سلوا كؤوس الطلا .. أحمد شوقي

سلوا كؤوس الطلا .. أحمد شوقي

الأستاذ الدكتور أحمد فرحات

 

في ظني؛ من القصائد الغزلية القليلة التي يُعرَفُ لمن كتبها شوقي، ومتى ؟ وأين؟ حيث تشير المصادر إلى دعوة أمير الشعراء للسيدة أم كلثوم في داره الكائنة بكورنيش النيل بالجيزة والمسماة بكرمة ابن هانئ بالقاهرة، وكان الهدف من دعوتها أن تقوم سيدة الغناء العربي بالغناء في بيته، فلبت الدعوة، وأخذت أباها، وتختها الموسيقي معها، وقامت بالغناء في حديقة الكرمة، في ليلة من ليالي الصيف الجميلة، حيث نسيم النيل الجميل وطير الفضاء الرحب، وكان شوقي يستمتع بالصوت العذب ويذهب بين الفينة والأخرى ثم يعود، ليواصل الاستماع، وقد دعاءها شوقي إلى منادمته ، وقدم لها كأس خمر من التي يشربها، وأحست أم كلثوم بالخجل، فتصرفت بلباقة فلم ترفض الكأس، ولكنها لا تشرب الخمر، فآثرت أن تجامله ورفعت الكأس إلى شفتيها وكأنها تشرب، ثم وضعت الكأس كما هو لم ينقص قطرة واحدة. فأعجب شوقي بتصرفها، ثم ذهب إليها في اليوم التالي، وقدم لها مظروفا فيه رسالة، فكانت القصيدة “سلو كؤوس الطلا” التي قالت عنها أم كلثوم في مذكراتها( ): …. وفي صباح اليوم التالي جاءني من يقول: إلحقي يا ست.. شوقي بك أمام الباب الخارجي.. فهرولت لأجده.. كان وجهه مضيئاً بابتسامة طيبة.. وقد دفع إلىّ بمظروف.. وهو يقول: هذه هدية متواضعة تعبر عن إعجابي!.. إنها من وحيك.. وفتحت المظروف لأجد قصيدة:

واسْتَخْبِروا الرَّاحَ هل مَسَّتْ ثَنَاياها

سَــلُوا كُؤوسَ الطِّلا هلْ لامَسَتْ فَاهَا

وتواصل أم كلثوم قولها في مذكراتها: ولكن لم أغن الأغنية في حياته “غنيتها بعد موته..”.وقد غيرت في كلمات البيت الرابع الذي يقول فيه أحمد شوقي:

وَيَنْتَهِي فِيْهِ تَحْتَ العَرْشِ عِطْفَاهَا

هَيْـفـــاءُ كَالبـــانِ يَلْتَفُ النَـــسيمُ بِـــها

إذ لجأت لشاعرها المفضل آنذاك أحمد رامي.. لإتمام هذا التغيير المطلوب مستخدماً حرفيته المعهودة في ذلك.. وقد غير الشطر الثاني فجاء البيت الذي غنته أم كلثوم مغايراً بعض الشيء لما كتبه شوقي.. وهي التي تقول فيه:

ويُلْفِتُ الــطَّيْرَ تــحـــت الـــوَشي عِــطْــفـاها

هَيْـفـــاءُ كَالبـــانِ يَلْتَفُ النَـــسيمُ بِـــها

والبيت السابع كتبه شوقي:

سَلْ أُمَّ كُلْثُومٍ مَنْ بِالشَّرْقِ طَارَحَهَا

وَمَنْ وَرَاءَ الدُّجَى بِالشَّوقِ نَاجَاهَا

أما البيت الأخير، فقد كان في صياغته الأصلية وفقا لما كتبه شوقي:

يَا أُمَّ كُلْثُومٍ.. أَيَّامُ الهَوَي ذَهَبَتْ

كَالحُلْمِ.. آهاً لأَيَّامِ الهَوَي آهَا

وقصيدة “سلوا كؤوس الطلا” لم ينشرها شوقي في ديوان الشوقيات.. بل جمعها من بعده الدارسون.. ووضعوها فيما أسموه “بالشوقيات المجهولة” !

* * *

واسْتَخْبِروا الرَّاحَ هل مَسَّتْ ثَنَاياها

سَــلُوا كُؤوسَ الطِلا هلْ لامَسَتْ فَاهَا

لا للسُّلافِ ولا للوَرْدِ رَيَّاها

باتَتْ على الرَّوضِ تَسقيني بصافيةٍ

ولو سَقَتــني بصَــافٍ مـــنْ حُــمَيَّاها

ما ضَرَّ لو جَعَلَتْ كأسي مَراشِفها

(سلوا .. هل .. )(واستخبروا .. هل) بداية متكررة عند شوقي، ولازمة من لوازم شعره، وربما شكلت معجما شعريا خاصا بشوقي، وقد أكثر منها شوقي في قصائده، ومنها في قصيدة رثاء الأب( ):

يــــا أَبــــي وَالمَـــوتُ كَــــأسٌ مُــــــرَّةٌ

لا تَــــذوقُ النّـــــــفسُ مِنـــــها مَــــرَّتَين

كَيــــــــــــفَ كانَـــــت ســـــاعَـــةٌ قَضــَّيتَــــها

كُــــــلُّ شَيءٍ قَبـــــلَها أَو بَعــــدُ هَيــــــن

أَشَــــــرِبتَ المَــــــــوتَ فيــــــها جُــــرعَةً

أَم شَرِبــــتَ المَــــوتَ فيــــها جُرعَتَـــين

يبدأ شوقي الأبيات بسؤال بصيغة الجمع (سلوا)، وهذا الفعل يقتضي أمرين: سائل ومسؤول، السائل هو جموع الحاضرين، والمسؤول هو كؤوس الطلا، والشاعر منذ البداية أراد أن يعيشنا في عمق التجربة، وينقلها إلينا بصورتها الحقيقية، فقد كان الجو العام للحفل المقام في كرمته جوا صاخبا، مليئا بالحضور والموسيقا والاضطراب والرقص والطرب، فاستخدم من اللغة ما يوائم المعنى ويكاد يطابقه، بكل ما فيه من رقص وطرب وصخب، ولذا جاء استخدامه لواو الجمع في الفعل (سلوا ) ، وكلمة(كؤوس) بصيغة الجمع، مؤثرا إياها على صيغة المفرد. ويأتي الفعلان (لامست/مست) بصيغتهما الدالة على الزمن الماضي، ومعناهما الظاهر في الملامسة والمس، والدالان على حاسة اللمس، وما يستتبع ذلك من تصور وتخيل لحاسة أخرى هي حاسة التذوق لمذاق الخمر وشدة سورتها في الفم، ومدى ملامستها لأسنانها، وهي هنا صورة تذوقية لمسية أو لمسية تذوقية دالة على الفعل ورد الفعل المتخيل، جراء احتساء جرعة خمر دون استكمال شربها وابتلاعها. وليس من قبيل التكرار الممل تعدد ذكر الخمر بأكثر من اسم لها؛ فهي تارة (الطلا) وتارة (الراح)، وتارة (صافية)،وتارة (السلاف)، وتارة أخرى(حميا) إنها محظيته،وسميرته، ومؤنسته، فعرف أسماءها، وأنواعها، وأشكالها، وفعلها بالعقل والروح، حتى صارت قريبة منه، مدللا لها ، ومرخما لفعلها، ومستعذبها لقولها. فقد ذكرها في ثلاثة الأبيات الأولى خمس مرات.

في البيت الأول السؤال منصب على كؤوس الطلا ، هل لامست فاها؟ وكأن المحبوب هنا ليس مقصودا من السؤال، بل المقصود هو الكؤوس نفسها، ونلاحظ استخدام الفعل لامس، وما فيه من دلالة على العلو والارتفاع والسموق الذي يتناسب مع حجم رفع الكأس إلى الفم، والمكانة أو القامة التي كانت للمتغزل فيه. وفي قوله واستخبروا هي نفس دلالة السؤال في الشطر الأول، ولكن السؤال الآن موجه إلى الخمر ذاتها . هل مست ثناياها؟ وفي السؤالين كليهما شك وريب من أن المحبوب شرب الخمر أم لم يشربها؟ إن هذه الحيرة النفسية التي عبر عنها شوقي بسؤالين استفهاميين هي المراد والمبتغى. ولعلنا نلحظ استخدام الفعل (مس) يختلف عن استخدام الفعل (لامس) في الشطر الأول، فالعفل هنا دال على القرب والذوبان في ثنايا الفم.

حدد شوقي وقت الحفل في الأبيات، (باتت) ، كما حدد الفعل والحدث ، تسقيني، وكأن جملة باتت تسقيني حكاية طبيعية عن الحدث الحقيقي، فقد ساوى شوقي بين الخمر وصوت أم كلثوم العذب الجميل، فكلاهما ساحر ، آخذ بلباب العقل ، شارد في الخيال، فكما تفعل الخمر بلب عاقرها يفعل صوت أم كلثوم، بل صوتها أكثر جمالا وطلاوة.

يبدو شوقي في البيت الثالث متحسرا على شبابه، متألما لفعل المشيب به، متمنيا برهة من أيام نزقه وصباه، مستخدما أداة الشرط (لو) التي تفيد تمني المستحيل ، والمستحيل هنا هو الأمنية التي تمناها ، فقد تمنى شوقي أن تمس شفتا أم كلثوم كأسه التي يشرب منها الخمر، ثم راح يطمع أكثر من ذلك حيث تمنى لو أنها سقته هي بخمر ريقها العذب خمرا لا يظمأ بعدها أبدا.  ولكن هيهات له تحقيق ذلك، إنها أمنية صعبة التحقيق والمراد، فقد نسجها شوقي وحيا من غناء كوكب الشرق في كرمته، على اعتبار أنه شاعر وله أن يقول ما يشاء حتى لو قال ما لم يفعل، ولن يفعل، وللشعراء في تخيلاتهم مذاهب ، حيث ذهب خياله الشعري بنسج البيت على نحو ما يجري به الشعراء في خيالهم، وتصوراتهم، وهو لا يرى عيبا في ذلك، بل ما يضر لو يحدث بالقول ما لم يحدث بالفعل.

وربما أراد شوقي أن تكون (مراشفها) مقدمة على (كأسي) ، فلا بأس ، فالمعنى لا يختلف كثيرا، إذ ينصب الفعل على المحبوب هنا ، وتذوب الذات الشاعرة في نشوة المراشف ولذتها، وكلا المعنيين وحي خيال وافتراض تصور، لا بأس به.

أما البيت الرابع فله قراءتان: إحداهما قراءة شوقي نفسه، وهي الأصل ، وتكمن في قوله:

وَيَنْتَهِي فِيْهِ تَحْتَ العَرْشِ عِطْفَاهَا

هَيْـفـــاءُ كَالبـــانِ يَلْتَفُ النَـــسيمُ بِـــها

والدلالة هنا تتمركز في تشبيه المتغزل فيه بأنها ضامرة الخصر، دقيقة البطن، يتأود خصرها صعودا وهبوطا، ويسارا ويمينا، ولا سيما عندما يحرك النسيم أطراف ثيابها حول خصرها الدقيق، ويفعل الهواء ما يفعل بهذا الجسد المتأود المترنح، بدءا من أخمص قدميها حتى أعلى عنقها. وهذا النسيم العليل الذي هب من السماء لتحية أم كلثوم قد جاء خاصا بها ، وبالمكان الذي تحل فيه، وهذا يدل على إلباس البيت ثوبا قدسيا طاهرا مفاده أن السماء ترسل تحياتها إلى كوكب الشرق تقديرا لها ولحسن صوتها. وفي الواقع أن البيت يعد من أبيات المعاني، فالغموض يكتنفه من كل جانب، ولاسيما الشطر الثاني منه، ففيه من اللبس والغموض نصيب كبير، يستدعي وقوف الباحث أمام فهم الألفاظ شديدة الدقة. فالفعل المضارع (ينتهي) متبوعا بالجار والمجرور(فيه) ، وفاعله (عطفاها) فإن الباحث يقف مدققا أمام الضمير (فيه)، وإلام يعود؟، ويقف حائرا أمام كلمة (العرش) .فأي عرش يريد شوقي؟ هل هو عرش الرحمن؟ أم هل هو عرش ملك مصر؟ خاصة إذا عرفنا أن شوقي أمير الشعراء كتب أولى قصائده في أم كلثوم في افتتاح معهد الموسيقى الشرقي بالقاهرة يوم 26 ديسمبر 1929، حيث خاطب ملك مصر آنذاك أحمد فؤاد قائلا..

لَمّا بَنَيتَ الأَيكَ وَاِستَوهَبتَهُ       بَعثَ الهَزارَ وَأَرسَلَ الوَرقاءَ

.. ولذا؛ فالمعنى يميل هنا تارة وهناك تارة أخرى، وتشعر بعد الانتهاء من قراءة البيت أن الشاعر يراوغك، ويلعب بمشاعرك بين الإقصاح تارة ، والإبهام تارة أخرى،وهذا الإبهام ناتج من مخاتلة التراكيب اللغوية المؤسسة للبيت.

والأخرى قراءة أم كلثوم التي ارتضتها:

ويُلْفِتُ الــطَّيْرَ تــحـــت الـــوَشي عِــطْــفـاها

هَيْـفـــاءُ كَالبـــانِ يَلْتَفُ النَـــسيمُ بِـــها

الشطر الأول هو نفسه الشطر الأول في القراءة الأولى، أما الشطر الثاني فقد حدث فيه تعديل، حيث تم استبدال كلمة بأخرى، كما هو واضح في البيت السابق. وعنئذ يكون المعنى مائلا إلى الحسية ، لأن النسيم حينئذ يلتف بالجسم كله ، ويجسده في صورة حسية مثيرة للغرائز، وازدادت الحسية بتثنية كلمة عطف في نهاية البيت.

جَرَتْ عَلَى فَمِ دَاودٍ فَغَنَّاها

حَديثُها السِّحرُ إلا أنَّهُ نَغَمٌ

تشعر بعد قراءة البيت الخامس شعورا دينيا خالصا، يسري في ثنايا البيت كله، فمجرد ذكر (حديثها السحر) ، و(فم داود) تشعر للتو أنك قد صعدت من الشعور الغرائزي في الأبيات السابقة إلى الشعور الديني في هذا البيت، ولا عجب، فأم كلثوم تنتقي كلماتها انتقاء، بعيدا عن السفه، والنبو، وحوشي الكلام، فكأن كلامها المُغَنَّى سحر، يتسلل عبر النسيم الجميل ، والليل البهيم، إلى قلوب السامعين فيزيدهم طربا وسعادة، ويخلق لهم جوا من عالم سحري مغاير، وتكون (إلا) الاستثنائية بمثابة الاحتراز من السحر الخبيث ، المنهي عنه. وهذا الغناء العذب الجميل أو قل السحر المحبب إلى القلوب يشبه مزامير داود التي سبحت معه الطير، و داود عليه السلام قد وهبه الله من الصوت العظيم ما لم يعطه أحداً، كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء، يُرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه، كلما سبح بكرة وعشياً.

والبيت بهذا المفهوم يبرز معلما مهما في عالم شوقي الشعري الذي لم يكتشف بعد،رغم كثرة الدراسات التي كتبت عنه، وهو أن شخصية المرأة لا تتجلى في مفاتنها الحسية فحسب بقدر ما تأسر القلوب بحديثها ولفتاتها، وأن الإعجاب بشخصية المرأة لايتسرب عبر النظر، بل يؤكده الكلام أو يضعف تأثيره. فاللسان مرآة الشخصية وكاشف لعالمها، وباعث الإشارات الموجهة.

حديثها السحر أي يفعل في العقول ما يفعل السحر، وهو تناص بقول الرسول –صلى الله عليه وسلم-: إن من البيان لسحرا، وكذلك قوله (داود) فيه تناص مع قوله تعالى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) 79 الأنبياء.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: