الشاعر و القبيلة .. انحراف مسار

د. أحمد فرحات
ارتبط الشاعر بالقبيلة ارتباطا وثيقا في العصر الجاهلي، وغدا الشاعر لسان قبيلته، ووسيلة إعلامها، والمتحدث الرسمي باسمها في مختلف المحافل الرسمية وغير الرسمية، وجاء صوت الشاعر مجلجلا معبرا عن طموحاته، وطموحات قبيلته في صورة فخر ذاتي أو قبلي.
ويكون الصوت أكثر علوا إذا أراد الشاعر علوه وارتفاعه، وذلك يتأتى من الإحساس العميق بنشوة النصر، وما تحدثه هذه النشوة من زهو وخيلاء في نفس الشاعر. وكذلك أيضا في نفوس أبناء القبيلة إن كان قائما على افتخار العشيرة بما هي عليه من قوة وعزة، ومكانة مرموقة بين القبائل الأخرى، لا سيما في مجتمعات قبلية تتمثل فيها الوسيلة الأولى لضمان حياة حرة كريمة.( )
وعرفت في المجتمع الجاهلي أصوات أخرى تبحر عكس التيار، وتنحرف بمسارها عن الطريق التي رسمته القبيلة، وتمثل ذلك في شعر الشعراء الصعاليك، وشعر المنصفات؛ فشعر المنصفات لون من ألوان الشعر العربي يسير في اتجاه معاكس لاتجاه الشعراء في فخرهم بذواتهم وذويهم، ويقف من الخصم موقفا مغايرا لما عرف عن معظم شعراء العصر الجاهلي من ازدراء بالخصم، واستهانة به خاصة عند النصر عليه. فجاء صوت الشاعر المنصف متهدجا تارة، ومرتفعا أخرى، ورافضا في أحيان كثيرة. وصوت الرفض الذي أعلنه الشاعر الجاهلي كان قاصدا به قبيلته لأنها استسلمت، وربما فرت من ساحة الميدان، فجاء صوت الشاعر رافضا هذا المنزع الخجولي، ومعلنا العصيان لقبيلته، ومعلنا رضاه عن القبيلة التي انتصرت، وربما مدحها.
عمرو بن مَعْدِيكَرِبَ الزبيدي له تجربة في هذا المعنى، وذلك عندما وقف من قبيلته موقفا يعلن من خلاله رفضه لسلوكها في الحرب، ومعلنا رضاه المطلق للقبيلة التي هزمته، فقال(الطويل):
ومُرْدٍ عَلَى جُردٍ شَهِدْتُ طِرادَها
قُبيلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أو حِينَ ذَرَّتِ
صَبحْتُهُمُ بيضاءَ يَبرُقُ بَيضُها
إذَا نظرَتْ فِيها العيونُ ازمَهرَّتِ
ولمَّا رأيتُ الخيلَ رَهواً كأنَّها
جَداوِلُ زرعٍ أُرسِلَتْ فأسْبَطرَّتِ
فجَاشَتْ على النَّفسُ أولَ وهلةٍ
وَرُدَّتْ علَى مكرُوهِها فاستقرَّتِ
علامَ تقولُ الرُمحُ يُثقلُ عَاتِقِي
إذَا أنَا لمْ أطعُنْ إذ الخيلُ ولَّتِ
عَقَرْتُ جَوادَ ابنْي دُريدٍ كليهِما
ومَا أخَذَتْني في الخُتُونَة عِزَّتي
لَحَا اللُه جَرْماً كلَّمَا ذَرَّ شارقٌ
وُجوهُ كِلابٍ هَارَشَتْ فازبَأرَّتِ
ظَلِلْتُ كأنَّي للرماحِ دريّئَةٌ
أُقاتِلُ عَنْ أبناءِ جَرْمٍ وفرَّتِ
فلمْ تُغنِ جرْمٌ نهْدَهَا إذْ تَلاقيَا
ولكنَّ جَرماً في اللقاءِ ابْذَعَرَّتِ
فلو أنَّ قومِي أنطقتِني رمَاحُهُمْ
نطقتُ ولكِنَّ الرِماحَ أجرَّتِ( )
فالشاعر يعبر عن شدة سخطه وغضبه لفرار قبيلته وهروبها، ويلمح بإعجابه بالقبيلة المنتصرة، ويصف جنودها بأنهم مرد قد امتطت جردا، ويمدح كثرة عددهم، وأن العين إذا نظرت اليهم ازمهرت، وقد جاء الأعداء راكبين خيولهم مسرعين كأن الخيل من كثرة عددها وتتابعها أمواه أنهار كيرة وممتدة في سرعة فائقة، لا يستطيع هو وقبيلته اللحاق بها، وهو عندئذ ارتاع وفزع بادئ الأمر، لكنه سرعان ما تماسك، وثبت في المعركة وحده، في الوقت الذي فرت فيه قبيلته، وهو قد حاول أن يثبت بني قومه ليحاربوا بجانبه؛ فعقر جواد ابن دريد كي يثبتوا ويقاتلوا، لكنهم لم يسمعوا له، وهربوا وتركوه وحده. ثم ارتفع صوته لائما قبيلته، داعيا عليها بالهلاك، ثم وصفها وصفا قبيحا لينفر منها ومن جرمها، فشبهها بوجوه كلاب وقد انتفش شعرها حتى ظهر أصله، وقد تجمعت للوثب.
وتعبر الأبيات عن إدراك فني رفيع، فالقصيدة نفثة شعورية صادقة وصارخة في وجه القبيلة التي فرت، واستطاع التشبيه أن يجسد هذه النفثة الشعورية فقوله(الخيلَ كأنَّها جَداوِلُ زرعٍ أُرسِلَتْ فأسْبَطرَّتِ) تشبيه يقوم على إبراز صورة جيش الخصم؛ فخيولهم في تتابعها وامتدادها وكثرتها تشبه الأنهار التي تروي الزرع ولا تسير في طريق محدد، بل تتمايل هنا وهناك لتصل إلى كل الأماكن. فالتشبيه هنا يدل على كثرة الجيش، وامتداده، وتتابعه، مما جعله أن يعلن في صراحة أن نفسه قد جاشت لأول وهلة، حتى حدثته نفسه بالهرب، لكنه أمرها بالثبات، واختار الشاعر لذلك كلمة “استقرت”دلالة على ثبات النفس وتماسكهاأمام شعور قد يذهب به بعيدا عن الثبات والاستقرار، ثم يأتي التشبيه الآخر” ظَلِلْتُ كأنَّي للرماحِ دريّئَةٌ” وهو تشبيه يقوم على إبراز جانب الإنصاف؛ لأنه صور الأعداء وهم يصوبون رماحهم في صدره كأنه أصبح حلقة يتعلم عليهاا الرماة الرمي، دلالة على حسن استعداد الخصم للقتال، وتماسك قواه في مواجهة قبيلة الشاعر، ثم نصل إلى مفارقة شديدة الأهمية في إبراز هذا الجانب، فهو يذب عن أبناء قبيلته وقد فرت، ولم تصبر على الثبات.
ويؤكد هذا المعنى باستخدام دلالات بعض الألفاظ فقوله” ابْذَعَرَّتِ ” يوحي بهروب القبيلة وعدم استطاعتها على الثبات، كما يوحي بحزن الشاعر تجاه موقف قبيلته. أما البيت الأخير فهو بمثابة الصرخة الكبرى التي أطلقها رافضا من خلالها تصرف القبيلة عن طريق أسلوب الشرط المتبوع بأداة التوكيد واستخدام أداة الاستدراك (لكن) التي أفادت كثيرا في التحول إلى الثناء على القبيلة المعادية وأن رماحهم قد منعته عن الكلام.
إن الشاعر يرفض الإذعان لسلطة القبيلة، على عكس دُرَيد بن الصِّمَّةِ الذي أعلن رضوخه واستسلامه المطلق لقبيلته، إن هي جارت يجور، وإن هي عدلت يعدل، فهو لا يخالف رأيها مهما كانت الظروف.
وقد يضطر الشاعر إلى إعلان حبه وإعجابه الشديدين بقبيلة أخرى لمجرد وقوفها معه موقفا نبيلا، كالذي حدث مع قريط بن أنيف؛ فالشاعر نظر إلى قومه فوجدهم ضعافا، لا يلبون نداء المستغيث بهم، ولا يستطيعون حماية أحد أفرادها من ظلم قد يقع به، فلامهم لوما لا يخلو من التهكم والسخرية، وأراد أن يستبدل بقومه قوما آخرين، يتسابقون في نصرة من يلجأ إليهم، مستعينا بهم، فقال قريط بن أنيف متهكما بقومه، مادحا بني مازن الذين نصروه(البسيط):
لَو كُنْتُ مِنْ مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبلي
بَنُو اللّقِيطَةِ مِنْ ذُهْلِ بنِ شَيبَانَا
إِذَنْ لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ
عِنْدَ الكَرِيهَةِ إِنْ ذُو لوثَةٍ لَانَا
قَومٌ إِذَا الشَّرُّّ أَبْدَى نَاجِذَيه لَهُمْ
طَارُوا إِلَيهِ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
لَكِنّ قَومِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ
لَيسُوا مِنَ الشَّرِّّ في شَيءٍ وَإنْ هَانَا
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً
وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
كَأَنَّّ رَبَّّكَ لَمْ يخْلُقْ لِخِشْيَتِهِ
سِوَاهُمْ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا
فَلَيتَ لِي بِهِمْ قَوماً إذَا رَكِبُوا
شَنّوا الإغَارَةَ فُرْسَانا وَرُكْبَانَا
لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ
في النَّائبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
لَكِنْ يَطِيرُونَ أَشْتَاتا إِذَا فَزِعُوا
وَيَنْفِرُونَ إِلَى الغَارَاتِ وُحْدَانَا( )
فالشاعر في هذا الموقف في خصومة مع قومه؛ لأن قومه -كما قال – لم ينصروه، بل خذلوه، وأنجده بنو مازن، وذلك عندما أغار على بعض إبله بنو شيبان، وأخذوا ثلاثين بعيرا، فهو في حيرة شديدة: إما الوفاء لقومه، والإخلاص لهم، والانصياع لأوامرهم، كما كان يفعل دُرَيد بن الصِّمَّةِ؛ وإما أن يهجرهم، ولا يبالي مغبة ذلك، وأيا كانت النتائج فالمهم إبله والحصول عليها، فهو لاشك واقع تحت مطرقة العادات، وهذا ما جعله يختار الاختيار الأصعب، وهو الانحياز لقبيلة غير قبيلته، يحتمي بها؛ لأنه نشد فيها بغيته، ووجد ضالته، فراح يمدحهم،ويشيد بنجدتهم، ونصرتهم للصريخ،بل أعلن عن شدة إعجابه بهم، وببسالتهم، وأنهم قوم لا يسألون المستغيث بهم برهانا على ما يدعي. وفي الوقت نفسة راح يتهكم بقومه، ويلوم عشيرته، ويعلن في صراحة تامة نقمته على قومه، وازدراءه من كثرة عددهم، بسبب ضعفهم، وجبنهم( ).
وإذا حاولنا توكيد هذه العلاقة المضطربة بين الشاعر وقبيلته فإننا لا نكون منصفين، وإنما هو صوت من أصوات الشعراء الجاهليين تجلى في بعض القصائد، وفي مجال الدراسات الأدبية يجدر بنا أن نتناول كل الأصوات التي تعبر عن مضامين فكرية، وآراء مغايرة لما عليه العرف العام في هذا العصر أو ذاك. وفي سبيل توضيح علاقة الشاعر بقبيلته على أساس أنها انحراف مسار عن نظام متصل، لا بد من الوقوف أمام قصيدة الحارث بن وَعْلَة الشيباني الذي وقع في خصومة أشد من الشاعر قريط بن أنيف؛ لأنه في هذه الخصومة يعرض فكرته بكل حزن، وغضاضة نفس، وذلك لأن قومه قتلوا أخاه، والخصومة هنا أشد من تخاذل القبيلة السابقة مع شاعرها؛ لأنها تجاوزت أهم خصوصيتها، وهي الحفاظ على الأفراد، وحمايتهم، والذود عنهم. وموقف الشاعر هنا موقف أشد صعوبة من سابقه، فيقول( )(الكامل):
قَومِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيمَ أَخِي
فَإِذَا رَمَيتُ يُصِيبُني سَهْمي
فَلئنْ عَفَوتُ لأعْفُوَنْ جَلَلا
ولئنْ سَطوتُ لأوهِنَنَّ عَظْمِي
لا تَأْمَنَن قَومَاً ظلمْتهم
وبدأتهم بالشتم والرغمِ
أَنْ يَأْبِرُوا نَخْلاً لِغَيرِهِمِ
وَالشَّيءُ تَحْقِرُهُ وَقَدْ يَنْمِى( )
وَزَعَمْتُمْ أنْ لا حُلومَ لَنَا
“إنّ العَصَا قُرِعَتْ لِذِي الحِلْمِ”
ووطئتنا وَطْأً عَلَى حَنَقٍٍ
وَطْأَ المُقَيِِّدِ نَابتَ الهَرْمِ( )
وتركتنا لحماً علَى وضمٍ
لو كنتَ تَسْتبقِي مِن اللحم
يتحدث الشاعر إلى محبوبته أميمة واصفا حالته شديدة الحزن، نتيجة اعتداء قومه على أخيه وقتلهم له، مما أوقعه في حيرة من أمره شديدة، أيقاتل قومه، ويرميهم بالسهام؟! فإذا فعل ذلك فسيصيبه سهمه في مقتل؛ لأنه لم ينس أنه منهم، فهم قومه وعزوته، وإليهم ينتسب، ولئن عفا عنهم فسيقع في مأزق أشد صعوبة، وهو استهانة أمره بين القبائل الأخرى، وضياع هيبته، ويكون بذلك عُرْضةً للقبائل الأخرى. إذن فما موقف الشاعر إزاء قومه الذين قتلوا أخاه؟ إن الشاعر يعلن موقفه في صراحة وشجاعة مجردا من نفسه ذاتا ينهاها عن معاشرة قوم أعلن الانسلاخ عنهم وبدأهم بالسب والشتم، بل يعلن أنه لايأمنهم بعد أن أساء معاملتهم.
وجملة القول في ذلك، أن الشعر الجاهلي في علاقة الشاعر بقبيلته لم يكن مطردا، بل تنوعت الأصوات المنادية بهجر القبيلة، وإعلان العصيان عليها. وشعر المنصفات وقف إزاء القبيلة موقفا وسطا؛ فلم يذم القبيلة، ولم يمدحها مدحا مطلقا، واتخذ من العدل والإنصاف معيارا للحكم والقياس بين الشعراء. فلننظر إلى قول عبد الشارق بن عبد العزى( )(الوافر):
شَدَدْنا شَدَّةً فقَتَلْتُ مِنْهُمْ
ثَلاثَةَ فِتْيَةٍ وقَتَلْتُ قَينا
وشَدُّوا شَدَّةً أُخْرَى فَجَرُّوا
بأَرْجُلِ مِثْلِهِمْ ورَمَواْ جَوَينا
فآبُوا بالرِّمَاحِ مُكَسَّراتٍ
وأُبْنَا بالسُّيوفِ قَدِ انْحَنَينا
وباتُوا بالصَّعِيدِ لهُمْ أُحَاحٌ
وَلَو خَفَّتْ لَنَا الكَلْمَى سَرَينا( )
فالشاعر لم يعظم من شأن قبيلته، إلا بمقدار ما عظم من شأن القبيلة الأخرى، وساوى بين القبيلتين في كل شيء، ولم تمل كفة فريق على حساب الآخر، ومثل هذه النظرة المنصفة كانت المنطلق الذي انطلق منه الشعراء المنصفون، وذلك بأن نظروا بعين الإنصاف إلى الفريقين، فلهم مثل ما عليهم، فالمساواة بين القبيلتين في الضرب والطعن، وتكافؤ الفريقين في عدد القتلى، والجرحى، كان موقفا جليا في شعرهم، ويؤكد هذا المعنى شاعر آخر من شعراء المنصفات هو المُفَضّل النُّكْرِيّ الذي يقول( ): (الوافر)
بكَلِ قَرارةٍ وبِكُلِّ رِيعٍٍ
بنَانُ فتىً وجُمجُمةٌ فَليقُ( )
وكمْ مِنْ سَيدٍ منَا وَمِنْهُمْ
بذِي الطَرْفاءِ مَنطِقُهُ شَهيقُ( )
بكُلِّ مَجالةٍ غادَرْتُ حِزقاً
مِنْ الفِتيانِ مَبسِمُهُ رَقيقُ( )
ويمكن أن ننظر في شعر المنصفات نظرة واعية ترينا إلى أي مدى استطاع الشاعر المنصف أن يكون عادلا في توزيع أفكاره وآرائه بالتساوي بين قبيلته والقبيلة الأخرى، على نحو ما يتجلى ذلك عند الشاعر أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت ( )(الوافر):
كَأَنَّ أَكُفَّهُم عَذَبٌ مُلقَّىً
وَحُمّاضٌ بأَيدي مُعلِنينا( )
فَجاؤُوا عَارِضاً بَرِداً وَحيناً
كَمِثلِ السَيلِ يَمنَعُ وَارِدينا
وَشَيبُ الرأَسِ أَهوَنُ مِن لِقاهُم
إِذا هَزّوا القَنا مُتقابِلينا
كأَنّ رِماحَهُم سَيلٌ مُطِلٌّ
وأَمساكٌ بَأَيدي مُورِدينا( )
فَلَمّا لَم تَدع قَوساً وَنبلاً
مَشَينا النِصفَ ثُم مَشَوا إِلينا
فَذادُونا بِبيضٍ مُرهَفاتٍ
وَذُدناهُم بِها حَتّى اِستَقَينا
ومن ناحية أخرى، فإن التوجه إلى شعر المنصفات في العصر الجاهلي لم يكن توجها عاما بل كان توجها فرديا، فالشاعر كان أحيانا يضطر إليه اضطرارا عندما يقع تحت ظرف معين، بدليل أن الشاعر عبد الشارق بن عبد العُزّى والمُفَضّل النُّكْرِيّ وهما صاحبا منصفتين كبيرتين لم أجد لهما شعرا غير هاتين المنصفتين، أما خِدَاشُ بن زُهَير والعَبَّاس بن مِرْدَاس فلهما شعر في غير الإنصاف كثير، كما أن لدُرَيد بن الصِّمَّة ديوان شعر كبير وله من المنصفات عدد أبيات قليلة جدا إذا ما قورن بشعره إجمالا.
ولكن لكثرة من تناول هذا الشعر في العصر الجاهلي فقد غدا ظاهرة يجدر الوقوف أمامها، وبيان ما فيها من سمات وخصائص مغايرة أحيانا لنمطية إيقاع الشعر العربي من حيث لقاء العدو وتصوير المعركة، إذ إن الغالب في هذا التصوير أن يكون مبالغا فيه أحيانا. يبقى أن ندلل على ما قلناه بشأن التوجه الفردي في شعر المنصفات، يقول دُرَيدُ بنُ الصِّمَّة ستة أبيات وردت بديوانه(الكامل):
ما إن رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثله
حامِي الظّعينة فارساً لم يُقتل
أردَى فوارسَ لم يكونوا نُهْزةّ
ثم استمرّ كأنه لم يَفْعل
مُتهلِّلاً تَبدو أَسِرَّة وجهه
مثل الْحسام جَلَتْه كفُّ الصَيقل
يُزْجِي ظَعينَته ويَسْحب رُمْحه
مُتوجهاً يمنَاه نحو المَنزل
وتَرى الفوارسَ من مَهابة رُمحه
مثلَ البُغاث خَشِين وَقْع الأجْدل
يا ليتَ شعْري مَن أبوه وأمّه
يا صاح مَن يَكُ مثلَه لا يجهل( )
والأبيات كلها مدح في خصمه، وإعجاب بشجاعته، ولها قصة طريفة( ) وردت في ديوان دريد. إذن فالقصة والأبيات ذات موقف معين، ألزمت دريدا بالإنصاف، وذكر مناقب عدوه من إظهار شجاعته، وشدة بأسه. لكن السؤال هنا هل شعر دريد كله فيه إنصاف كما هو موجود في الأبيات السابقة؟ لا نستطيع أن نجزم بأن شعره عار من الإنصاف، فقوله في قصيدة رثى بها أخاه(الطويل):
فَمَا رِمْتُ حَتّى خَرّقتني رِمَاحُهُمْ
وَغُودِرْتُ أكْبُو في القَنَا المُتَقَصِّدِ( )
ينم عن شاعر منصف لم يترك لخصمه ميزة إلا ذكرها، وألقى عليها الضوء، كاشفا عن ميزاته. وله في نفس القصيدة التي رثى بها أخاه معنى يغاير الإنصاف وهو قوله( )(الطويل):
وَمَا أَنَا إِلا مِنْ غَزِيّةَ إنْ غَوَتْ
غويتُ وإنْ ترْشُدْ غَزِيةُ أرشدِ
والمعنى أنه تابع لقبيلته في حالتي الهداية والضلال فإن بغتْ بغى معها، وإن اهتدتْ اهتدى معها أيضا، فأمره راجع إلى قبيلته في العدل والظلم، في الحق والباطل. ومثل هذا المعنى كثير في القصيدة الجاهلية ولدى معظم شعرائها.
إذن، لم يكن الدافع إلى الإنصاف دافعا جماعيا نابعا من توجه جماعي؛ بل اتسم الإنصاف في الجاهلية بالتوجه الفردي، وبناء على الموقف الذي يوضع فيه الشاعر. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحتاج إلى بيان، حتى مع عنترة بن شداد الذي عرف عنه الفتك وشدة البطش بأعدائه؛ فعنترة له أبيات تعد نموذجا للإنصاف، فقد نسب إلى خصمه صفات وخصالا تماثل ما نسبه إلى قبيلته من عبس، ولم يترك شيمة من شيم الرجال الصناديد إلا ونسبها لخصمه، فقال( )(الطويل):
فلم أرَ حيّاً صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا
وَلا كَافَحُوا مِثلَ الذينَ نُكَافِحُ
إِذا شِئتُ لاقاني كَميٌّ مُدَجَّجٌ
عَلى أَعوَجِيّ بِالطِعانِ مُسامِحُ
وأقبل صفّانا وفي عارضيهما
جنيّ تُرى فيه البروق اللوامحُ
إِذا أَقْبَلُوا في السَّابِغاتِ حَسِبتَهُم
سُيولاً إذَا جَاشَتْ بِهِنَّ الأبَاطحُ
كأنَّ القَنَا الخطِّيَّ فِينَا وفيهمُ
شَوَاطنُ بئرٍ هَيَّجَتْهَا المَوَاتِحُ
وثَمَّ فَرَقْنَا بالرّمَاحِ ولمْ يَكُنْ
هُنَالِكَ في جَمْعِ الفَرِيقَينِ رَامِحُ
وَدُرْنَا كَمَا دَارَتْ عَلَى قُطْبِهَا الرَّحَى
وَدَارَتْ عَلَى هَام الرِّجَالِ الصَّفَائحُ

مقالات ذات صلة

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: