال وراءهم، وأحاطت بهم العساكر المصرية وقتلت منهم مقتلة عظيمة([8]) .

وها هو ذا الشاعر شهاب الدين محمود يمدح الظاهر بيبرس مخلّدًا انتصاره على جيش متحالف من الروم و المغول في معركة وقعت على ضفاف نهر جيحان (في الأناضول)، في قصيدة طويلة، مطلعها([9]):

كذا فلتكن في الله تمضى العزائم           وإلا فلا تجفو الجفونَ الصوارمُ

بجيش تظل الأرض منه كأنها        على سعة الأرجاء فى الضيق خاتم

يحيط بمنصور اللواء مظفّر        له النصر والتأييد عبد وخادم

مـلـيـك به للدين في كل ساعة         بـشـائـر للكـفـار مـنـهـا مآتم

مليك لأبكار الأقاليم نحوه            حنين كذا تهوى الكرام الكرائمُ

و مما جاء فيها مادحًا الظاهر بيبرس :

مـليكٌ يلوذ الدينُ من عزَماته         بركـنٍ لـه الفـتحُ المبـينُ دعـائمُ

من التُّركِ أمّا في المغاني فإنهمْ        شُموسٌ، و أمّا في الوغى فضراغمُ

وهكذا استولى الظاهر بيبرس على كثير من البلدان التي كانت بأيدي الصليبيين وحصونهم، مثل: قيسارية، وصفد، وطبرية، ويافا، وأنطاكية، وغيرها ولم يدوّن ابن تغرى بردى شيئًا من شعر الشهاب محمود في هذه الفتوح الضخمة!…

وقد أشير إلى هذه المعارك والفتوح في رثائيات الشعراء لبيبرس؛ فقد كتب ابن عبدالظاهر مرثية وأرسلها إلى دمشق كي تقرأ على قبر الظاهر بيبرس في حضور ابنه السعيد, قال فيها:

هذا الذي قال الملوكُ لرعبهِ:         قل يا رسولُ وما عليك ملامُ

هذا الذي هزم التتارَ فأصبحوا         تغتالُهم عند الكرى الأحلامُ

هذا الذي قهر الفرنج فكلُّهمْ            تُرْديهمُ من رعبه الأوهامُ

تعستْ جيادٌ بعده قد أصبحت      تبكي لها الأسراجُ والألجامُ([10])

فقد كان الشعراء ينثرون على بيبرس قصائدهم في كل معركة وكل نصر مظفر على التتار، والصليبيين، وفى أرمينية، وآسية الصغرى، وبالمثل حين كان ينشئ المدارس والمساجد، كما فى المدرسة الظاهرية، كما يقرر الدكتور شوقي ضيف([11]).

وهكذا علمنا من هذه النصوص الشعرية كيف كان الظاهر بيبرس قائدًا عسكريًّا فذًّا يواجه أعداء الوطن الخارجيين والداخليين، بحزم وشدة، وينتصر في كل المواقع، على مختلف الجبهات من تترية أو صليبية أو مجتمعة منهما متحالفة معًا ….

المحور الثاني: الظاهر بيبرس السياسي في مرآة الشعر المملوكي:

نظرًا للشخصية القوية عسكريًّا وقتاليًّا عند بطلنا بيبرس، نجده من أكثر الشخصيات حضورًا في نتاج شعراء عصره؛ وبالمثل كانت تحركاته وآراؤه السياسية مناط إعجاب الكثير منهم, فلم يكن بعيدًا عن عدساتهم، حيث يرون فيه صاحب المكانة السياسية العالية المهيبَة، فتراهم يُسجِّلون أثر شخصه وشخصيته في غيره من السلاطين والملوك والأمراء؛ فهذا الشيخ جمال الدين إسماعيل (وقيل يوسف) بن الخشاب، يقول في الملك الظاهر بعد بناء المدرسة الظاهرية بين القصرين:

قصد الملوك حِماكَ والخلفاءُ     فافخرْ فإن محلَّكَ الجوزاءُ

أنت الذي أمراؤه بين الورى    مثل الملوكِ وجندهُ أمراءُ

ثم يبين أثره في المباني من ممالك ومدارس قائلاً:

ملك تزينتِ الممالِكُ باسمِهِ      وتجملَت بمديحِهِ الفُصحاءُ

وترفعت لعلاهِ خيرُ مدارس        حلت بها العلماءُ والفضلاءُ

وأثره كذلك ومهابته موجودة عند الأعاجم، يقول:

كم للفرنجِ وللتتارِ ببابه         رسل مُناها العفو والإعفاءُ

وطريقُهُ لبلادِهم موطوءَة        وطريقُهم لبلادِهِ عذراءُ

وبسبب هذه الهيبة للسلطان كان الدعاء له:

دامت له الدنيا ودام مخلدا         ما أقبلَ الإصباحُ والإمساءُ

فهو وملكه:

يبقى كما يبقى الزمان وملكُهُ         باق لهُ ولحاسديهِ فناءُ([12])

ومن دلائل سياسته وحكمته أنه كان يكرم الشعراء والعلماء ويجزل لهم العطايا، ولذا ورد عقب هذه المناسبة في كتب التاريخ ما نصه:” فلما فرغ هؤلاء الثلاثة (أبوالحسين الجزار، السراج الوراق، جمال الدين يوسف بن الخشاب)، من إنشادهم أفيضت عليهم الخلع، وكان يوماً مشهودًا([13])”.

وعندما نطالع شعر المديح الذي صدر عن الشعراء المعاصرين للسلطان المظفر بيبرس نجدهم يخلعون عليه نعوت الحكمة والوقار والكرم وقوة التأثير، ففي مدح الظاهر بيبرس يقول شاعر:

فتى جعل البلاد من العطايا     فأعطى المُدْن واحتقر الضياعا

سمعنا بالكرام وقد أرانا       عـيـانـًا ضـعــف مـا فـعــلــوا سماعا

إذا فعل الكرام على قياس   فــعـالاً كــان مــا فــعــل ابتداعا([14])

وظاهر أنه شاعر عالم، حيث نجد في هذه المقطوعة توظيفًا للمصطلحات الفقهية بطريقة التورية في ألفاظ:” سماعًا, قياس, ابتداعًا”، والبيتان الأخيران مضمنان من قول الشاعر العباسي ابن أبي حصينة(٣٨٨-٤٥٧هـ) من قصيدة في ممدوح يسمى ابن فخر الدين مطلعها:

أَجَدَّ الصَبرُ بَعدَكُمُ اِمتِناعا            وَجَدَّ الوَصلُ نَأيًا وَاِنقِطاعا([15])

وقال محيي الدين بن عبدالظاهر يمدح الظاهر بيبرس, بعد عدة فتوحات انتصر فيها([16]):

يا ملك الأرض الذي جيشه     يملأ من سيسٍ إلى قوصِ

مصيصة التَّكْفُورِ قالتْ: لِنا       بالله إفرادي وتخصيصي

كم بَدَنٍ فصَّلَهُ سيفُك الـ         ـغراء والأكثر مصِّيصي([17])

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[12] الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ص185. وعقد الجمان في تاريخ أهل الزمان1/ ٣٨٣

[13]راجع الأبيات والخبر في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار4/326.

[14]حسن المناقب السرية المنتزعة من السيرة الظاهرية, شافع بن علي, ت/ عبد العزيز الخويطر, الرياض, الطبعة الثانية, 1410هـ= 1989م, ص191 . والسلوك لمعرفة دول الملوك جـ1،ق2، ص531. وفيه (جميلاً) بدلا من(فعالاً).

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: