عنترة الجاهلي أم نحن الجهلاء – حينما تكون اللغة وسيلة إنجازية

عنترة الجاهلي أم نحن الجهلاء - حينما تكون اللغة وسيلة إنجازية

بقلم: الأستاذ الدكتور أيمن أبومصطفى

 

لاشك أن الإنسان يكون إنسانا إن كان ذا هدف ورؤية، وهذه الرؤية هي التي تجعله قادرا على الدفاع عن قناعاته ولو كانت خطأ، وحينما يعجز الإنسان عن التعبير فإنه يعجز عن الحياة، فيصبح أشبه بالدواب التي سخرها الله له، تحمل الأثقال وتتألم لكنها ترضخ لما يريده هو.

وقد أصبح العربي في زمننا مكبلا بقيود الأعداء وإن لم يكن محتلا، فغدت السيطرة عليه سهلة ميسورة، وذلك من خلال الاحتلال الفكري، وتغييب دور العقل، واستحضار ثقافة الشهوة، وهنا نقف على نموذج إنساني عربي قاوم تلك القيود الفكرية، فأصبح قادرا على أن ينال حريته، ففي هذا المقال نحاول استجلاء دور اللغة في إحياء القيم الإنسانية، فإذا كانت الغاية من الشعر هي محاولة استمالة وإقناع شخص بالقضية المعروضة عليه, أو زيادة شدة إقناعه, لحمله على عمل أو تهيئته له. فإن شعر عنترة بن شداد هو في الحقيقة ذو أبعاد حجاجية  فليس مجرد نقل التجربة الفردية الذاتية، بل إنه يهدف إلى الحث والتحريض والإقناع والحجاج.

فقد امتلك عنترة قوتين: الخطاب الشعري يحاجج بأدبيته التي هي موضع تميزه وعلة اصطفائه, باعتباره خطابا لغويا, يقوم على اللغة ويزخر بطاقة حجاجية . فيأتي شعره ممثلا اتجاها فكريا يحاول أن يجد لنفسه  من خلاله مكانة ومنزلة للخلاص من مذمة الرق  ولمحو صفة العبودية.

أما القوة الثانية فهي الفروسية ،ففي شعره نلحظ الصراع القديم الحديث بين النفس البشرية والواقع المظلم، بين القيم الإنسانية والتقاليد والأعراف التي جعلت الناس عبيدا للناس.

فعنترة كان يواجه فكرا طبقيا بفكر فردي واع ، حيث عاصر عنترة تقسيما طبقيا لأفراد القبيلة، حيث  طبقة السادة وهم أفراد البيوت التي تتوارث السيادة ، وتأتي بعدها طبقة العبيد وهم في أسفل الوضع الاجتماعي ، وهي طبقة العبيد وسائر الأفراد الفقراء في القبيلة من غير بيت السيادة ، فهؤلاء الفقراء كانوا هم والعبيد شيئا واحدا. والطبقة الثالثة هي طبقة البارزين وتتكون من الأفراد البارزين بين أفراد القبيلة من غير بيت السيادة ( ) ، وبُرُوز الأفراد كان أمامه ثلاثة مجالات :

أ- الغنى : كان موصدا بإحكام ، لأنهم لا يملكون منه شيئا ( ) .

ب- الفروسية : الفارس إن لم يكن له مال ففي سيفه ما يمكنه من جلب المال ، ولو بالغزو والغارة ، كما كان شائعا في الجاهلية ( ) .

ج- الشعر : الشاعر في القبيلة الجاهلية كان يحظى بقدر كبير من التقدير والاحترام حتى إنه كان إذا ظهر شاعر في قبيلة أقبلت وفود القبائل تهنئها به ( )

فكر عنترة عبر الشروط التي أتاحتها القبيلة في الغنى والفروسية والشعر، فتحدث عن صولاته وجولاته، وعن كره وفره، وعن قتاله ونزاله، وعن فرسه وسيفه ورمحه ونصله، بل جعل ذلك مدعاة لفخره واعتزازه وشفاء قلبه:

وَلَقَدْ شَفَا نَفْسِي وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا … قِيلُ الفَوَارِسِ وَيكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ

فالفارس الحق يتسم باليقظة التامة، والقدرة على مواجهة الخصم ومصاولته‘ومن ذلك أيضا شعوره بالفخر حينما يذكر الناس اسمه وقت الشدة:

يدعُونَ عنترُ والرّماحُ كأنّها       أشطانُ بئر في لبَان الأدهمِ

فامتلأ الديوان بالتعبير عن الشجاعة والبطولة والرجولة والإقدام والتحدي والوعيد والمبارزة والمجادلة والطعان والقوة.

ومن مواطن إظهاره الفروسية والشجاعة أنه يتحسر على أن يسبق إليه الموت دون النيل من أعدائه، يقول:

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر…للحرب دائرة على ابني ضضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهـما…والناذرين إذا لم ألقهما دمـــــــي

ومن كثرة الكر والفر عرفته الخيول ، يقول:

والخيل تعلم والفوارس أنني…فرقت جمعهم بطعنة فيصل

 

حاول عنترة أن يغير بعض الثوابت القبلية واضعا مكانها القيم والأخلاق، وهو قبل ذلك قد ربط بين الفروسية وبين مكارم الأخلاق، وقد هدف إلى إحلال مبادئ القيم محل مبادئ النسب، فهو عفيف النفس سوي الطباع، يصون حرمة الجارة، ويمتنع عن الغدر، ويغدق على المحتاج ويفك العاني، وهذا مما تنادي به الإنسانية وما تندرج تحته مُثلها ومبادئها. يقول متغنيا بذلك:

هلاَّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ           إن كنتِ جاهلـةً بما لم تعـــــــلمـي

يخبرك من شهد الوقيعة أنني                     أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم( 1 )

فالفارس الحق لا بد أن يتحلى بمكارم الأخلاق ومن الأخلاقيات التي تكرر ذكرها حفظه لعرض جارته، يقول:

أَغشى فَتاةَ الحَيِّ عِندَ حَليلــــــــِها ***  وَإِذا غَزا في الجَيشِ لا أَغشاها

وأَغُضُّ طَرْفِي ما بَدَتْ لي جارَتِي ***  حَتَّى يُوارِي جَارَتي مَــــــــــــــأواها

إنِّي امرُؤٌ سَمْحُ الخَلِيَقةِ ماجِـــــــدٌ ***  لا أُتْبِعُ النَّفْسَ اللجوجَ هَــــــواها

وقد نجح في تحقيق هدفه، فقد نجح في أن يتخلى عن سبة الرق، وأن ينال عبلة وفي ذلك خلاف بين المؤرخين، كما نال مكانته بين أفراد قبيلته والقبائل الأخرى، كما أنه أعاد مكانة الأخلاق والقيم التي يكون بها التفاضل.

بذلك يتضح لنا بما لايدع مجالا للشك أن الإنسان قادر على أن يدافع عن إنسانيته، وليس هناك ما يسوغ للخضوع والخنوع واليأس، فاليأس مرادف للموت، ومادام الإنسان حيا فعليه أن يدافع عن حريته.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: