“كِتابٌ أُحكِمتْ ءَايَاتُه”

"كِتابٌ أُحكِمتْ ءَايَاتُه"

بقلم: الأستاذ الدكتور رجب إبراهيم أحمد

الأستاذ بجامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه

 

تزداد النفس إقبالا على القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك وذلك لما يحدثه فيها الصوم من تصفية وتزكية فتصبح مؤهلة لاستكناه وفهم وتدبر معاني الذكر الحكيم، ويشعر القلب حينها بعظمة هذا الكتاب الذي أحكم الله آياته. ومن ذلك:

الاتساق بين اللفظ والمعنى:

وهذا من تفردات الأسلوب القرآني ؛ فلا تجد لفظا بعيدا عن الدلالة على المعنى، بل العكس تشعر أنك لو حذفت هذا اللفظ لن يتبين دلالة المعنى كما كان الحال مع اللفظ المحذوف. ومثال ذلك لفظ “ضيزى” في قول الله تعالى:”أَلَكُمُ الذكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى” “النجم:21-22″

فاللفظة بثقل حروفها تشعرك بثقل القسمة الجائرة وظلمها التي أقامها المشركون بأن جعلوا لهم الذكور، وجعلوا لله الإناث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . وإلى هذه المزية الأسلوبية يشير الجاحظ:” وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله –

تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة

وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام والعامة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وذكر الغيث، ولفظ القرآن الذي عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع وإذا ذكر سبع سموات لم يقل الأرضين. ألا تراه لا يجمع الأرض أرضين ولا السمع أسماعا ؟ والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال. وقد زعم بعض القراء أنه لم يجد ذكر لفظ النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج والعامة ربما استخفت أقل اللغتين وأضعفهما وتستعمل ما هو أقل في أصل اللغة استعمالا وتدع ما هو أظهر وأكثر. ولذلك صرنا نجد البيت من الشعر قد سار ولم يسر ما هو أجود منه وكذلك المثل السائر وقد يبلغ الفارس والجواد الغاية في الشهرة ولا يرزق ذلك الذكر والتنويه بعض من هو أولى بذلك منه ألا ترى أن العامة ابن القرية أشهر

عندها في الخطابة من سحبان وائل …”

المعرفة الكاملة الواعية بالنفس الإنسانية

فالله عز وجل هو الذي خلفها وسواها وألهمها فجورها وتقواها “هوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْ تُمْ أَجِنةٌ فِي بُطُونِ أُمهَاتِكُمْ ” فهو يعلم غرائزهم المحبة للمال والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وزينة الحياة من المال والولد والخيل المسومة والأنعام والحرث قال تعالى:” زُينَ لِلناسِ حُبُّ الشهَوَاتِ مِنَ النسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذهَبِ وَالْفِضةِ وَالخَيْلِ الْمُسَومَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ” وقال أيضا :” وَتُحبُّونَ الْمَالَ حُبا جَمًّا”

فخطاب القرآن مبذول لهذه النفس البشرية التي يعرفها جيدا، ويعرف ما يصلحها وما يفسدها فيرغبها أحيانا، ويخوفها ويرهبها أحيانا أخرى. إلى غير تلك الأساليب الأخاذة التي يضيق المقام عن ذكرها، فحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوارما أحاط بالمعصم. ولو راح كل ذي لَسَن ليحيط بوجوه إعجازه لعاد بادي العي صميتا.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: