رواية ” شَدْوُ لَارِينَ”

رواية " شَدْوُ لَارِينَ"

قراءة : أشرف خيري يوسف

 

رواية ” شَدْوُ لَارِينَ”، هي أحد الأعمال المائزة للدكتورة/ فتحية الفرارجي، رئيس قسم اللغات الأجنبية، كلية التربية، جامعة طنطا، والأستاذة المتخصصة في الأدب والنقد الفرنسي، صاحبة المؤلفات العديدة باللغتين العربية والفرنسية، الحاصلة على ليسانس من جامعة السوربون، وهي عضو بعثة الدكتوراة بجامعة السوربون باريس أيضًا، تحت إشراف البروفيسور هنري ميتران. وحاصلة على العديد من الجوائز والتكريمات المحلية والدولية. شغلت العديد من المناصب، وأجرت العديد من اللقاءات والأحاديث بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وتكتب وسائل الإعلام عن أنشطتها المتنوعة ومؤلفاتها المتعددة، ومنها كتابها المميز في أدب الرحلات: “بين النيل والسين” رحلة القاهرة لباريس الساهرة، عن دار السراج،2018م، ومن مؤلفاتها بالفرنسية: رؤية اجتماعية وأخلاقية في العمل الروائي التيبو، للكاتب الفرنسي روجيه مارتان دو جار- الحاصل على جائزة نوبل-  دار الأمير بفرنسا، 2022م.

وعن روايتها ” شَدْوُ لَارِينَ”- التي أسجل انطباعي المتواضع عنها في هذه المساحة الضيقة المتاحة لي- الصادرة عن المكتب العربي للمعارف، في طبعتها الأولى، 2021م، وتقع في 259 صفحة من القطع المتوسط، هذه الرواية التي أرى أنها أقرب ما تكون للمتوالية القصصية منها إلى الرواية، وإن كنت سأتحدث عنها بلفظ الرواية، وأي كان تصنيفها الجنسي الأدبي، إلا أنها مؤثرة وممتعة ومجهدة في آن واحد؛ لما تحمله من قضايا مجتمعية شائكة تحاكي الواقع المُعاش؛ مثل قضايا الشباب وزيادة معدلات الانتحار، وقضايا المرأة والخداع والاستغلال، والسعي في طلب الرزق ووقوع البعض فريسة من أجل هذا، والقضايا الروحية والابداعية، والجهل والخرافات، كذلك تعرض الرواية بشكل تفصيلي من خلال أبطالها لرحلة الحج لبيت الله الحرام بمكة المكرمة، وزيارة المدينة المنورة – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- كل ذلك وغيره في لغة شاعرية جميلة، فكأنك تقرأ قصص شعري، أو ربما شعر مقصوص، وفي نفس الوقت ليست لغة مستغلقة أو مستعصية أو شفرية، ولا ضعيفة بل معجمها اللغوي شفيف سليم الأداء، تبين مفراداته المٌعاشة مدى تمكن الكاتبة من أدائها اللغوي. وذلك من خلال الفصول الأربعة التي احتوتها الرواية؛ وهي على التوالي: ” إنه المايسترو الالكتروني..إنه الحلم الافتراضي” و ” بصمة القلب” و ” جزوع حورية الماضي” و ” تشكا دار السلام”. وبعد انتهاء هذه الفصول ذُيلت الرواية بالسيرة الذاتية للكاتبة.

وأول ما يستوقف القارىء في الرواية هو العنوان، الذي يقول عنه النقاد أنه العتبة الأولى، التي من خلالها يلج القارىء إلى نص الرواية: ” شَدْوُ لَارِينَ” حين تصبح الأحلام جزءًا من الواقع … وهو عنوان مُوفق، وإن كنت أري أن تكتفي الكاتبة ب ” شَدْوُ لَارِينَ” دون العنوان الفرعي. فشَدْوُ لَارِينَ، متسق مع الخط العام للرواية، وأحيي الكاتبة على اختيار اسم “لارين” أحد بطلات الرواية، هذا الإسم المتعدد المعاني في أكثر من لغة؛ ففي المعاجم العربية هو مفتاح الكعبة، وزهرة شجر البرتقال في التركية، وفي جانب منه بالفرنسية يعني الملكة، وكلها معاني سامقة.

والعتبة الثانية بالنسبة لي هي صورة الغلاف التي صممها الأستاذ/ أمجد الشامي، على شكل رأس فتاة بوجه معتم، ولا توجد بؤرة ضوء إلا في الجزء الداخلي من الرأس يحتلها راقص التنورة بزيه الأبيض وحركته الدائرية، التي تموج معها درجات اللون الأزرق الفاتح والأحرف العربية المحاطة به في شكل تشكيلي نصف دائري، يكمله الأحرف التي تخرج من فم الفتاة، وكأن ما يدور ويصنع بداخل الدماغ يخرج من الفم، وربما هي رسالة بألا نحكم على الأشياء من ظاهرها أو بسطحية دون تعمق حتى نتعرف على ما بداخلها، وربما يحمل هذا التكوين العديد من القراءات الأخرى التي لا أريد الاسترسال فيها.

ثم يأتي الإهداء الرائع الذي يكشف لنا شدة ارتباط الكاتبة بأبيها وكيف يمثل لها  النبع والمعين الفياض والنور الساطع والأمل القادم الذي تستمد منه ما تكتب.

قدمت الكاتبة “روح” أحد بطلات الرواية للقارىء في المدخل قبل الفصل الأول وهيئتها، بطبيعتها الحساسة وذاتها التي تحولت لساحة رحباء ترمح فيها بحصانها الجامح…وكأنها تستعيد ذاتها، بعد هجرانها لسنوات طويلة، وذلك من خلال مشهد اطلاع الأب على مذكرات ابنته،  فهو مشهد مثير للعديد من القضايا والاشكاليات الحياتية في واقعنا الحاضر، خاصة فيما يتعلق بعلاقة الآباء بالأبناء ومدى صلاحية ممارستهم الوصاية على الأبناء وقضية الخصوصية، وفي أي مرحلة من مراحل العمر، خاصًة أنها فتاة ومبدعة في الأدب والشعر تحديدًا، وليست ذكر، فهل إن كان ذكر سيحدث معه هذا؟ يفتش الأب في مذكراته الشخصية ويهيج حينما يقرأ أخر صفحة منها التي جاء فيها: “للعشق والحب معجزات، وفي انتظار تلبية النداء واللقاء حكايات، لكنها حكايات كلها همس.”، وغير ذلك من مثل هذه القضايا، ومن جانب أخر أظهر هذا المشهد مشاعر وحنو الأم التي هدأت من ثورة وغضب الأب بسبب ما قرأه، ثم دافعت عن ابنتها وقالت لزوجها عجيب: ” حرام نِكْبت البنت ونحاصرها دائما يا عجيب، حقيقي حرام نكبتها ونفتش في أوراقها وأدواتها الشخصية؟ الإحساس بالثقة والأمان مهم”.

عناوين الفصول وما تحويه من عناوين بداخلها، أرى أن بعضها يحتاج لإعادة نظر، على سبيل المثال؛ عنوان الفصل الأول كان يكفي أن يكون: إنه الحلم الالكتروني، دون إضافة: إنه الحلم الافتراضي، وفي الفصل الثاني: “بصمة القلب” جاءت تحته عدة عناوين أرى أن بعضها يحتاج لمراجعة مثل؛ ( تسوق وسجل دعوات- الحياة عن بعد، خطوات للوصول لمحبوبة القلب-شدو التلبية وروحانيات الطواف- وصلت للياقوتة والسعي بين قطبي المغناطيس- وعمرة في عمرة، ومن عمرة يارب إلى عمرة،..

بالنسبة للشخصيات، نعم وُفقت الكاتبة في وصف بعضها وبرعت في تقديمها لنا بشكل مقنع من خلال الحوار والوصف الخارجي والنفسي ووصف البيئة المحيطة كذلك.

والرواية بشكل عام مليئة بالمعلومات الكثيرة، صحيح هناك من يرى أن الرواية الجيدة تمد القارىء بمعلومات جديدة، ولكنها هنا  كانت كثيفة جدًا، وفي معظم الأحيان ليست في موضعها، وربما يرى أخرون أن لها ضرورة، ففي هذه الحالة أرى أن معظمها كان يحتاج لتعريف في الهامش، فهناك معلومات على سبيل المثال في بداية الرواية مثل؛ معلومة أصل الحب العذري أنه من قبيلة عذرة، أسماء الحيوانات والحشرات والأماكن وأنواع المأكولات في مطروح وغيرها، ، وصف بيوت نيوزيلاند، قول ابن القيم، وكذلك قول ابن خلدون: “أكل العرب الإبل فأخذوا منها الغيرة والغلظة، وأكل الأتراك الخيول فأخذوا منها الشراسة والقوة، وأكل الإفرنج الخنزير فأخذوا منه الدياثة، وأكل الزنوج القرود فأخذوا حب الطرب”، بعض اللهجات المحلية لبعض الأماكن كالمغرب مثل؛ ( ببوش، زوينة بالزاف، كركاع،…)، وطرق عمل طعام الكسكسي، تفاصيل رحلة الحج والتجهيز لها، وتاريخ بئر زمزم، سرد بعض تاريخ توقف الحج والعمرة -التي وصلت لأربعين مرة- حتى وصلنا لاحتلال جهيمان العتيبي في عام 1979م.

التشبيهات والتعبيرات والألفاظ واللغة الشاعرية في الرواية جميلة جدًا وناعمة مثل؛ بالونة الذكريات، لمسة أخرست ضربات الألم، كأن عقارب الساعة تتحرك في القلب، اخترق كل السُحُب الكثيفة، وكفى بالأحلام أن تنطلق وعلى الصخور الخوف ينفلق، نونان نونان.. في كل نون من النونين قلبان، ظلت كلمات تنبعث من هذا الصندوق الأسود في الصحراء وللصحراء مرايا وظل مكنون…ويظل حبك في قلبي المصقول، حكايات ألف نيلة ونيلة وليس ألف ليلة وليلة شغلت من الحياة كم ليلة، عجبًا لهذا الهواء المعتل لا العليل، كنت أود أن ألمس النسمة، إني أحب اصطياد أشعة الشمس من عينيك…لا بحثًا عن الدفء لكن بحثًا عن نور حبك في قلبي…أما الدفء فهو حقك عندي،… كما استخدمت الكاتبة ألفاظ التقنية الحديثة مثل فمتو ثانية.

وفي النهاية أستطيع القول بأننا أمام عمل رائع؛ لما تضمنه من حبكة فيها تشويق وإثارة مع المحافظة قدر المستطاع على الخط الرئيس للموضوع، ولما استخدمته الكاتبة من عبارات سهلة وبسيطة التراكيب في لغة سلسة تنقلك من عتبة إلى عتبة دون عثرات، ناهيك عن أن أركان وعناصر السرد؛ من شخصيات ومكان وزمان وحدث، وكذلك تقنياته؛ مثل الأسلوب السردي ” بما فيه من أنواع الرواة”، الحوار، والوصف،  والرمزية مثل حرف النون، كل ذلك حاضر إلى حد ما؛ فضلاً عن اللغة وتشبيهاتها وتصويرها، ،… إلخ، وبالطبع كل هذا في خدمة موضوع الرواية الرئيس، إضافة للموضوعات والقضايا الأخرى المطروحة بها، فضلاً على المعلومات الثرية الجديدة على بعض القراء، والتي أشرنا إليها من قبل.

وأخيراً لا يسعني إلا أن أهنىء الكاتبة والقارىء العربي الذي اترك له الفرصة ليستمتع بقراءة هذا العمل والتعرف على تفاصيله التي لا تسمح المساحة المتاحة بسبر أغوارها.

أشرف خيري يوسف

باحث في التاريخ والتراث المخطوط

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: