علاء الدين ( ابن النفيس) القرشي          (إعادة اكتشاف)

علاء الدين ( ابن النفيس) القرشي          (إعادة اكتشاف)

عرض وتقديم: حاتم السيد مصيلحي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعد علاء الدين (ابن النفيس) ت ٦٨٧هـ عالما موسوعيا، تفوق في علوم عديدة كالفقه والمنطق، إلا أنه كان عبقري الطب العربي الإسلامي الذي سبقه إليه أبوبكر محمد بن زكريا الرازي ت ٣١٣هـ بجهوده العلاجية المكثفة، وبملاحظاته الإكلينكية الدقيقة، في أضخم موسوعة وصفية في تاريخ المعالجات: (الحاوي في الطب) والطبيب الفيلسوف أبو علي الحسين ابن سينا، ت ٤٢٨هـ، وموسوعته (القانون في الطب) التي استمرت لقرون طويلة تدرس في بلاد العرب وفي أوروبا اتفاقا.

وإذا عدنا إلى (ابن النفيس) نجده أعظم شخصية طبية في القرن السابع الهجري، وصاحب أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني ( الشامل في الصناعة الطبية) وقد وضع مسودتها بحيث تقع في ثلاثمائة مجلد، بيض منها ثمانين، وتمثل هذه الموسوعة الصياغة النهائية المكتملة للطب والصيدلة في الحضارة العربية الإسلامية بعد خمسة قرون من الجهود العلمية المتواصلة، وقد وضعها (ابن النفيس) لتكون نبراسا لمن يشتغل بالعلوم الطبية من بعده.

ويعد كتاب يوسف زيدان عن (ابن النفيس) انطلاقة جديدة حيث اتبع فيه نهجا مخالفا لسابقيه ممن تناولوا تلك الشخصية، ورفض النظرة القاصرة التي ظلت عالقة بهذا العالم بكونه مكتشف ” الدورة الدموية الصغرى ” المعروفة بالدورة الرئوية، ذلك لأن هذا الاكتشاف لا يمثل غير نقطة في بحر إسهاماته العلمية واكتشافاته العبقرية، فقد اكتشف (ابن النفيس) الدورتين الصغرى والكبرى، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية، وكشف عن العديد من الحقائق التشريحية، وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدم ـ وهذا هو الأهم ـ تصورات رفيعة المستوى في إطار المنهج والنزعة العقلانية وقواعد البحث العلمي.

١ـ نسبه وحياته:

منذ الوهلة الأولى يقف يوسف زيدان عند لقبه، الذي اشتهر به في جميع المؤلفات التي ألفت عنه وهو (ابن النفيس) حيث يؤكد أنه لم يجد في أية مخطوطة كتبت في القرن السابع الهجري على كثرة مابقي من المخطوطات المدونة في هذا القرن مايثبت هذا اللقب لصاحبه ” علاء الدين بن أبي الحرم القرشي ” ولم يعرف سوى باسمه (علاء الدين) أو (الإمام القرشي) نسبة إلى (القَرَش) وهي قرية قرب دمشق، وكان أول من استخدم لقب (ابن النفيس) عندما ترجم لعلاء الدين القرشي، المؤرخ الكبير شمس الدين الذهبي في كتابه الشهير “تاريخ الإسلام” وقد توفي الذهبي سنة ٧٤٧هـ،  أي بعد وفاة علاء الدين القرشي بستين سنة.. وتناقل المؤرخون اللقب عن الذهبي بينما أغفله الأطباء، ابتداء من تلامذة العلاء وشراح كتبه، ومرورا بكبار أطباء القرون التالية عليه من أمثال: مدين القوصوني ـ رئيس أطباء مصر في القرن الحادي عشر الهجري ـ وانتهاء بمن كشف عنه النقاب في العصر الحديث، الدكتور محي الدين التطاوي ١٩٢٤م.

ويرى يوسف زيدان احتمالا لتبرير اطلاق لقب (ابن النفيس) على الشيخ الإمام علاء الدين على بن أبي الحرم القرشي، وهو أن ثمة خلط وقع بينه وبين أحد معاصريه ممن يحملون هذا اللقب، خاصة أن منهم من يطابقه في الاسم والكنية كأبوالحسن علي بن النفيس المتوفى سنة ٦٢٣هـ.

٢ـ شيوخه:  أما عن عمل ( ابن النفيس) بالطب وتلمذته على يد ( مهذب الدين الدخوار) المتوفى سنة ٦٢٨هـ فللدكتور زيدان رأيان أحدهما سابق، والآخر لاحق:

الأول: في بداية اشتغاله وبحثه عن (ابن النفيس) في أواخر الثمانينات حيث أورد أن ابن النفيس قد تلقى علوم الطب على يد اثنين من كبار الأطباء أحدهما: عمران الإسرائيلي المتوفى سنة ٦٣٧هـ، والآخر: مهذب الدين الدخوار المتوفى ٦٢٨هـ.

ويلفت أنظارنا إلى أنه إذا كان ابن النفيس قد شرع في الاشتغال بالطب وهو في الثانية والعشرين، وإذا كان مولده سنة ٦٠٧هـ، فذلك يعني أنه بدأ دراسته الطبية سنة ٦٢٩هـ، فكيف يتفق ذلك مع ما أجمعت عليه المصادر أنه تعلم على يد الدخوار، ويبدو أن قول ابن النفيس: ” حملنا سوء الظن بأولئك الأطباء على الاشتغال بصناعة الطب ” يراد بها ممارسة الطب وليس تعلمه، مما يعني أنه كان قد سبق له أن تعلم الطب على الدخوار، ثم لم يمارسه حتى وقعت له واقعة مرضه الذي ظنه استسقاء مع أنه في الحقيقة غير ذلك.

واشتغل ابن النفيس في ابتداء الأمر كحَّالا ( طبيب عيون) كأستاذه الدخوار، ويبدو أنه بلغ قدرا كبيرا من المهارة في هذا الفن، كما يظهر في كتابين له في طب العيون هما: المهذب في الكحل المجرب، ومفتاح الشفاء في العين، لكن ابن النفيس لم يقتصر في الطب على مداواة العيون، بل درس بقية التخصصات المتاحة آنذاك، زكانت بداية ممارسته الطب بشكل عام غي دمشق، وبالتحديد في مستشفاها الكبير (البيمارستان النوري)، ثم جاء إلى القاهرة واشتغل بصناعة الطب فب أكبر مستشفياتها آنذاك (البيمارستان الناصري) وارتقى حتى صار (رئيس أطباء مصر والشام).. وقد سلك مسلك الدخوار في طابعه الموسوعي والشخصي.

أما الرأي الآخر لمؤلفنا، فجاء بعد عشر سنوات تقريبا من الأول، بعد جهد عظيم واطلاع واسع على عدد غير قليل من المخطوطات، وأثناء عمله في تحقيق موسوعة ابن النفيس (الشامل في الصناعة الطبية والصيدلانية) حيث تشكك في تلمذة ابن النفيس للدخوار، بحجة أن الأخير قد توفي قبل ذلك بعام كامل، فكيف اشتغل ابن النفيس في الطب على يديه؟ وعلى فرض أنه تعلم الطب على يديه، فلماذا لم يتناول آراءه في مؤلفاته ولو بإشارة عابرة؟!

وإن كانت كل الشواهد تثبت أستاذية الدخوار لابن النفيس؛ لكونه سار على نفس المنهج العلمي والشخصي، ولا يمكن أن يكون هذا بمحض المصادفة البحتة.

٣ـ زواجه:

أجمع الباحثون على أن ابن النفيس لم يكن متزوجا، كأستاذه مهذب الدين الدخوار، متبعين بذلك أقوال القدماء دون تدقيق أو تمحيص، وسار يوسف زيدان على نهج هؤلاء في مراحل بحثه الأولى، ولكنه عدل عن ذلك الرأي، وصرح بأن علاء الدين (ابن النفيس) كان متزوجا، وقد برهن على ذلك بما ورد في (شرح كليات القانون) وهو الذي وضعه العلاء في الأغلب قبل سنة ٦٤١هـ حينما كان في الثلاثينات من عمره، حيث أخذ يعرض بالتفصيل لكيفية العناية بالطفل الرضيع، ويسهب إسهاب المشاهد الخبير فيما يجب عمله للطفل من قماط وأغطية، وتدليل وتحريك، وبعدما استغرق عدة صفحات في ذلك، خصص عدة صفحات تالية للرضاعة، ثم قال: ” وهذا ولدي محمد في زمن طفولته، ارتضع من والدته عقيب أكلها بصلة، لعلها لم تكن بعد استقرت في معدتها، فترك الثدي في الحال واستكرهه.. فعلمت أنه أدرك منها رائحة البصل “.

ويخلص يوسف زيدان في النهاية إلى أن كلام ابن فضل الله العمري، وغيره من قدامى المؤرخين ربما كان يصدق عليه ساعة وفاته، بعد بلوغه الثمانين من عمره، ووفاة زوجته أو زوجاته! ولا يعني بحال أن الرجل عاش حياته أعزب، فكيف تجوز له العزوبة وهو الفقيه الذي علم من الخبر أن النبي ﷺ قال:” إن سنتنا النكاح.. شراركم عزابكم، أراذل موتاكم عزابكم ” مسند الإمام أحمد.

٤ـ مقبرته:

ويتناول المؤلف قصة مقبرته، ابتداء من خبر هللت له وسائل الإعلام المصرية حينئذ وهو ” اكتشاف هيئة الآثار لمقبرة (ابن النفيس) ببلدة الرحمانية إحدى قرى محافظة البحيرة، وقد تشكك زيدان في الأمر، فقام بزيارة المقبرة وتوصل للآتي:

أما عن مبنى المقبرة، فهو حديث نسبيا، لا يعود بناؤه إلى أكثر من القرن الثاني عشر الهجري، وأما المدفون، فهو نفيس الرحماني، وليس علاء الدين بن النفيس، وهذا الشيخ الرحماني هو: على بن نفيس الشافعي وهو أحد الصوفية الأشراف الذين سكنوا البحيرة، ولم يقع على ترجمة له.

٥ـ منهجه العلمي:

إن اكتشـاف علاء الدين (ابن النفيس) للدورة الدموية الصغرى، لا يمثل إلا ورقة واحدة من ملامح إسهاماته وجهوده العلمية، فالرجل عرف الدورتين الدمويتين: الصغرى والكبرى، وقدم نظرية مبهرة في كيفية الإبصار ودور الدماغ في الإدراك البصري، وصاغ المعارف الطبية والصيدلانية صياغتها الأتم في كتابه الشامل، وتوصل إلى عديد من الطرق العلاجية المبتكرة في عصره، ووصل إلى حقائق تشريحية دقيقة في أجزاء الجسم الإنساني، وغير ذلك من الإسهامات.

ويؤكد المؤلف على أن علاء الدين (ابن النفيس) من العلامات المهمة في تاريخ المنهج التجريبي، ولولا تطويره لهذا المنهج لما كان قد وصل إلى ما توصل إليه من معارف واكتشافات، فالعلم ـ قبل كل شيء ـ منهج، والتجربة هي السبيل المنهجي الأوفق للعلوم الطبيعية عموما، ولعلم الطب الذي تخصص فيه ابن النفيس خصوصا، وغالبا ما تقترن لفظتا القياس والتجربة في معرض حديث العلاء، وهو يضع في شرحه علم فصول أبقراط تعريفا يجمع فيه التجربة والقياس، بقوله: ” التجربة امتحان فعل ما يورد على البدن إما لتحقيق دلالة القياس، كما إذا دل قياس على برودة دواء، فأردنا تحقيق ذلك أو لغير ذلك ” ودلالة القياس عنده ما ينطبق من المبدأ العام على الحالات الجزئية، وقد كانت في ذهنه بعض المبادئ التي تحكم القياس، وهي في الغالب مبادئ طبية وفلسفية كان الحكماء من قبله قد أفاضوا في الحديث عنها، ومن أهم هذه المبادئ:

  • الضد للضد شفاء.
  • الأخلاط الأربعة.
  • الغائية في الطبيعة.
  • القوة الشافية الكامنة في الجسم.

ولما كان الأمر يقتضي التثبت من انطباق هذه المبادئ العامة على الحالات الجزئية فهنا يأتي دور التجربة، ومع ذلك فإن العلاء يشير في أحيان كثيرة إلى مايسميه القياس الواحد، وهو عنده بمثابة البديهة التي لا تحتاج لأي تجريب كي تثبت. وإنما هي سابقة في العقل قبل التجربة.

كما فهم العلاء ( ابن النفيس) الاستقراء واستخدامه، بمعناه الأرسطي: ” الحكم على الكلي بما يوجد في جزئياته، فكان الاستقراء عنده مقابلا من الناحية المنهجية للقياس، فإذا كان القياس انتقالا من مقدمة أو مقدمات كلية إلى نتيجة جزئية، فالاستقراء عنده وصول إلى قاعدة كلية استنادا لحالات جزئية.

وقد انتهج (ابن النفيس) منهجا لغويا للكتابة العلمية، حيث اعتنى بدلالة الألفاظ والمفاهيم الاصطلاحية، متجنبا فوضى الدلالات التي تخرج عن الحدود العلمية في الكتابة، ومن هنا كان شديد الولع بالتحليل اللغوي للمفردات، كما اهتم اهتماما كبيرا بعمليات التصنيف والتبويب وجعلها ملمحا أساسيا للبحث العلمي، وإن كان ـ على حد قول يوسف زيدان ـ لم يبتدع هذا الملمح، وإنما كان اهتمامه به حلقة من حلقات الاهتمام العلمي العربي الإسلامي من قبل علاء الدين، ومن بعده ودونوا المؤلفات المستقلة فيه.

٦ـ نزعته العقلية:

كان المنطق من وجهة نظر كثير من العلماء هو الآلة المعرفية التي بها نتوصل إلى الحقائق، حتى أن الغزالي ت ٥٠٥هـ قال: ” لا يوثق بعلمه من لم يدرس المنطق ” ويرى يوسف زيدان خطأ هذا الرأي عند ابن النفيس بعد دراسة متأنية لمخطوطه ( الوريقات في المنطق) حيث يقول علاء الدين: ” المنطق علم يتعلم فيه التمييز بين الحد الصحيح ومايجري وراءه من فاسده ومنفعته أن تعصم مراعاته الذهن من الخطأ في الفكرة ”

وقد انعكست استقلالية (ابن النفيس) العلمية بأنه أورد مبحثا لم يخطر ـ بالقطع ـ على بال أرسطو، إذ يفرد فصلا من فصول الوريقات للأدلة الفقهية، بعدّها إحدى طرق الاستدلال.

٧ـ إشكالات (الشامل في الصناعة الطبية):

ونظرا لاتساع حجم هذا الكتاب الموسوعي، وعدم وجوده مكتملا في أية مكتبة خطية في العالم، فقد تضاربت حوله آراء الباحثين المحدثين، وأثيرت حوله عدة إشكالات، إذ استغرب بعض الأساتذة المعاصرين أن يقع الكتاب في هذا العدد الكبير من المجلدات.. خاصة أن التقسيم الداخلي للكتاب لم يقع على نظام المجلدات أصلا، كما قرر البعض أن الكتاب خليط من مؤلفات علاء الدين (ابن النفيس) جمعها الرجل في موسوعة واحدة، واعتقد البعض الآخر من الأساتذة أن ثمة كتابا آخر بعنوان (الشامل في الصناعة الطبية) من تأليف أبي سعيد بن أبي مسلم بن أبي الخير الملقب بغياث الغيث.

وقد احتمعت للدكتور يوسف زيدان أجزاء الشامل المخطوطة كافة، وقد نشره في طبعة محققة تبناها المجمع الثقافي بأبي ظبي، وقد احتفت مكتبة الإسكندرية بصدوره مابين عامي  ٢٠٠٥/ و٢٠٠٦م.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: