كتابٌ وعالِم – الجزء الثاني
كتابٌ وعالِم – الجزء الثاني
النظام الضريبى فى الإسلام ودوره فى تحقيق العدالة
تحت عدسة القيثارة الشاعرة الكبيرة شريفة السيد
مفهوم العدالة:
لقد جعل الإسلام العدالة هى الأساس فى جميع المجتمعات المسلمة وعلى مستوى كافة الجوانب الحياتية لذلك ” فإن مساواة المسلمين فى حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مبدأ ذو أهمية قصوى فى النظام الإسلامى , ولتفادى تعميق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية يؤكد الإسلام على تساوى الحظوط بين كل الناس فى التعليم والتربية وفتح المجال للمعرفة العلمية , وكذا حرية الحصول على الثروة دون تمييز , والحق فى الموارد الطبيعية التى تعتبرها الشريعة الإسلامية ملكية عامة ” ( )
وبهذا تكون العدالة هى الدعامة التى يقوم عليها النظام وهى التنسيق السليم لكل بناء ( )
والعدالة كلمة تعطى مفهوما واسعا شاملا , وهى إن نسبت إلى المفهوم العام فهي تغطى كل جانب من جوانب الحياة , فهي تعنى التوازن والتعادل اللذان يتصف بهما العالم , والذي سيفقد بدونه استقراره ونظامه , ولن تبقى هناك ضوابط لتشخيص حركته . وقبل أن نشرع فى توضيح مفهوم العدالة ينبغي أن نتعرف على المدلول اللغوى لهذه الكلمة حتى يتسنى لنا الوصول إلى المفهوم الشامل الذي يوضح المعاني المتعددة للعدالة .
مفهوم العدالة اللغوى : العدل ضد الجور (الظلم) ( ) , وعدل : استقام ، وعدل الشيىء : أقامه وسواه ، والعدل : الإنصاف وهو إعطاء المرء ماله وأخذ ما عليه ، والعدالة إحدى الفضائل الأربع التى قال بها الفلاسفة من قديم الزمان ,
وهى الحكمة والشجاعة والعفة و العدالة . ( )
وبما أن العدل ضد الظلم فقد ذكر الراغب الأصفهاني بأن معنى الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء : وضع الشيء فى غير موضعه ( ) فيكون العدل : هو وضع الأمور في مواضعها( )
مما سبق يتضح لنا أن العدل هو مراعاة المساواة وعدم التفرقة , أى مراعاتها فى مجال الحقوق ، وهى من لوازم العدل .
والعدل أيضا هو إعطاء كل ذى حق حقه ، فيعلم الفرد أن له حقا وعليه واجبا يجب الالتزام به ، والعدالة أيضا بهذا المعنى تشمل العدالة فى وضع القوانين ، والعدالة فى الحكم والقضاء ، والعدالة فى الثواب والعقاب .
العدالة فى الاصطلاح الوضعى : ان القوانين الوضعية أجمعت على أن العدالة – بناءاً على المفهوم اللغوى – بمعناها الواسع تعنى تساوى أفراد المجتمع – فيمابينهم – فى الحقوق والواجبات , فبما أن لكل إنسان فى المجتمع حق التمتع بخيرات المجتمع , عليه كذلك أن يؤدى من واجبات نحو هذا المجتمع
العدالة فى الإسلام: يعتبر الإسلام العدالة مبدءاً أساسيا يجب تحقيقه فى مظاهر النشاط الإنسانى , وذلك لأن العدالة هى ميزان الاجتماع فى الإسلام , وهى التى يقوم عليها بناء الجماعة( ) , ويؤكد القرآن الكريم كثيرا على إقامة العدل كهدف فى كل مجتمع إسلامى , من أجل ذلك جاءت آيات قرآنية عديدة تبين فضائل العدالة والتى نذكر بعضها على سبيل المثال :
قال تعالى: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىَ وَيَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ)( )
وهذه العدالة كما رأينا فى الآية القرآنية تعتبر أمرا إلهيا عاما للمسلمين , وتلاها أوامر أخرى ,مثل الإحسان , وإيتاء ذى القربى , والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى , ولكن لأهمية العدل ولأنه أساس كل خير ومفتاح كل تعامل , بدأ الحق سبحانه وتعالى الأوامر به , وذلك لأنه عنوان لسائر الأفعال , فإذا ما اتسم به الإنسان كان ذلك فاتحة خير لكل ما يأتى بعده . فالمسلم حينما يكون قاضيا عليه الإنصاف بالعدل لقول الله تعالى: (إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ( )
والعدل لا يتلون ولا يتجزأ حتى لا يكون هناك مجالا للتفرقة بين موقف وآخر , أو بين شخص وشخص ,فالمسلم عليه أن يتصف بالعدل ولو كان على نفسه , أو على ذوى قرباه وذلك لقول الله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ)( )
وكذلك لو تعامل المسلم مع من يخالفه فى الرأى أو الدين فعليه أن يتعامل بالعدل التام ، وذلك لقوله تعالى: (يَا أَيّهَآ الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ للّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىَ أَلاّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَىَ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( )
ومما سبق يتضح لنا الآتى :
1-العدل – حسب الرؤية الإسلامية – أحد أصول الدين , وهو يشمل العدل بكل فروعه , العدل التشريعى , والعدل الأخلاقى , والعدل الاجتماعى , فبذلك يكون العدل عميقا فى نفوس المسلمين
2-الحكم بالعدل والقسط فى جميع مجالات حياة الإنسان أحد الأهداف الأساسية لبعث الأنبياء عليهم السلام , وقد اعتبر الإسلام أن العدل صفة الإنسان الخلوق الذى يثق به الآخرون ،إذاً فالعدل فى الإسلام هو الأساس لجميع أصول الدين وفروعه , وهو معيار تقوى الفرد , ومقياس سلامة المجتمع .
3-العدل ينشر الأمان فى المجتمعات ويوثق أواصر المعاملات , ويجعل كل طبقات المجتمع تسعى لتحقيق ما هو مطلوب منها , وذلك لأن الجميع يعلم أنه يشارك بجهده فى بناء مجتمعه , وبالتالى فإن عجز أحد أفراد المجتمع – بسبب خارج عن إرادته- عن الكسب فسيعلم أن المجتمع لن يتركه , وستغطيه عدالة هذا المجتمع .
والعدالة بهذا المعنى تشمل العدالة فى وضع القوانين , والعدالة فى الحكم والقضاء , والعدالة فى الثواب والعقاب , والعدالة الاجتماعية.
العدالة الاجتماعية وأثرها على الاقتصاد :
العدالة الاجتماعية معناها تمكين كل ذى قوة من أن يعمل بمقدار طاقته , بحيث تهيأ الفرص المناسبة لكى تظهر كل القوى وتوضع كل قوة فى مرتبتها( )
ومن الآثار الاقتصادية للتعاليم القرآنية فى هذا المجال يمكننا أن نشير إلى أن تمركز الثروة وممارسة الاحتكار- كمصدر للفوارق والمظالم- تمثل حواجز لإقامة العدالة الاجتماعية والأخوة والانسجام الاجتماعى( )
. وذلك لأن العدالة الاجتماعية تعنى تكفل المجتمع للعاجزين عن العمل لكى ينالوا حظهم فى الحياة ويجدوا قوت يومهم , وذلك بأن يهيئ المجتمع لهؤلاء المسكن والملبس والغذاء الذى يضمن لهم حد الكفاية . وليس معنى تطبيق العدالة الاجتماعية هو التسوية المطلقة بين الناس , إنما معناها تهيئة الفرص للجميع , فيتوفر التعليم ليظهر كفاءة كل فرد للتقدم والتفوق , وكذلك إتاحة فرص العمل فتظهر قدرة كل فرد لإظهار إمكانياته .
وبذلك يكون التفاضل والتقدم فى استغلال الفرص المتاحة هو السبيل للتميز فى المجتمع , وعند ذلك حينما يكون هناك عجز عن العمل – لأسباب خارجة عن إرادة الفرد – يتكفل الغنى القادر على العمل والتفوق بإخراج جزء من إيراداته لصالح الفقير , فبذلك لايحقد الفقير على الغنى , ولا يحرم الفقير من حاجاته الأساسية .
ولقد وضع الله سبحانه وتعالى الموارد الطبيعية التى خلقها فى خدمة الإنسانية جمعاء وذلك فى قوله تعالى : (وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ) ( )
. لكن الله سبحانه وتعالى حدد لنا فى الوقت نفسه بعض القواعد الهادفة إلى ضمان توزيع عادل للدخول مبنى على تعويض عادل لعوامل الإنتاج , وإلى تشجيع خلق فرص تشغيل جديدة , وإلى إنشاء نظام حماية اجتماعية بهدف المساعدة المنتظمة للفقراء والمحتاجين والمسنين والمعوقين ( )
وخلاصة القول أن الإسلام يرفع العدالة فى التوزيع إلى تصدر الأولويات فى الاقتصاد الإسلامى .
وفى مجال حديثنا عن تحقيق العدالة الاجتماعية فمن الأهمية بمكان أن نتحدث عن تحقيق هذه العدالة فى الزكاة وهى المورد الأساسى للنظام المالى الإسلامى ، لنجد أن الزكاة أبعد مدى وأعمق جذورا بالنسبة لأهدافها الاقتصادية , والتى تدور حول تشجيع الإنتاج القومى , وتأمين التشغيل الكامل لموارد المجتمع المسلم المادية والبشرية , وإعادة توزيع الثروات بأخذ هذا الحق من الأغنياء ورده على الفقراء , من خلال مصارف الزكاة المنصوص عليها فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية المطهرة . وهى بذلك تقلل من الفجوة بين الأغنياء والفقراء , بمعنى أن توزيع الثروة والدخل فى ظل تطبيق الزكاة يكون عادلا . والزكاة تعمل على الوحدة الاقتصادية بين المسلمين , لأنها تبدأ محلية ثم يتدرج تعميمها إلى أن تشمل العالم الإسلامى كله . يضاف إلى ذلك أن للزكاة أهدافا اجتماعية ,تتمثل فى خلق مجتمع متكافل تتلاقى فيه جميع القوى فى حب واحترام , يتخلص من المآثر الشخصية البغيضة , ويرتقى فيه الفرد بذاته فى نورانية تربطه بدينه وتقربه من الله , وهى تخلص المجتمع من الأثرة وحب الذات وتسود فيه المحبة والإيثار , وتنشر الحب بين الناس , وبذلك يكون مجتمعا فاضلا متماسكا .
والزكاة بدفعها إلى الفقراء تجنب المجتمع انتشار الحقد والحسد , وتجعل الوئام والطمأنينة تسود بين الناس وينتشر الاستقرار فى المجتمع , وهى بذلك تقرب الفوارق بين الطبقات .
وهكذا نرى أن تحقيق العدالة الاجتماعية يتم من خلال تشريع الزكاة – وهو ما نحاول أن نسترشد به فى وضع نظام ضريبى عادل – وذلك من حيث تطبيق قواعد الضريبة من عدالة , ويقين , وملاءمة , واقتصاد ، فإننا نجد أن هذه القواعد مراعاة فى الفكر المالى الإسلامى بنظامه المحكم ، ولعل هذا الفكر هو مصدر هذه القواعد قبل أن يتحدث عنها ” آدم سميث ” بحوالى اثنى عشر قرنا، وهذا ما سنوضحه بالتفصيل فى موضعه إن شاء الله .
وعليه فإنه من الأهمية بمكان أن نعقد مقابلة بين النظام الضريبى الحديث ، ونظام التوظيف فى الفكر المالى الإسلامى من حيث مدى تحقيق كل منهما للعدالة الاجتماعية .