الخطاب القانوني وإمكانات اللغة

الخطاب القانوني وإمكانات اللغة

الدكتور أيمن أبومصطفى

 

كما أن هناك بصمات للأصابع ، فإن هناك بصمات للكلمات، فهناك أشخاص تكثر لديهم بعض التعبيرات وتتكرر بشكل كبير، مما يجعل أسلوبهم معروفا، وهذه البصمة أحيانا يتم الاستناد إليها لكشف الجرائم.

فيمكن للكلمات التي يستخدمها المجرم -سواء في الكلام أو في النصوص- أن تساعد أيضا في التعريف إلى الهوية، وثمة حالة غير إجرامية شهيرة جدا ففي العام 1996 تم نشر قصة الألوان الأساسية وهي كتاب أخفى بطريقة ضعيفة تصرفات الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ، وكان من تأليف شخص عرف عن نفسه ببساطة بأنه “مجهول الهوية” فقام أستاذ أمريكي بتحليل النص في جهاز الكمبيوتر الخاص به ، وعثر على العديد من الكلمات والعبارات غير الاعتيادية التي أكدت أن المؤلف هو صحافي مشهور.

كما أن علماء النفس يستطيعون الكشف عن صفات الشخصية من خلال الكلمات والعبارات التي يستخدمها.

تولي التداولية اهتماما كبيرا للأبعاد الضمنية والمضمرة في الخطاب؛ ِّ إذ تقرر أن الملفوظات تحتوي على جوانب ضمنية وخفية، يمكن استنباطها، فالكلام لا يعني التصريح بل يعني أحيانا حمل المستمع على التفكير في شئ ما.

ومن هنا فإن اهتمام المهتمين بالقانون بدراسة اللغة أمر في غاية الأهمية، ومن مجالات دراسة اللغة دراسة استخداماتها الاجتماعية ‘ فاللغويات الاجتماعية تهتم بدراسة اللغة في المجتمع وتدرس كيف أن اللغة تختلف باختلاف مستخدميها واختلاف الاستخدامات التي من أجلها وضعت. تتنوع استخدامات اللغة ومستخدميها عن طريق عدة متغيرات كنوع الجنس والعرق والسن والموقع الجغرافي والمهنة ومستوى التعليم.

ويهتم اللغويون الاجتماعيون بالسياقات الاجتماعية لإنتاج اللغة وتفسيرها. فيقومون بتحليل الاتصال من خلال مراقبة دقيقة لحالات وظروف الاستخدام، فيجب علينا أن نأخذ في الاعتبار جميع المتغيرات السياقية التي تؤثر في الخيارات اللغوية.

ويبرز البعد الوظيفي خلال وظيفتين شاسعتين للغة: المرجعية والعاطفية. الخطاب الجنائي هو في معظمه خطاب مرجعي يكون فيه المحتوى المعلوماتي عاليا والمحتوى العاطفي منخفضا .

فالقانون يمثل نظام القيم في المجتمع فيفرض الحقوق والالتزامات ،وتكون لغته مهمة جدا فالدليل اللغوي له أهمية اجتماعية ؛ لأنه قد يكشف عن مشاكل سوء الفهم أو يسهم في إدانة المذنب وتحرير البريء.

فاللغة دائما تقع في ظروف اجتماعية،وهذا ما جعلها حقلا خصبا للدراسات التداولية، فإن البراغماتية وعلم اللغة الاجتماعية متداخلان. فإننا ندرك المعنى من السياق، لذلك، على سبيل المثال، نحن نفهم أحكام المخاطبة (الألقاب: السيدة، الدكتور؛ القرابة: أمي، جدتي؛ التحبب أو التودد: الحب، الحبيب) اعتماداً على السياق الذي نحن فيه. لا يمكن أن نتوقع أن ننادى بالحب أو الحبيب في لقاء رسمي مع الشرطة، وإذا ما استخدمت هذه العبارات في هذا السياق فإن هذا قد يؤدي إلى الشعور بالتهكم، ولكن من غير المحتمل أن يُقصد بها الإهانة عند استخدامها في سياقات حميمة. هناك العديد من القصص الصحفية حول هذا الموضوع، مثل «لا تتهكم بي، يا عزيزي».

فالقانوني يقف عند كل لفظ محاولا استكشاف ما يشير إليه من نفس قائله،فقد تقول (حسنا) وأنت ترفض الكلام، وتستفز بهذه الكلمة المتلقي، فأنت تقر بشيء هو يراك لا تقر به، فتتيح لنا البراغماتية شرح المبادئ التي يُعمَلُ بها في المحادثات وبخاصة المحادثات القانونية. ويعد مبدأ جرايس التعاوني (Grice,1975) المنشور في (Jaworski and Coupland,2006) مبدأً براغماتياً حيث يقتضي أن يكون إسهام الفرد في المحادثة وقت حدوثها بالقدر الذي يتطلبه الغرض المتفق عليه أو اتجاه تبادل الكلام الذي يشارك فيه الفرد.

فهل تكون  قاعة المحكمة (وغرفة المقابلة في الشرطة) أماكن يكون فيها التفاعل تعاونيا؟

في الحقيقة إن طبيعته ذلك الحوار تكون جدلية فمن غير المحتمل أن يفترض أي من الطرفين أثناء الاستجواب أن الآخر يفي بأي من قواعد مبدأ التعاون وهي الكيف والملاءمة والكم بشكل .

فالشهود يتوقعون أن يتعرضوا للخداع أثناء الاستجواب وأن التعاون في الإجابة على الأسئلة سيؤدي مباشرة إلى هيمنة المحامي، فنجد مقاومة ومراوغة كلامية، حيث يحاول كل طرف أن يبتعد بالآخر عن الهدف الذي يريده.

ومن هنا نجد أهمية الوقوف التداولي على تلك اللغة التي يستخدمها المحامون وأصحاب المهن القانونية لمحاولة السيطرة على الشهود أو القضاة وكيفية تقديم الحجج، والطرق التي يشير بها المتحدثون للمعنى، وطرق استخدام التلطف والفظاظة في الحديث، والطرق التي يتبعها المتحدثون المهنيون في مواجهة المتحدثين من العامة وإجبارهم على الحديث.

فتحليل الخطاب القانوني يتجاوز المعاني الحرفية إلى معاني سياقية فوق مستوى الجملة فيما يخص هيكلة النص وتكوين الموضوع وتبادل الأدوار، وأيضاً على مستوى الكلمة أو الأداة فيما يخص استخدام محددات الخطاب ومصطلحات المخاطبة والسكتات والتأتأة أو التردد في الكلام وحتى التهكم. وتغير حدة الصوت والخصائص اللغوية المحاذية (الإيماءات، التحديق، تعابير الوجه) ويدرس الخصائص البراغماتية مثل المقاطعة والملاطفة وصياغة السؤال.

فنحن نحاول أن نلفت بأن دراسة الخطاب القانوني ينبغي أن تهتم بدراسة دور اللغة في التفاعل.

فتحليل الخطاب الجنائي يهتم بالأنشطة التي لها علاقة بجمع وتفسير الأدلة، وطريقة فهم القوانين، وكيفية الاستدلال والاستنتاج.

وبذلك نجد أهمية دراسة البلاغة في تحليل الخطاب القانوني، فهي ضرورية لفهمنا للحالات المختلفة للنص والحديث في النظام القانوني والقضائي. من الذي يتحدث ولمن يتحدث وأين ومتى ولماذا، كلها عناصر سياقية هامة ضمن العديد من الظروف والأنشطة المختلفة المعنية. .

فاللغة القانونية لا يمكن فهمها بسهولة، وهي تعتمد على التفصيل ليكون النص واضحا،ومن ثم تكون الجمل التوضيحية والتفصيلية أدوات لجلب الدقة والوضوح والشمولية وإزالة اللبس، فالنص القانوني محصن ضد القراءات المضادة من قبل بعض المحامين الماهرين.

فمما يميز اللغة القانونية أنها:

1- يكثر بها استخدام بعض الأفعال مثل ( يجب، ينبغي، يجوز) التي تفصل بين الالتزام وحرية التصرف.

2- استخدام الكلمات الدالة على العموم (كل، أياً كان) والأسماء العامة مثل (مركبة، شخص) التي تساعد في

3- الدقة الدلالية للمعنى.

4- انتقاء بعض العناصر النحوية والمعجمية. لتحديد الكلمات القانونية أو الكلمات التي تستخدم بشكل مختلف في النصوص القانونية.

5- احتواء النصوص القانونية على الكثير من الجمل المبنية للمجهول.

6- مصاغة بدرجة محكمة حيث يمكن تطبيقها بشكل عام.

7- ينبغي أن تكون محددة بما فيه الكفاية لتطبيقها على الظروف الفردية.

8- يجب أن تكون مستقرة بما فيه الكفاية لتصمد أمام محك الزمن، بحيث تعالج جميع الحالات على نحو متسق ومنصف.

9- يجب أن تكون مرنة بما فيه الكفاية للتكيف مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

وللحديث بقية

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: